البُعدُ التبليغي في المنهاج الثقافي
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2533
ولهذا فإنّ الفكر الأقوى والأجدر بالبقاء والأكثر استحقاقاً للحياة، هو الفكر الذي يتعامل مع قضايا الأمّة بواقعية، فلا يعدهم بالحلول السحرية ولا يعجزهم عن إيجادها، وينطلق في تعامله مع الإنسان وقضاياه من خلال موقعيّته المميّزة في هذا الكون، فيحترم هذا المخلوق ويصون كرامته ويحفظ حريته ووجوده بتشريعاته ونظمه، وينظّم العلاقات بين أفراد الإنسان بالطريقة التي تقرّب وتؤالف وتجعل من المجتمع كتلة واحدة متراصّة.
إنّ مثل هذا الفكر الذي ترى الناس نفسها من خلاله، فتحدد موقعيّتها وعلاقاتها وأهدافها، هو الفكر الذي يمكنه أن يتآلف مع البشر، ولا يتعارض معهم، لأنّه لا يحاول أن يفرض عليهم ما لا قدرة لهم عليه، ولا يمنعهم من فعل ما هم قادرون عليه ضمن الحدود التي ينبغي عدم تجاوزها والتعدّي عنها.
من هنا، فإنً هذا الفكر يمكن اعتباره الفكر الأصيل، لأنّه من موقع قوته ومتانته وثباته، لن ينطلق في حركته بين الأمم والشعوب من خلال الخوف والرعب والرهبة من فكر الآخرين،
ولن يحاول أن يفرض نفسه على الناس بقوّة الحديد والنار والإرهاب والبطش، وإنّما يسعى لدخول المجتمعات من باب الإقناع والإقتناع بلا ضغوطات معنوية أو جسدية، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، ليتحوّل في حياة الناس إلى ممارسة تنطلق من الإيمان بذلك الفكر ليشعر الفرد بأنّ إيمانه ذاك هو فعل إبداع من طرف نفسه ولخدمة نفسه، ولينطلق من خلال القناعة الشخصية التي لا شكّ في أنّها تتحوّل بعد ذلك إلى طاقةٍ عاملة منتجة على طريق الوصول إلى تحقيق الأهداف المحدّدة من الفكر الذي آمن به وانطلق منه.
وهذا الكلام لا يعني أن يكون الفكر حالة ترفٍ في عقل الإنسان فقط، لأنّه بذلك يتحوّل إلى تنظير محض لا فائدة منه، لأنّه لا يستطيع أن يتعايش مع الواقع لاستغراقه في النظرية المجرّدة التي تبعده عن الحياة وهمومها ومشاكلها المتعدّدة والكثيرة التفرّعات والجوانب، لأنّ الذي يعطي الفكر الذي تحدّثنا عنه القوّة والقبول هو قدرته على الإمتداد في واقع الأمّة وملامسة حياتها وإيجاد الحلول لآلامها والأفاق أمام آمالها أيضاً.
ولا شكّ بأنّ الإسلام وحده ومن- موقع المقارنة والتمحيص- هو الذي يحمل كلّ تلك المعاني في ذاته، والقادر على أن يضمن للإنسانية المعذّبة سعادتها وهناءها، والذي يزيد هذا الأمر تأكيداً ورسوخاً، هو الهزائم المتعدّدة التي حلّت بالأمّة الإسلامية عبر تاريخها الطويل، ومع هذا لم يسقط الإسلام ولم ينهزم ،وكانت الأمّة تخرج كلّ مرة من تلك الهزيمة منتصرة على عوامل الضعف في نفسها ثمّ منتصرة على الآخرين، ولهذا استمرّت هذه الأمّة من خلال ارتباطها بالإسلام أن تبقى أمة حية، مع كثرة المؤامرات التي تعرّضت لها، مع أنّ هذه الهزائم لفكر آخر أو عقيدة أخرى لسقطت واندثرت، كما يحصل الآن للعقيدة الشيوعية التي وصلت إلى مرحلة النزاع الأخير من حياتها، وها هي تلفظ أنفاسها الأخيرة لتدفن مع العقائد السابقة عليها، ولتصبح جزءاً من تراث الإنسانية المليء بأمثالها، ولتوضع في متحف التاريخ بتعبير الإمام الراحل " قده".
هذه المقدمة الطويلة، كان لا بدّ منها لاستشعار القوّة المطلوبة في مواجهة الواقع القاسي والمرير الذي تعيشه الأمّة الإسلامية في الوقت الحاضر، الذي تمرّ فيه بأزمة كبيرة، قد يشعر المسلمون خلالها بضعفهم وعجزهم عن مواجهة كلّ هذا الواقع المؤسف الذي وصلت إليه هذه الأمّة، مع أنّ السبب الذي أوصلها إلى هذا المستوى هو عدم إعطاء الإسلام كفكر وعقيدة ومنهاج حياة الدور المطلوب في حياتها، وهذا ممّا لا شكّ فيه طرفة عينٍ أبداً، مع أنّ الإسلام حقّق في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد الإنتصار الكبير للثورة الإسلامية في إيران قفزاتٍ نوعية استطاعت أن توجد جواً من الوعي وحالة من الثقة بقدرة الإسلام على دخول العصر من الباب الواسع،ألا إنّنا وللأسف الشديد لم نعرف كيف نطوّر هذه الإيجابية الكبيرة، ونستفيد منها لتحويلها إلى واقعٍ يتنامى ويرتقي، لافتقارنا ربما للطاقات الفكرية القادرة على تحويل وهج ذلك الوعي إلى مناهج إسلامية متطورة، تتمكن من النفاذ إلى واقع الأمّة، لتكون البديل المناسب عن كلّ الظروف والأوضاع التي تتحكّم بمقدّرات الأمّة ومصيرها.
لقد أصبح الإسلام حالةً في العالم الإسلامي ، لكنّها غير منضبطة، وتعاني من ما يشبه " العشوائية" في الطرح على المستويات الدينية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، ممّا قد يفقدها الكثير من القدرة على استغلال الأوضاع لتطوير نظرتها وخططها وبرامجها وحركتها للنفاذ إلى أعماق الأمّة لتستقر في قلوب أبنائها وعقولهم.مع أنّنا بالرجوع إلى المصادر الأساسية للإسلام ، نرى التركيز الشديد على ضرورة إبداع" المسلم الرسالي الملتزم والمسؤول" القادر على حمل همّ الإسلام، وتحويل ذلك إلى طاقة منتجة في واقعها ومحيطها، وليس الكمّ العلمي الملتقط من هنا وهناك هو وحده الكفيل بإيجاد " الشخصية الإسلامية" التي تستطيع أن تلعب الدور التغييري المطلوب إلهياً وإسلامياً في المجتمع، كما هو حال الكثير ممّن يتصوّرون أنّ عملية الوعي تحصل من خلال تحويل المسلم من مواقع الجهل إلى مواقع العلم ليتحقّق المطلوب على مستوى الشخصية الإسلامية، لأنّ العلم هو المدخل الذي يفتح الأبواب أمام المسلم للإنطلاق من خلال ما يزرعه من قواعد وأسس تزوّد الإنسان بالضوابط التي تجعله قادراً على تحديد الخطأ من الصواب في المجال النظري، وعلى قاعدة تحويل المعرفة إلى عملية وعي رسالي متكامل في النفس البشرية تسعى لخدمة الأهداف التي تريد الوصول إليها عبر إقناع الأمّة بسلامة فكرها وحضارتها وقدرتها على صنع الحياة بالنحو الذي يؤمن للإنسان كلّ الأبعاد بطريقةٍ متناسبة مع الإرادة الإلهية.
إنّ عملية الوعي تلك لا يمكن أن تتحقّق بشكلٍ نظري بحت، لأنّها مرتبطة بالكثير من مفرداتها إلى الساحة القائمة التي هي الميدان الأساس لتحصيل ذلك، لأنّ المعرفة النظرية وحدها لا تكفل تحصيل مثل هذا الوعي، الذي يحتاج إلى نحوٍ من الإحتكاك المباشر بالساحة الموجودة والتعامل معها، لتعميق ذلك الوعي من خلال الحركة الميدانية المباشرة التي تعين الإنسان الساعي لتحصيل ذلك من فهم مواطن الضعف والقوّة في حركته وبالتالي في المجتمع حتّى يطوّر من عملية الوعي المؤثّرة في تطوير وسائل وطرق التفعيل للحركة المنتجة والمؤثّرة بين أوساط الناس والأمّة، التي ينتمي إليها وتنتمي إليه والتي هي محور اهتماماته ومصبّ حركته.
وتلعب طريقة أداء ذلك الوعي دوراً كبيراً ومؤثّراً جداً من خلال الإبراز الجيّد والإطار الجميل الذي يستوعب الناس ويقرّبهم إليه بالسلوك الأخلاقي الذي يتعالى فيه الإنسان عن الأمور الصغيرة والهفوات التي تصدر عن الناس عادة، لأنّ سمو الهدف وعظمة النتائج المتوخاة ينبغي أن تكون ملحوظة عند هؤلاء الذين يحملون الوعي ويريدون نشره وبثّه في الأوساط وهذا النحو من السلوك قد ورد التأكيد عليه بشكلٍ كبير جداً في المصادر الأساسية كالقرآن والسنة، لانها تجمّل المظهر الذي يبرز فيه الإنسان الواعي مصداقية الإنتماء وحقيقة الإلتزام ومقدار استعداده للبذل من نفسه في سبيل الأهداف التي يؤمن بها ويريد إيصالها.
يُضاف إلى ذلك أنّ عملية الوعي كلّها لا يمكنها تأدية المهام المطلوبة منها، إذا لم يكن هناك استعداد للجهاد في سبيل المبادئ والأهداف ولم يكن هناك استعداد للدفاع عنها بوجه كلّ المشكّكين والمنحرفين الذي يسعون في المقابل لمنع هؤلاء من التغلغل والنفوذ بين أبناء الأمّة، وهذا الأمر قد ورد التأكيد عليه في القرآن والسنة بشكلٍ كبيرٍ جداً من الناحيتين الترغيبية والترهيبية، لأنّ هذه الطريقة القائمة على الجرأة والشجاعة والإقدام في طرح الإسلام ضمن حركة الواقع، والثبات على ذلك من دون التراجع أو التنازل أو الرضوخ تحت وطأة الواقع المنحرف مهما كان قاسياً، هو الذي يفسح المجال أمام الأمّة لكي تمتلك نفس المواصفات أيضاً التي يبثّها الأفراد الملتزمون من خلال جرأتهم في التزام الإسلام وعدم إنهزامهم أمام فكر الآخرين وقوّتهم.
وباكتمال مرحلة الوعي الرسالي، تكتمل الشخصية الإسلامية المستندة في عموم حركتها إلى الله سبحانه وتنطلق متوكّلة عليه، بعد معرفة كلّ الواقع الذي يعيش فيه ليأخذ طريقه في العمل من أجل الإسلام بالنحو الذي تقتضيه الحالة القائمة فعلاً التي قد تكون مرحلة صراع فكري وسياسي أو إجتماعي واقتصادي وسلوكي بل قد تكون المرحلة مستدعيةً للجهاد وبمعناه القتالي العسكري في أحياءٍ كثيرة عندما يحاول الآخرون فرض إرادتهم بالقوّة والإكراه.
إنّ كلّ ما سبق يقتضي منّا إعداد المناهج الثقافية التي تلحظ كلّ تلك الخصائص والمواصفات المطلوب توافرها في الشخصية الإسلامية لأنّ ما نراه في ساحتنا حالياً أنّ المسلم الرسالي كما تحدّثنا عنه إنّما يوجد من خلال الجهد الشخصي الذي يبذله الإنسان الملتزم للوصول بنفسه إلى ذلك المستوى، ولم يكن من ضمن مشروع لبناء هؤلاء الأشخاص مع أنّ القضية من الأهمية بالنسبة التي لا يمكن تركها على عاتق الفرد كفرد، وبحيث لا يمكن للفرد بجهده الذاتي أن يرتقي بهذه المهمّة الجليلة إلى الحدّ الذي يجعلها تحقّق الفوائد منها إلاّ بتكاتف الجهود وتلاحم القوى من أجل توحيد الطاقات المبدعة والمنتجة في هذا المجال الحيوي والضروري للأمّة في مراحل جهادها وخاصة في هذه المرحلة التي انفتح فيها الإسلام على العالم ، وصار رأس الحربة في الحركة الجهادية الرافضة التي تستلزم تثبيت مواقع الحالة الإسلامية وتحصينها للإنطلاق منها بخطى قوية نحو المواقع المتقدّمة أكثر في حركة الصراع من الهيمنة الإستكبارية التي تسعى لتضييق الخناق أمام كلّ من يعرقل حركتها المتّجهة نحو السيطرة على مناطقنا الإسلامية والإستيلاء عل خيراتها من خلال الأنظمة الهشّة التي تحكمنا من مواقع تبعيتها وسهرها على تنفيذ خطط الإستكبار العالمي وعلى رأس ذلك أمريكا التي تصبو إلى زعامة العالم نظراً لما تمتلكه من أسباب القوّة وسقوط الكتلة الشيوعية التي كانت في الموقع المنافس لها على الزعامة والمؤمّل للإسلام أن يكون البديل عن الشيوعية لقيادة الخطّ المقابل في مواجهة الإستكبار العالمي بزعامة أمريكا.
ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على المناهج الثقافية الموجودة، نرى أنّها تعاني من ثغراتٍ كبيرة يمكن حصرها في ما يلي :
أولا"- عدم التجانس الموضوعي في المناهج كونها لم تنشـأ من ضمن تصوّر واضح المعالم و الأبعاد .
ثانيا"- إقتصارها على معالجة بعض نواحي الفكر الإسلامي فقط ، و نعني بذلك التركيز على الفقه و الأخلاق و السيرة في الغالب ، و إغفال الجوانب الأخرى الداخلة في تكوين الشخصية الإسلامية .
ثالثا"- الوقوف عند معالجة الناحية العلمية فقط من جانب تلك المناهج ،من دون صياغة المناهج المناسبة للنواحي الروحية و التربوية و الأخلاقية ، بل تركت هذه النواحي على عهدة الأفراد أنفسهم .
رابعا"- عدم تطوّر المناهج منذ فترات طويلة نسبيا"، من أخذ التطوّرات الحاصلة بعين الإعتبار ، و هذا ما نلحظ في اللغة المعقّدة غير الميسّرة للفهم في غالبية المناهج ، و التي ما زال البعض مصرّا" عليها، مع أنّ الزمن قد تجاوزها إلى مرحلة الخطاب الممنهج ذي المنهجية الواضحة و الميسّرة .
خامسا"- عدم مراعاة الأصول السليمة في طريقة عرض المناهج الثقافية في الأمّة ، حيث نعاني في هذا الجانب من النقص الكبير ، فضلا" عن عدم الخبرة في العرض عند الكثير من المتصدّين لوظيفة الإيصال ،ممّا يفقد القدرة على التأثير بالدرجة المطلوبة .
من هذا الكلّ ، ندخل إلى النقطة المهمّة في هذا البحث و هي كيف نراعي النواحي التبليغية عند صياغة المنهاج الثقافي و ما هي الوسائل المطلوب إعتمادها للإيصال و التأثير و التغلغل في أوساط الأمّة من أجل إيجاد الشخصية الإسلامية المسؤولة و الواعية .
و لاشكّ في أنّ التفاوت بين الأفراد من حيث الإستعدادات و القابليات متحقّق وواقع ولا يمكن إنكاره ، وكذلك الظروف الموضوعية المحيطة تلعب دورا" مهما " في ذلك أيضا"، إلاّ أنّ هذا الإختلاف ليس عائقا"لأنّ المنهاج الثقافي المطلوب صياغته لا بدّ من أن يلحظ هذه المستويات و يصوغ لها برامجها المتناسبة معها كمّا" و نوعا" .
و يستند المنهاج الثقافي إلى ركائز متعدّدة لا بدّ من تبيانها ليكون مستمرّا" و منتجا" و مؤدّيا" للأغراض المرادة منه ، و هذه الركائز هي :
الركيزة الأولى : فهم الواقع القائم فهما" موضوعيا"، باعتبار أنّ المقدمة التي لا بدّ منها ليكون المنهاج موافقا" للحالة الموجودة من حيث الطرح و العلاج و قد ورد في الأحاديث ما يشير إلى هذا ، كما في الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): ( ينبغي للمسلم أن يكون مالكا" لنفسه ، عارفا" بأمور زمانه ).
الركيزة الثانية : التقسيم الموضوعي لفئات المجتمع، حتّى تتمّ صياغة برامج المنهاج بالنحو المطابق لكلّ مرحلة من المراحل المنسجمة مع القابليات و الإستعدادات عند الأفراد .
الركيزة الثالثة : أن يتبنّى المنهاج الثقافي على القواعد الأساسية للإسلام ، و تصاغ بالشكل المتوافق مع كلّ مرحلة منه و هذه القواعد تتحدّد في ثلاثة أمور : أسس الفكر الاسلامي و أهداف الإسلام و الطرق و الوسائل في ما بينهما ،لأنّ هذه القواعد الأساسية هي المطلوب من المنهاج الثقافي توضيحها و كشف أبعادها للمسلمين حيث تكون حركتهم منسجمة مع القواعد و محقّقة لها في الواقع .
الركيزة الرابعة: طريقة الصياغة و العرض في كلّ مراحل المنهاج الثقافي ،التي ينبغي أن يراعى فيها الوضوح و الإبتعاد عن التعقيد أن تراعى عملية النصح و الإرشاد ، لأنّ المطلوب من المنهاج تقريب المجتمع إلى الإسلام و ليس الإبتعاد عنه ، وقد أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جابر بن عبد الله الأنصاري في كلام: (يسّر و لا تعسّر و بشّر و لا تنفّر)، و كذالك قول الله سبحانه و تعالى: {أدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة و الموعظة الحسنة }،أو{و جادلهم بالتي هي أحسن}، و غير ذلك من النصوص .
الركيزة الخامسة :ترابط العلم و العمل، و هذه المسألة حسّاسة جداً و من أهم الركائز التي يجب أن يتمّ التشديد عليها في المنهاج،لأنّ العلم يدعوإلى العمل فإن
أجابه و إلاّ ارتحل عنه.
و الذي نريد قوله من خلال ذكر هذه الركائز هو:( ملاحظتها بطريقة متناسبة مع كلّ مرحلة من مراحل المنهاج الثقافي المتكامل تلعب دورا" في صياغةالشخصية الإسلامية و كيفية تحمّلها لمسؤولياتها إذا تمّت رعاية تلك الركائز في مرحلة العمل و التطبيق و الممارسة مع النفس و مع المجتمع على حدٍّ سواء).
و بملاحظة تلك الركائز، و بملاحظة القابليات الموجودة عند الأفراد بشكلٍ عام ،نحصل على اربع مراحل للمنهاج الثقافي:
المرحلة الأولى: و هي التي تتضمن تعريفا" أوّليا" بالإسلام في مختلف فروع المعرفة الإسلامية ، مع التركيز بنحوٍ خاص على العلوم التي لها الأبعاد العملية المطلوبة ضرورة من المسلم الملتزم،كون هذه المرحلة هي مرحلة تمهيدية التي لا بدّ من دخول الجميع فيها بأيّ نحوٍ من الأنحاء، و المسلمون مطالبون بتحصيل هذه العلوم لأنّها هي التي تساعدهم على إبراز إسلامهم و إظهار شخصيّتهم الإسلامية في المجتمع عبر مظاهر التديّن في العبادة و السلوك و العلاقات .
و هذه المرحلة لها فائدتان مهمّتان ،الأولى هي التي ذكرناها، والثانية هي التمهيد لدخول المرحلة الثانية لمن يملك القابلية أو أنّ الظروف تساعده لتحصيل مستوى أرفع من المعرفة والإدراك بالإسلام و علومه المختلفة.
المرحلة الثانية: و هي التي تتضمّن تعميق المفاهيم الإسلامية عبر وسائل تدعيم و تركيز المعرفة في الجوانب الأساسية التي يحتاجها المسلم لتعميق إلتزامه و التقيّد بالضوابط من شتّى المجالات المطلوبة لحركة المسلم الملتزم في مجتمعه و محيطه و الفائدة الأساس لهذه المرحلة هي إبداع الشخصية الإسلامية القادرة على تحديد طرق التعامل مع كلّ الأحداث القائمة و الأوضاع الموجودة ، و القادر على القيام بمهمة الإرشاد و التبليغ في مرحلته الأولى التي سبق الحديث عنها ، و الفائدة الثانية هي التمهيد للمرحلة الثالثة القادمة.
المرحلة الثالثة : و هي التي تتضمّن البرامج لتأهيل الفئة القادرة على فهم الإسلام بدرجة عالية تؤهّلهم لأن يكونوا المدرسين المبلغين والعاملين للإسلام على مستوى الحركة و الإنتاج و تنمية حالة الإستيعاب و الإستقطاب في الأمّة، و الفائدة لهذه المرحلة هو دمج أفرادها في وسط الأمّة لتعميق المعرفة من خلال التجارب المتنوعة و المتعدّدة و الإحتكاك بالمشاكل المتعدّدة الموجودة في ساحات العمل الإسلامي و العقبات و العراقيل التي تعترض طريقة العمل ونحوه.
و الفائدة الثانية هي التمهيد لبعض أفراد هذه المرحلة للإرتقاء إلى المرحلة اللاحقة التي تتضمن البرامج الأرفع من مجالات المعرفة الإسلامية .
المرحلة الرابعة: و هي التي تتضمّن برامج ذات المستوى الرفيع من البحث و الإستدلال و طرق التفكير المختلفة ، ومقارنة كلّ ذلك بالفكر غير الإسلامي لإنتاج الأشخاص اللائقين لحمل الإسلام إلى العالم كلّه ، إنطلاقا" من عالمية الرسالة و عمومية خطابها لكلّ الشعوب و الأمم ، والفائدة من هؤلاء هو مراقبة الساحة الإسلامية لاستكشاف محلّ التطوّرات الإيجابية أو العوامل السلبية واجتراح الحلول لتدعيم و تفعيل الإيجابيات ، والسعي لوضع الحلول لمعالجة النواحي السلبية التي تعيق المسيرة ، باعتبار أنّ فائدة المرحلة الثالثة ثمّ الدخول في المرحلة الرابعة تجعل من هؤلاء ، أو من المفترض أن تجعل من هذه الفئة هي القادرة على تحمّل هذه المسؤولية .
وهذا التقييم هو بملاحظة القابليات لدى الأفراد المسلمة و الكلام فيها مقصورٌ على النواحي العلمية ، أي نقل المسلم من حالة الجهل إلى حالة العلم و المعرفة بالإسلام .
وإلى جانب المنهاج الثقافي الذي يراعي الناحية العلمية البحتة،لا بدّ من صياغة منهاج آخر يتضمّن مراحل مختلفة بقدر المراحل التي ذكرناها، ويراعي فيه النواحي الروحية والتربوية والسلوكية بالمقدار المناسب مع كلّ مرحلةٍ من مراحل المنهاج الثقافي العلمي للبحث، للأهمية الكبرى لهذا الجانب الروحي والتربوي في التأثير الناتج عن الحركة الجهادية التي يقوم بها الفرد في وسط محيطه ومجتمعه.
وهذا المنهاج التربوي لا بدّ من العناية القصوى في الإهتمام به، لتحديد الحاجيات المناسبة مع كلّ مرحلةٍ من المراحل، ولأنّ الفارق بين القابليات عند الأفراد في هذا المجال والقابليات العقلية مختلف بنحو كبير، إذ نجد عالماً كبيراً على المستوى العلمي المحض لكنّه قد يكون غير متمتّع بالروحية المعنوية المتناسبة، أو يكون في الخط المعادي للحالة الإسلامية الصحيحة، وقد نجد العكس تماماً عند أفراد آخرين، يملكون قابليات محدودة للنمو الفكري، لكنّهم في الجوانب الروحية والمعنوية والسلوكية يتميّزون بقدرٍ كبير يجعلهم أقوى وأشد تأثيراً.
والمنهاج بمراحله الأربع يشمل الفرد المسلم في بعضها ويشمل الأمّة في البعض الآخر، فالمرحلة الأولى لا يمكن ادعاء اختصاصها بجماعة دون أخرى أو فردٍ دون آخر لأنّ الملحوظ فيه هو عنوان المسلم المطالب بإلتزام إسلامه عملياً، وهذا الإلتزام يستدعي المعرفة المحقّقة للعنوان في واقع الحياة.
أمّا باقي مراحل المنهاج فإنّها ناظرة إلى الفرد بشكلٍ أولي ، وإن كانت المرحلة الثانية تحمّل القابلية لاستيعاب كميات كبيرة من الأفراد يشكّلون تيارا في جسد الأمّة ليمارسوا دور التوعية من خلال حملهم للهمّ الإسلامي الذي ينقلونه إلى الأمّة بالتّبع.
وأمّا المرحلة الثالثة والرابعة، فمن الواضح أنّهما لن تكونا للأمّة، لأنّ ضرورة الإستمرار في الحياة تقتضي أن تنصرف الناس إلى تأمين أمور حياتها ومعاشها، ممّا يضيّق أمامها الأوقات ويقلّل الظروف الموضوعية التي تحتاجها المرحلتان السعة في الوقت، ولهذا فإنّهما ناظرتان إلى الفرد أولا وبالذات، لينتقل هؤلاء الأفراد بعد تمام الإستعداد للدخول في ميادين الجهاد والسعي في عملية تنمية الوعي عند الأمّة بالسبل المحقّقة لذلك.
وتبقى نقطة أخيرة لا بدّ من الإشارة إليها وهي من الأهمية بمكان، باعتبار أنّ المنهاج وحده ليس الحل الكفيل للوصول إلى النتائج المطلوبة، وإنّما الطريقة والنهج والأساليب التي يُصاغ بها المنهاج هي التي تحدّد صلاحيته وقابليته للتماشي مع التطوّر الحاصل على هذا الصعيد، ومن الضرورة بمكان اعتماد (مبدأ المنهجية) في العرض والتحصيل في كلّ مراحل المنهاج، لأنّ الطريق المتعارف في زماننا والتي يمكنها مخاطبة المجتمع بكلّ فئاته هي هذه الطريقة لكن مع رعاية القواعد الإسلامية في هذا المجال كما بيّنا ذلك بنحوٍ جزئي في ما سبق.
والحمد لله ربّ العالمين