المقالات
حاكمية الفقيه وسلطة بسط اليد
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2249
الثالثة: الحكم الإلهي: {إن الحكم إلاّ لله} و{فالله هو الولي} و{وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ ليطاع بإذن الله}.
الرابعة: رفض الحكم غير الإلهي: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ـ الكافرون ـ الفاسقون}.
الخامسة: الحكام في التشريع الإلهي: {إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} و{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
من هذه المقدّمات الخمس نستنتج أنّ حركة الإنسان كلّها لا بدّ أن تنطلق من الله وتنتهي إليه، والسبب الأساس لذلك هو القصور الذاتي الذي تعانيه البشرية من الوصول إلى التشريع القادر على تحقيق آمالها وتطلّعاتها من دون الإستناد إلى القدرة الإلهية الخالقة والمبدعة.
ولهذا كان تحديد الله عزّ وجلّ للشريعة التي يريد الإنسان أن يطبّقها في حياته، وكان تحديد الحاكم والولي من عند الله عزّ وجلّ بما يشمل كلّ العصور والمراحل في الحياة الإنسانية حتّى لا يكون هناك في أيّة مرحلة فراغ من هذه الناحية بحيث تؤدّي إلى الضياع والإنحراف.
وعندما نحاول أن نصوغ الآيات السالفة الذكر في المقدّمات نجد عناوين ثلاثة رئيسيّة هي ـ البرنامج "العقيدة والنظام ـ الأمّة ـ القيادة" والله سبحانه قد تكفّل مباشرة ببيان القوانين الرئيسية ـ البرنامج ـ القيادة، وأمّا الأمّة فإنّ وظيفتها هي الإقتناع بالبرنامج ثمّ الإمتثال لأمر القيادة الإلهية حتّى تصل إلى الأهداف المرسومة وفق هذا المخطّط التوجيهي العام. فأمّا مفهوم ـ البرنامج أي "العقيدة والنظام" فهذا قد شرحه القرآن الكريم والسنّة النبوية وأحاديث الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، فمن القرآن قوله تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} و{ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، وعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) :(الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل).
وأمّا مفهوم ـ الأمّة ـ فهو كما يتّضح من القرآن الكريم وسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحاديث المعصومين(عليهم السلام) أنّه شامل لكلّ من أدّى الشهادتين والتزم الإسلام نهج الحياة على المستوى العقائدي وعلى المستوى العملي والتطبيقي من دون نظرٍ إلى الجغرافيا واللون والعرق واللغة والنسب وغير ذلك من الفوارق التي تنقسم إليها الناس، لأنّ هذه الفوارق لا دخالة لها في انطباق عنوان المسلم على أيّ واحدٍ منهم، وبالتالي صيرورة هذا الفرد واحداً من أبناء الأمّة الإسلام، وهذا المعنى القرآني للأمّة له منفعة كبيرة عند البحث في مسألة الولاية على الأمّة ومن هو الولي كما سوف يتّضح، ومن آيات المقدمة الأولى يتّضح هذا المعنى بشكلٍ لا لَبسَ فيه ولا غموض، وكذلك نرى التعبير القرآني عن أمّة الإسلام :{كنتم خير أمّةٍ أُخرجت للناس...} و{كذلك جعلناكم أمّةً وسطاً...}، وفي قول رسول الله ً(صلى الله عليه وآله وسلم) :(أمّتي أمّة مباركة لا يُدرى أوّلها خير أو آخرها خير) و(بشّر هذه الأمّة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض) و(ما أُعطِيت أمّةٌ من اليقين أفضل ممّا أُعطيت أمّتي).
وأمّا مفهوم القيادة وهو مجال حديثنا في هذا البحث فنقول قبل كلّ شيء "إن هناك أصلاً أولياً لا بدّ من تثبيته والإنطلاق منه، لأنّه المقياس العام الذي يحدّد لنا القيادة التي قامت الأدلّة على وجوب متابعتها وطاعتها وعدم جواز مخالفتها فيما تأمر وتنهى، وهذا الأصل هو (أنّه لا ولاية لأحدٍ على أحد)".
وهنا بعد قيام البراهين والأدلّة على وجود الله ووحدانيته تثبت الولاية لله، ثمّ بعد أن بعث الله النبيين والمرسلين لهداية البشر وزوّدهم بالشرائع والسنن جعل لهم ولاية أيضاً، ثمّ بعد ثبوت الولاية لنبينا الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت الولاية للأئمة (عليهم السلام) بالنص القرآني وبنص الأحاديث الكثيرة الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إجمالاً وبالتفصيل، وإلى هذه النقطة لا خلاف من أحدٍ من الفقهاء في ثبوت الولاية للمعصومين (عليهم السلام) في جانبيها التشريعي والتكويني، والآيات الخمس في المقدّمة واضحة في هذا المجال.
والكلّ يعلم أنّنا نعيش اليوم مرحلة "الغيبة الكبرى" للإمام الثاني عشر المهدي المنتظر(عج)، بعد "الغيبة الصغرى" التي تولّى النيابة فيها أربعة سفراء للإمام(عليه السلام) كانوا الواسطة بينه وبين شيعته حتّى يعتادوا على فكرة غيابه عن أبصارهم من جهة، وحتّى يتعوّدوا الرجوع إلى الفقهاء في شؤونهم وقضاياهم، وأخذ معالم دينهم عنهم، ولذا عندما استقرّت هذه السيرة على امتداد ثلاثة أرباع قرن، لم يعيّن الإمام سفيراً خامساً، وكان هذا إيذاناً وإخباراً غير مباشر ببدء مرحلة الغيبة الكبرى.
والقيادة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالنظام والحكومة التي لا بدّ منها للناس في كلّ عصرٍ ومكان، والحكومة ضرورة ثابتة وحاجة حقيقية، وتكفي نظرة إجمالية على التاريخ الإنساني العام حتّى نرى صدقية هذا التعميم حيث لم يخلُ مجتمع بشري حتّى ولو كان بدوياً من وجود الجهاز الحاكم الذي يدير أموره وشؤونه، ولاختصار البحث في هذه النقطة نختار النص التالي لأمير المؤمنين(عليه السلام): (هؤلاء يقولون – الخوارج- لا إمرة إلاّ لله، وأنه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلّغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتّى يستريح بر، ويستراح من فاجر،) وقال (عليه السلام) أيضاً: (والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يُقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدأو الشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقّه ويحفظ أطرافهم).
إلى هنا نجد أنّ "الولاية للفقيه" في زمن الغيبة الكبرى أمرٌ لا مفرّ منه لأنّه الإستمرار لولاية الإمام المعصوم وفق النصوص الكثيرة الواردة في هذا المجال ومن أهمها "التوقيع" الصادر عن الإمام الحجة(عج) والذي جاء فيه: (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله) ومقبولة عمر بن حنظلة الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام): (...ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ، والراد علينا رادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله).
وبناء للإستقراء لموارد إعمال الولاية للفقيه حسبما وردت في مواضع متفرقة من أبواب الفقه، يمكن القول بأنّ تعريف ولاية الفقيه هو: (سلطنة جعلية على المجتمع أو الفرد بما يرجع إلى الأمور العامّة ذات المنفعة المشتركة).
وأمّا حدود الولاية للفقيه فهي تشمل كلّ مناحي الحياة، وسلطة الفقيه في جانبها الإجرائي لا تختلف عن سلطة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة عليهم السلام، وإن كانت هناك فوارق موضوعية واقعية بين المواصفات الذاتية كالعصمة للنبي والأئمة بينما هي مفقودة في الفقيه، وكبعض الأحكام الخاصة الثابتة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تثبت للأئمة عليهم السلام.
ومعنى الولاية العامة للفقيه أنّها تشمل السلطة على القضاء والأمور الحسبية وإقامة الحدود وشؤون الحرب والسلم والإدارة الداخلية والسياسة الخارجية لدولة الإسلام، والدليل على هذه السعة لسلطة الفقيه هي نفس أدلة "ولاية الفقيه" التي لم تقيّد ولايته بأيّ قيدٍ ولم تخصّص مجالاً دون مجال ممّا يعني أنّ كلّ ماله علاقة باستقامة أمور الدولة الإسلامية وسلامة مسيرة الأمّة المسلمة هو من ضمن مسؤوليات الفقيه وداخل ضمن دائرة ولايته.
من هنا نقول بأنّ من يقول بـ"الولاية الخاصة" للفقيه ويقصرها على الأمور الحسبية دون غيرها هو المحتاج إلى الدليل والمؤونة الزائدة لإثبات اختصاص الولاية في ذلك المجال الذي قال به بعض الفقهاء.
وبالرجوع إلى ما قلناه عن عالمية الرسالة ووحدة الأمّة فهذا ينتج عنه أنّه لا يُعقل أن يكون هناك وليان فعليان في وقتٍ واحد للمسلمين، لما لهذا الأمر من مفاسد ومساوئ، والأدلّة على ذلك كثيرة، فمن القرآن قوله تعالى :{لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا}، ومن السنة قول أمير المؤمنين (عليه السلام) :(الشركة في الحكم تؤدّي إلى الإضطراب) وما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) :(تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال(عليه السلام): لا، قلت: يكون إمامان؟ قال(عليه السلام): لا إلاّ وأحدهما صامت)، وعليه فإذا كانت إمامة إمامين فلكلّ واحدٍ منهم نظرة مختلفة في الفهم والإدارة والسلوك وغير ذلك، وفي رواية معبّرة عن الإمام الرضا(عليه السلام) في هذا المجال عندما سألوه عن العلّة في عدم جواز إمامة إمامين في وقت واحدٍ فقال(عليه السلام): (منها: أنّ الواحد لا يختلف فعله وتدبيره والإثنين لا يتّفق فعلهما وتدبيرهما،ومنها أن لوم كانا إمامين كان لكلّ من الخصمين أن يدعو إلى غير ما إليه صاحبه في الحكومة ثمّ لا يكون أحدهما أولى بأن يُتّبع من صاحبه، فتبطل الحقوق والأحكام والحدود، ومنها: أن لا يكون واحد من الحجتين أولى بالنطق والحكم والأمر والنهي من الآخر... وإذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق والأحكام وعُطّلت الحدود وصار الناس كأنّهم لا إمام لهم).
وعليه فإنّ سعة ولاية الفقيه لا تحدّد ببلدٍ معين من بلاد المسلمين بل تشملها جميعاً، بل وتشمل الأقليات الإسلامية المنتشرة في كلّ بلاد العالم، وهذا على المستوى التشريعي والنظري، وأمّا على المستوى العملي فمن الواضح أنّ الولي الفقيه يمكنه إعمال ولايته في كلّ أرض يصل إليها سلطانه بمعنى بسط يده، وبعبارةٍ أخرى تكون الموانع من إعمال ولايته منتفية أو غير قادرة على منعه من ممارسة سلطاته كافّة. وأمّا خارج إطار الدولة الإسلامية فلا شكّ أنّ ولي أمر المسلمين لا يصدر الأوامر العشوائية والإستنسابية، وإنّما يستعين من أبناء تلك البلاد الإسلامية من أجل شرح أوضاعهم ودراستها وتمحيصها حتى تكون قراراته محقّقة للمصلحة ونافية للمفسدة، لأنّ إصدار أحكام من غير الإستناد إلى التقارير والدراسات الموضوعية عن أوضاع المسلمين ستؤدّي حتماً إلى إيجاد حالاتٍ من الهرج والمرج أو الإرباك الذي يؤدّي إلى اختلال وتنازع بينهم أو إيصالهم إلى حالةٍ من التصادم مع مجتمعاتهم بحيث تجعل من حياتهم حياة صعبة ومحفوفة بالمخاطر والإبتلاءات، والذي يؤيّد هذا التوجّه من إعمال ولاية ولي الأمر العديد من الأحاديث مثل: (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) و(حسب المرء...من عرفانه علمه بزمانه)، وهذا التوجّه لا يختصّ بالمسلمين خارج إطار الدولة المحكومة بالإسلام بل يشملها أساساً قبل غيرها.
وأمّا بسط يد الفقيه ضمن حدود دولة الإسلام فلا نعي بذلك أن يكون الولي الفقيه حاكماً استبدادياً، وإنّما يحكم من خلال أجهزة الحكم المتعدّدة التي يمسك كلّ جهاز فيها بقسمٍ من المصالح العائدة للأمّة، إلاّ أنّ كلّ تلك الأجهزة من التشريعية والتنفيذية والقضائية تستمدّ شرعيّة سلطاتها من إمضاء الفقيه الولي لها والإذن لها بممارسة نشاطاتها في إدارة أمور الناس والمجتمع.
والولي الفقيه هو الذي يفصل بين صلاحيات الأجهزة وهو الذي يحكم في النزاعات الحاصلة بينها أحياناً في بعض مجالات التداخل وما شابه ذلك، وهو مع ذلك القائد الأعلى للقوات المسلّحة المكلّفة بحماية الأمن الداخلي والسلم الأهلي وصون الحدود للدولة الإسلامية، وهو الذي يرسم الحدود العامّة للعلاقات السياسية والإقتصادية والثقافية مع الأمم والدول والشعوب وفق مصالح الإسلام والأمّة، ثمّ تتولّى الأجهزة التنفيذية أو التشريعية صياغة كلّ ذلك في خططٍ وبرامج تحقّق ذلك.
ولهذا نرى أنّ قيادة الولي الفقيه آية الله العظمى الإمام الخامنئي دام ظله في هذه الفترة للأمّة الإسلامية ودولتها قد تميّزت بطريقةٍ موضوعية وواقعية في هذا المجال سواء داخل إطار الدول الإسلامية وخارج حدودها أيضاً، وهذا واضح لكلّ متتبّع لحركة الولي الفقيه التي يمكن أن تعطي توضيحات مهمّة ومفيدة عن كيفية إعمال الولي لولايته بعيداً عن الكثير من الإفتراضات النظرية التي قد يحاول البعض طرحها لتصوير عجزٍ أو قصورٍ عند الولي لتبرير تمرير بعض الطروحات من قبيل جواز تعدّد الولي في الأمّة أو من خلال التذرّع بالبعد الجغرافي لإيجاد الذريعة لمثل هذا الطرح الذي رأينا أنّه غير مناسب مع الطرح الإسلامي لوحدة الولاية والولي، وأنّ كلّ تلك الذرائع لا تصمد أمام النقد الموضوعي والبنّاء المبني على الأدلّة النقلية الواردة في الكتاب والسنة، وعلى الأدلّة العقلية الثابتة في هذا المجال.
والحمد لله ربّ العالمين