طاعة أولي الأمر في الإسلام 18
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 1997
وهذا يعني أنّه لا بدّ من الوسيلة التي تعين الحاكم على تحديد الواقع بدقة من خلال الدراسات الموضوعية عن الأمة وأحوالها في الشؤون المختلفة حتى يكون الحكم الصادر عن الولي منسجماً مع الأهداف والتطلّعات وموافقاً للأغراض والمقاصد الشرعية المطلوب من حاكم المسلمين الحفاظ عليها وهي (دينهم وأنفسهم وعقولهم ونسلهم ومالهم).
والوسيلة التي يقرّها الإسلام في هذا المجال هي "الشورى" التي تقوم على الحوار وتبادل الآراء للوصول إلى الأفضل والأحسن، وقد ورد في القرآن حولها ما يلي من الآيات: {... والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم} و{شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}، وكذلك ورد في السنة والشريعة الكثير من الأحاديث الموضحة للشورى ولأهميتها في صنع الرأي والقرار والتوجّه، لأنّ الشورى تختصر في حيثياتها آراء الناس وتوجّهاتهم، ومن الأحاديث ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أراد أمراً فشاور فيه وقضى، هُدِيَ لأرشد الأمور)، وكذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من استبدّ برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها).
وكذلك نجد أنّ الأحاديث توضح مواصفات المستشارين بحيث تكون مشورتهم باباً للطمأنينة من خلال عوامل الثقة الموجودة فيهم والتي تجعل من آرائهم مورداً للقبول، ولذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):(خير من شاورتَ ذوو النهي والعلم وأولوا التجارب والعزم) و(شاور في أمورك الذين يخشون الله ترشد) ،وعن الصادق (عليه السلام) :(ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قِبَلَ له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع؟ ثمّ قال (عليه السلام) أمّا أنّه إذا فعل ذلك لم يخذله الله بل يرفعه الله ورماه بخير الأمور وأقربها إلى الله)، ولهذه الأمور نجد النهي عن استشارة غير المؤتمن أو التحذير من مثل هذا على الأقل كما في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):(من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشده فقد خانه) و(من غشّ المسلمين في مشورة فقد برئت منه).
إلا أنّ الشورى لا تجعل آراءها ملزمة للولي الفقيه كما في الحديث عن ابن عباس:(لمّا أنزلت "وشاورهم في الأمر" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :أمّا إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتي. فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعدم غياً).
وعليه فالشورى مسْتحسنة ومستحبة ومرغوب إليها، إلا أنّها لا توجب على الولي الفقيه الأخذ بها بحيث تجعله مسلوب الإرادة والإختيار في اتّخاذ القرار، وإن كان العقلاء لا يخالفون رأي من يستشيرونهم عندما يجتمعون على رأيٍ واحد إذا كانوا من أهل الخبرة والإختصاص والعلم في المجال الذي يستشارون فيه كما هو المطلوب منهم.
وما يمكن فهمه من آيات الشورى أنّها مطلوبة بالتأكيد عندما يرتبط الأمر بالقضايا العامة للأمة الإسلامية، لأنّها في الآية الأولى التي سبق أن ذكرناها وردت في سياق مواصفات المؤمنين العامة التي امتدح الله المسلمين بها، وهذا يعني أنّ الشورى هي من الصفات التي إذا استند المسلمون إليها على مستوى قضاياهم العامة والمصيرية يمكن أن تنتقل بهم إلى المستوى الراقي من درجات التكامل الإنساني، لكن لا على أن تكون الشورى قائمة مقام ولي الأمر وتلغي دوره وفاعليته في اتّخاذ القرار، وإنّما يبقى له الرأي الأول والأخير بعد أخذ المشورة في إصدار الحكم المتوافق مع مصلحة الأمة أو الدافع للمفسدة عنها.
فوظيفة الشورى إذن هي نقل آراء كلّ الفئات والجماعات في الأمة من خلال الأشخاص المؤهّلين من ذوي الخبرة والكفاءة من أجل تحقيق التفاعل المطلوب بين القيادة والأمة، ولكي تكون المشاورة سبيلاً من سبل الإطمئنان إلى أنّ الأحكام الصادرة عن مقام ولي الأمر منسجمة مع واقع المجتمع الإسلامي ومحقّقة لآماله وطموحاته.
فالشورى إذن بشكلٍ مختصر يمكن أن نعتبر أنّ من فوائدها المهمة أن تنفي صفة الحاكم المستبد من أذهان المسلمين خاصة وأنّ الولي قد اشترط الإسلام فيه شروطاً تساعد أيضاً على نفي تلك الصفة أيضاً.
والحمد لله ربّ العالمين .