الفتنة
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2249
قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } 2/ 29/.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الدنيا التي نحياها هي وسيلة وليست غاية بحدّ ذاتها، والهدف منها هو الوصول إلى الحياة الآخرة بالطريقة التي يطمئنّ الإنسان إليها عند مواجهة المليك المقتدر في يوم الحساب
الطويل الذي يجعل الولدان شيباً.
والإطمئنان الذي ينبغي على الإنسان أن يناله في هذه الحياة الدنيا مرتبطٌ بقدرته على الوقوف عند الحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى، فلا يتجاوزها أو يتعدّاها في أيّ أمرٍ من الأمور التي قد
تجعل الإنسان يضعف وتنهار قواه، الإرادية والمعنوية تجاهه.
والآية الكريمة المذكورة في أوّل الكلام تبيّن أنّ المؤمن في هذه الدنيا عليه أن لا يعيش الإطمئنان لمجرد أنّه صار معنوناً بعنوان ( الإيمان )، باعتبار أنّ العنوان لا يحقّق مضمونه إلاّ بالمجاهدة
والمحاربة لكلّ شهوات النفس ونوازعها، وبدون هذه الطريقة قد لا يأمن الإنسان من الوقوع في الخطأ والمعصية نتيجةً لتجاهل الدور الكبير الذي تلعبه قضية المجاهدة ومراقبة النفس ومحاسبتها.
من هنا، فإنّ مجريات الحياة بما تحويه من تفاصيل ومن إرتباطات متشابكة ومتداخلة، توقع الإنسان أحياناً أمام أنواع من القضايا المعتبرة فتنة له، وهي بمثابة الإمتحان والبلاء للمؤمن، وعليه أن
يتعامل معها، بالأسلوب الذي يُثبّت في نفسه وعند الناس واقع عنوان الإيمان الذي يحمله ليعيش المصداقية بين الشعار والممارسة.
وقد أورد الله سبحانه في كتابه آياتٍ تدلّ على أنّ بعض الأشياء التي يمتلكها الإنسان هي من أنواع الفتنة له، كما في قوله تعالى: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَة}، وفي مورد آخر يقول عزّوجل: {
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، والمراد بأنّ الأموال والأولاد فتنة لأنّ الإنسان قد تتملّكه شهوة المال فلا يُخْرِجُ منه حقّ الله والناس، وقد يقف إلى جانب أولاده في أيّ أمرٍ كانوا عليه سواء كان حقاً أم باطلاً،
والمراد بالفتنة التي هي أشدّ من القتل هي السعي بين الناس وتأليب بعضهم على البعض الآخر ممّا يوغر الصدور ويبعث في القلوب الأحقاد والضغائن التي قد تجرّ العواقب الوخيمة على حياة الناس
بشكلٍ عام ويذهب المحسن ضحية المسيء والمصلح ضحية المفسد كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}، لهذا فإنّ الإنسان المؤمن عليه أن يعيش الحذر في هذه الدنيا، وهذا
الحذر لا يمكن أن يتحقّق واقعه من دون أن يسعى المؤمن إلى تقوية علاقاته وارتباطاته المعنوية بالله بشكلٍ دائم، فلا يغفل عن نفسه ولا يهملها ولا يركن إلى الدعة والسكون لمجرّد أنّه صار يحمل
عنوان (المؤمن)، لأنّ هذا العنوان هو عبارة عن وضع الإنسان قدمه على الطريق الصحيح، لكن عدم العناية والرعاية بالنحو الذي تكلّمنا عنه، قد يعرّض المؤمن للإنحراف والإنزلاق والسقوط في الهاوية
نتيجة الركون إلى أنّه يحمل العنوان السليم بحدّ ذاته.
وبالجملة، فإنّ الآية ناظرة إلى أنّ الإنسان في هذه الدنيا معرّض للإفتتان بأيّ شيء من مغريات هذه الدنيا، بدأ من الإفتتان الفكري وانتهاءً بالإفتتان الشهواني ومروراً بالإفتتان التعصّبي، وهنا
على الإنسان المؤمن أن يعرف كيف يتعامل مع كلّ هذه الحالات بالطريقة الّتي تخرجه من هذه الفتن سليماً في دينه واعتقاده، ومستقيماً في تصرفاته ومواقفه، حتّى يكون من الذين خرجوا من
إمتحان الفتنة بنجاح واستطاعوا الوصول إلى الحياة الآخرة بنحوٍ مطمئن.