الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

مقام النبوة

sample imgage

قال الله تعالى في محكم كتابه ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا انزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلّا رجلاً مسحوراً ) .

تنطلق هذه الآية الكريمة لترد على كل الذين يستبعدون فكرة أن يكون الرسول المرسل من الله إلى الناس بشراً سوياً يمارس ما يمارسونه من أفعال ، وهذا الرد الذي تورده الآية يريد أن يطرد من أذهان الناس الفكرة المنحرفة التي ألقيت إليهم ، وهي أن الاتصال بالغيب أمر غير مقدور للبشر بسبب ارتباطاتهم بالمادة وقابلياتهم للتلوث منها ، وهذه الفكرة هي التي حاول المتضررون ترويجها لمنع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من إكمال دعوته أو من جعلها مؤثرة فيهم وقادرة على صرف أنظارهم عن أنواع العبادات المنحرفة التي كانوا عليها ليعودوا إلى فكرة التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى.

 

وهذه الآية فيها نحو من الإيحاء إلى كل الأفكار الباطلة التي يسعى بنحو الغالب كل المتضررين من دعوات الحق لمنعها من الوصول إلى غاياتها المطلوبة في إنقاذ الناس والمجتمعات من الذل والظلم والاستعباد من جهة ، وفي إنارة عقول الناس وقلوبهم لتوضيح الطريق أمامهم من جهة أخرى.

ولهذا نرى العروض الكثيرة التي تبينها الآية الكريمة والتي تريد أن توهم الناس بأن الرسول لا ينبغي عليه أن يكون كسائر البشر العاديين لأن كونه كذلك يتنافى مع المقام الرفيع الشأن للنبوة ووظيفتها.

فأولئك يحاولون الاستنكار بواسطة التعجب من أن يكون النبي بشراً يأكل ويشرب وينام كما هو شأن الناس العاديين، ويسعى لتحصيل قوته ومعاشه من خلال عمل يعمله أو حرفة يمتهنها لذلك .

ثم يطرحون المسألة بشكل آخر فيه تنازل من السابق ، وهو أنه إذا كان من الممكن للرسول أن يكون بشراً فلماذا لا يكون معه ملك مرسل من السماء ليتحقق من خلاله الاتصال بعالم الغيب وليكون الواسطة بينه وبين ذلك العالم؟

ثم يتنزلون أكثر فيقولون إذا كان للنبي أن يكون بشراً فلماذا لا ينزل له الله كنز من السماء ليصرف منه بدلاً من أن يعمل بكد يديه ليأكل .

ثم يقولون بتنازل أكثر أيضاً ، بأنه على الأقل ينبغي أن يكون لديه أرزاق وممتلكات ليعتاش منها، وهذه الطريقة هي أسهل من إنزال الملك أو الكنز إليه من عالم السماء والغيب لأنها حاصل المادة ومن نتاج الأرض .

إن كل هذه الطروحات التي يطرحها أولئك الذين تسميهم الآية في نهايتها بالظالمين، يريدون من خلالها توهين مقام النبوة ، ولا شك أن هذا التوهين والاستهزاء والسخرية ليست مطلوبة لذاتها ، بل من أجل منع الرسل من التأثير في أوساط المجتمعات التي أرسلوا من أجل إنقاذها من كل تلك الأفكار المنحرفة التي كانت تلعب دوراً خطيراً بإبقاء الناس ضمن أجواء الجهل الفكري والعقائدي والانحراف الأخلاقي والسلوكي بشكل عام .

إن كل تلك العروض التي توضحها الآية والتي طرحها المشركون هي نوع من أنواع الطرح الذي يسلخ عن الإنسان قدراته الروحية والإيمانية ويعطلها عن العمل والسعي للإرتقاء المعنوي بإدعاء العجز والقصور عند هذا المخلوق المنجذب نحو المادة وملذاتها والمتأثر بها وغير القادر على التحرر من سلطانها وسيطرتها ، وأن وسيلته للارتباط بالسماء هي في أقل مراتبها أن يكون مستغنياً عن العمل لتحصيل المعاش لكي ينصرف إلى ذلك الجو الروحي والإيماني من دون أن يشغله الهم الدنيوي .

ولهذا نرى أن الآية تعبر عن لسان المشركين بأن الرسول قد مارس نوعاً من السحر بادعاء أولئك الظالمين حتى استطاع التأثير فيمن حوله من الذين آمنوا بدعوته وبرسالته الإلهية ليلقوا في روع أولئك الناس أنهم سيكفرون به ما أن يزول مفعول السحر الذي مارسه عليهم .

من هذه الآية ينبغي على المؤمنين الملتزمين العاملين في مجالات التبليغ أن يبينوا زيف هذه المقولات التي نجد لها امتدادات كثيرة في عالمنا من التي تحاول أن توهن عزائم الناس بأن هذا المخلوق عاجز عن الارتقاء المعنوي وأنه معرض لارتكاب الأخطاء على أنواعها ، مع ما في هذه الطروحات من تعطيل للقابليات التي أودعها الله فيه ، والتي أثبتت من الجهة الأخرى فعاليتها على مستوى الكثير من النماذج البشرية في زمن الأنبياء والأئمة عليهم السلام وإلى عصرنا من التي هذبت النفوس وأعملت قابلياتها وسخرتها في سبيل تعميق الإيمان والارتباط بالله من مواقع الكد والسعي والعمل والانخراط في خضم الحياة المادية التي لا تتنافى، إن لم نقل بأن هذه الحياة هي الساحة لتقوية أواصر العلاقة مع الله إيمانياً وروحياً .