حرمة التكسّب بالأعمال المحرّمة
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2935
بينما في الإسلام وهو الدين الذي كما يتضمّن البعد الدنيوي المذكور، يتضمّن بعداً آخر وهو أهم بنظر هذا الدين ولا بدّ من أخذه بعين الإعتبار في كلّ المجالات، وبالخصوص في مجالات العمل والتكسّب لارتباط ذلك بنواحٍ متعدّدة من حياة الإنسان، وهذا البعد هو البعد الأخروي ... الذي يعني أنّ الإنسان يعيش في الحياة الدنيا، بينما العيش الحقيقي له هو في المقر الأبدي الدائم وهو " الآخرة " وعلى المسلم أن يأخذ هذا البعد بعين الإعتبار عندما يقرّر أن يلتحق بعملٍ ما من أجل تحصيل الكسب ولقمة العيش.
ثمّ إنّ الإنسان المسلم تارةً يكون المجتمع الذي يعيش فيه مجتمعاً إسلامياً متكاملاً من حيث النظام والقوانين والحكم والإدارة، وهنا سوف تكون مجالات العمل منحصرة بالنحو العام بنوع الأعمال المحلّلة، لأنّ من أهم وظائف الحكم الإسلامي منع التكسّب بالمحرّمات على اختلاف أنواعها، وهذا ما يجنِّب مشكلة التكسّب بالحرام بسبب انسداد هذا الباب بالكامل.
وتارةً يكون هذا المسلم مبتلى بالعيش في مجتمعٍ تغلب عليه الصفة غير الإسلامية، أو في مجتمعٍ إسلامي الهوية، إلاّ أنّ هذه الهوية غير منضبطة من جهة النظام والحكم والإدارة ممّا يفسح المجال أمام الأعمال المحرّمة لكي تنشط وتأخذ مكانها في الدورة الإقتصادية والإجتماعية لذلك المجتمع بسبب عدم التزام نظام الحكم فيه الموازين والضوابط الإسلامية في هذا المجال.
وفي مثل هذه الحالة قد يصطدم الإنسان المسلم في مثل هذا المجتمع بالإبتلاء بالعمل المحرّم الذي يُنتج كسباً محرماً، فماذا يفعل عندئذ؟ (هل يعمل في تلك المجالات بإرادته واختياره مع إمكانية تحصيل الإكتساب بأعمال محلّلة؟ أو هل يحرم عليه الدخول في تلك المجالات؟ أو أنّ العمل بتلك المجالات ينحصر فقط في حالات الضرورة الحياتية، أو في حالات انحصار المجال أمام هذا الإنسان بالعمل المحرّم؟ وبالنتيجة ما هو الحكم الشرعي الذي يحدّد لهذا المسلم المبتلى وظيفته العمليّة في هذه الحالة؟).
الجواب الأولي والأصلي هو أنّه لا يجوز التكسّب بأيّ نوعٍ من أنواع العمل المحرّم، والأجرة المأخوذة من ذلك العمل محرّمة ولا يملكها المسلم، ولا يحقّ له بالتالي أن يعتاش منها، والإستفتاءات في هذا المجال كثيرة لسماحة ولي أمر المسلمين السيد القائد الإمام الخامنئي "دام ظله"، ومنها على سبيل المثال:
س: ما هو حكم العمل في الأمور المحرّمة (معمل لحم خنزير، ملاهٍ ليلية،...) وما هو حكم الأجرة الحاصلة من ذلك؟ وما هو تكليف المسلمين الذين يعملون في مثل هذه المعامل؟)
ج: لا يجوز التكسّب بالأمور المحرّمة شرعاً من قبيل بيع لحم الخنزير أو الخمر أو إنشاء وفتح إدارة ملاهٍ ليليّة أو مراكز للفحشاء والمنكر والقمار وشرب الخمور وأمثال ذلك، ولا تملك الأجرة المأخوذة مقابل ذلك.
س: هل يجوز أخذ الأجرة على استنساخ الأشرطة الصوتية التي تحتوي على أمورٍ محرّمة؟
ج: ما يحرم الإستماع إليه من الأشرطة الصوتية لا يجوز استنساخها ولا أخذ الأجرة على ذلك.
س: هل يجوز لمن يقدر على العمل أن يستعطي الناس ويعيش من عطاياهم؟
ج: لا ينبغي له ذلك.
ولذا نجد أنّه قد ورد في النصوص الشريفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته ما يوضح السبب في حرمة التكسّب بالأعمال المحرّمة ومن أبرز النصوص (العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال). وهذا ما يوحي أنّ العمل في الإسلام ليس أمراً دنيوياً بحتاً كما هو عند الآخرين، بل العمل مشوبٌ بالعبادة لارتباط الكثيرمن وظائف المسلم الأخرى وهي مهمّة أيضاً بناتج العمل وهو "الإكتساب" الذي يعينه على أداء تلك الوظائف من باب الحلال الطيّب، لا من باب الحرام الذي هو باطلٌ ومبطل لتلك الوظائف لأنّها تصبح مجبولة بالحرام ومتصفة به.
وأمّا أنواع العمل المحلّل فلا تختصّ بجهةٍ معيّنة أو فئةٍ كذلك، بل هي لعموم الناس بلا استثناء، وللسيد القائد حفظه الله في ذلك العديد من الإستفتاءات حول البعض من أنواع العمل التي قد يتصوّر البعض أو يتوهّم حرمتها، ومن هذا القبيل نذكر ما يلي:
س: هل يجوز للنساء التكسّب ببيع المجوهرات؟
ج: لا بأس في ذلك.
س: ما هو حكم بيع وشراء وحفظ مجلاّت الألبسة النسائية التي تحتوي على صور نساء أجنبيات شبه عاريات والتي تستفيد منها بعض المسلمات لإختيار أزياء الألبسة.
ج: مجرد احتوائها على صور الأجنبيات لا يمنع من بيعها وشرائها والإستفادة منها في انتخاب أزياء الألبسة.
س: هل أجرة الدلالة حلال أم لا؟ - الدلالة – السمسرة
ج: لا بأس فيها إذا كانت مقابل عملٍ مباح قام به بطلبٍ ممّن عمل له.
س: هل يجوز العمل في الشركة التي تستثمر أموالاً مأخوذة من الناس وأموالاً خاصّة بها وتعطي لأصحاب الأموال أرباحاً شهريّة عليها؟
ج: لا مانع من العمل فيها ولا من أخذ الأجرة إذا كان من الأعمال المباحة شرعاً.
س: هل يجوز لمعلمي الوزارة الخاصّة بالتربية وأساتذة الكليّات الرسمية التدريس الخاص وأخذ الأجرة عليه؟
ج: لا مانع من قيامهم في غير وقت وظيفتهم بالتدريس الخاص وأخذ الأجرة عليه بشرط أن تكون المواد والدراسة محلّلة.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أمرٍ هام جداً وهو محلّ الإبتلاء عند الكثير من أبناء الإسلام سواء في عالمنا الإسلامي أو في بلاد الإغتراب، وهذا الأمر هو أنّ المسلم قد يتصوّر أنّ بيع المحرّمات إنما هو فيما لو كان بين مسلمٍ وآخر لا غير، أمّا بيع المحرّمات من المسلم لغير المسلم فلا مانع منه ولاريب فيه باعتبار أنّ غير المسلم لا يحرّم على نفسه ما يحرّم المسلم تبعا لدينه كما في الخمر والخنزير والميتة وما شابه ذلك من الأعمال المحرّمة.
السيد القائد الإمام الخامنئي "دام ظله" يحرّم أن يبيع المسلم هذه المحرّمات حتّى لغير المسلم، فليست العبرة عند السيد القائد لمن يبيع، حتّى إذا كان المشتري من غير المسلمين جاز بيعه، وإنّما العبرة بحكم المسلم نفسه وهو حرجة التكسّب ببيع أو إجارة الأمور المحرّمة بِغّض النظر عن الطرف المقابل للمعاملة سواء أكان ممّن تشمله تلك المحرّمات أو لا.
وللسيد القائد استفتاءات عديدة في هذا المجال نذكر منها ما يلي:
س: هل الحيوانات المائية التي يحرم أكلها – اذا أُخرجت من الماء حيَّة – محكومة بحكم الميتة فيحرم بيعها وشراؤها؟ وهل تجوز الإستفادة منها لغير طعام الإنسان (من قبيل غذاء الطيور والمواشي والتصنيع؟)
ج: إذا كانت من أنواع السمك وأُخرجت من الماء حيّة لتموت خارج الماء فليست بميتة، وعلى أيّ حالٍ لا يجوز بيع وشراء ما يحرم أكله للأكل حتى وإن كان المشتري ممّن يستحلّ أكلها، ولكن إذا كان لها منافع محلّلة مقصودة عند العقلاء غير الأكل من قبيل الإستفادات الطبية أو الصناعية أو لتغذية الطيور والمواشي ونحو ذلك فلا إشكال في بيعها وشرائها لذلك.
ومن هنا يفتي السيد القائد بحرمة العمل في بيع وشراء ما يحرم على المسلم ولو كان البيع لغير المسلم سواء في بلادنا الإسلامية أو في البلاد الأخرى، كما يحرِّم سماحته عمل المسلم عند غير المسلم في هذه المجالات أيضاً كما لو آجر المسلم نفسه للعمل عند غير المسلم في محلٍ يبيع المحرّمات كالخمر ولحم الخنزير وغير ذلك، وكنموذجٍ نذكر الإستفتاء التالي:
س: ما هو رأيكم المبارك في خصوص توزيع (البيتزا) التي تحتوي على لحم خنزير أو لحم ميتة في بلاد الأجانب (أمريكا) وأخذ الأجرة على ذلك؟
ج: لا يجوز الإشتغال بتوزيع وبيع ما يحتوي على لحم الخنزير والميتة إذا كان لغرض الأكل.
يبقى أخيرا أن نشير إلى مسألةٍ وهي محل ابتلاء أيضاً وهي أنّه وإن كان التكسّب بالأعمال المحرّمة غير جائز، إلاّ أنّه لو فرضنا أنّه كان لبعض المحرّمات منافع محلّلة ومرغوبة عند العرف وغير مخالفة للقوانين الشرعية فلا مانع من التكسّب منها ويكون هذا الكسب حلالاً ومشروعاً، وكمثالٍ على ذلك :"الدم" فهو حرام شربه أو بيعه للشرب أيضاً، لكن لو فرضنا كما هو الحال اليوم أنّ الدم هذا أصبح يُستفاد منه لإعطائه للمرضى والمحتاجين إليه في حالات العمليات الجراحية أو الإصابات الخطرة التي تستنزف الدم الكثير من الجسم فيحتاج الإنسان إليه لتعويض ما فاته منه، ففي هذه الحالة يجوز للإنسان أن يبيع دمه لكي يعطيه لآخرٍ محتاجٌ إليه لأنّه لن يستعمله في الشرب المحرّم بل في تزويد جسمٍ به عن طريق الحقن وهذا ممّا لا مانع منه شرعاً وهو مستحسنٌ عند العرف والناس أيضاً، وكنموذجٍ نذكر ما يلي من الإستفتاء ات في هذا المجال:
فتوى: لا إشكال في بيع السمك المحرّم للأكل كطعامٍ للحيوانات أو لصناعة الصابون ونحو ذلك من المنافع المحلّلة المعتبرة عند الناس.
فتوى: يحرم استعمال المواد المخدّرة والإستفادة منها لما فيه من الضّرر المعتدّ به عند الناس، إلاّ إذا كانت للإستفادة الطبية المحلّلة أي التداوي والعلاج.
فتوى: يجوز بيع الحشرات والفراشات ونحو ذلك فيما إذا كان لها منفعة محلّلة مقصودة حتى ولو بلحاظ ما لها من قيمة علمية تحقيقيّة.
والحمد لله ربّ العالمين