الخميس, 21 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

ملاك المصلحة والمفسدة في الحكم الولايتي

sample imgage

* المقدمة:   إنّ قضية المصلحة والمفسدة من العناصر الأساسية الدخيلة في تحقيق موضوع القرار الشرعي الذي يتّخذه وليّ الأمر المفترض الطاعة على المسلمين، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحالة التي يعيشها المجتمع الإسلامي على الصعيدين الداخلي والخارجي على حدّ سواء، لأنّ منشأ الولاية للفقيه في زمن الغيبة عند الشيعة الإمامية هو الحفاظ على هذا المجتمع وضمان ما يؤدّي إلى تحصين وتحسين أوضاعه من الناحيتين الدينية والدنيوية معاً، ولهذا فقد عرّفنا ولاية الفقيه في بحثٍ منشور سابقاً بأنّها :(ولاية جعلية على المجتمع أو الفرد بما يعود إلى المصالح العامة ذات المنافع المشتركة)1.

 

** الأحكام واعتبارات المصلحة والمفسدة: وهذا التقسيم له إرتباطٌ بأنواع الأحكام التي تتضمّنها الشريعة الإسلامية وهي التالية:

ـ النوع الأول- الحكم التكليفي: وهو الحكم المرتبط بأفعال المكلّفين فعلاً وتركاً، وهذا النوع من الحكم المرتبط بشكلٍ أساس بالمصالح والمفاسد المتحقّقة في واقع المتعلّقات والتي لا دخل للمكلّف في تشخيصها لأنّها محدّدة في لوح الواقع عند الله عزّ  وجلّ، ووظيفة الفقيه في هذا المجال هو النظر في الأدلّة الشرعية (القرآن والسُنة) واستنباط الحكم الدالّ عليها والكاشف عنها، إمّا بنحو الكشف القطعي فيكون الحكم واقعياً أو بنحو الكشف الظنّي المتمّم الحجيّة شرعاً فيكون الحكم ظاهرياً، ومن أراد التوسعة في هذا الأمر يمكنه الرجوع إلى كتب أصول الفقه لإستطلاع الأمر.

ـ النوع الثاني- الحكم القضائي: وهو الحكم المرتبط بفضّ النزاعات والخصومات التفصيلية والجزئية الواقعة بين الناس كما هي طبيعة التداخل في العلاقات بمختلف أنواعها بين أفراد المجتمع كما في قضايا الزواج والطلاق والأموال والأحوال الشخصية وأمثال ذلك من القضايا التي تحصل عادة حسب مجريات الحياة اليومية، والمصلحة والمفسدة في أمثال هذه الأحكام مرتبطة بطرق الإثبات الشرعية المقرّرة المبنيّة على القاعدة الأساسية: (البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر)2، وإلى جانبها قاعدة فرعية وهي (الإقرار)3، حيث جعل الشارع هاتين القاعدتين الضابطة الأساس التي يتمّ من خلالهما تحصيل المصلحة العامة للمجتمع بنحو الإجمال، وإن كان في بعض الأحيان قد تحصل مفسدة في قضية ما نتيجة قصور أو تقصير في تحصيل طرق الإثبات لمن له الحق.

           إلاّ أنّ الشريعة المقدّسة تنظر في أمثال هذه النزاعات إلى الوسيلة التي تتحقّق من خلالها الفائدة الإجمالية بنسبةٍ كبيرة ولو على حساب بعض المفاسد الجزئية التي قد تحصل أحياناً، إلاّ أنّها لا تشكّل خللاً في مسيرة المجتمع الإسلامية ولا ينتج عنها خطر معتدّ به، مُضافاً إلى أنّ الشارع لم يحكم في موارد قصور أو تقصير وسائل الإثبات عن إرجاع الحقّ إلى صاحبه بملكية الطرف الآخر الذي لم تستطع الوسائل التحقّق منه بالطرق الشرعية للإثبات4.

ـ النوع الثالث- الحكم الولايتي: وهو الذي يرتبط بمصالح المجتمع الإسلامي ككل وليس المنظور فيه مصلحة الفرد كفرد وكما في النوعين السابقين، لأنّ هذا النوع الثالث متقوّم بصورةٍ أساسية بما يحفظ  كيان المجتمع من الجوانب كافّة، وميدانه هو القضايا العامّة والأحداث الكبيرة التي تهمّ الأمّة الإسلامية بما هي مجموعة، وهذا النوع من الحكم هو مجال إختصاص الولي الفقيه الذي يمتلك وحده دون غيره من المجتهدين حقّ اتخاذه، وكذلك الأمر بلحاظ المفاسد العامّة التي يمكن في حال عدم التصدّي لها من جانب ولي الأمر إيقاع المجتمع الإسلامي فيما لا يستطيع معه من العيش بهدوء وأمن وسلام وضمان للأرواح والأعراض والأموال وما شابه ذلك من القضايا العامة التي يكون عدم التصدّي لها موجباً لحصول الإضطربات والإختلال في مسيرة المجتمع الإسلامي عامّة، ومنها أيضاً قضايا السلم والحرب والتحالفات مع المجموعات أو الكيانات السياسية أو الدينية الأخرى خارج إطار عالم الإسلام، أمّا في داخله فالعلاقات مع غير المسلمين محدّدة بصيغٍ معروفة تضمن الحقوق كاملة للمواطنين غير المسلمين باعتبار وصف المواطنية الذي يرتّب جملة من الحقوق وجملة أخرى من الواجبات في العلاقة ما بين الدولة الإسلامية ومواطينها المسلمين وغيرهم.

*** الشرط الأساس للحكم بأنواعه: من الواضح جداً أنّ المصلحة أو المفسدة موجودتان في واقع الأمور التي تكلّمنا عن الأحكام المتعلّقة بها على اختلاف أنواعها، إلاّ أنّ لكلّ تلك الأنواع من الأحكام التكليفية والقضائية والولايتية شرطاً لازماً لا بدّ من توفّره فيها جميعاً على مستوى كلّ حكمٍ مقرّر منها وهو "العلم الحاصل لدى من يصدر الحكم عنه" وهو الفقيه المفتي في مورد الحكم التكليفي، والفقيه القاضي في مورد الحكم القضائي، والفقيه الولي في مورد التصدّي لأمور الأمّة الإسلامية وشؤونها، وذلك باعتبار أنّ العلم هو الحجّة التي يجب على الفقيه تحصيله ليقطع ببراءة ذمّته من جهة، ولتطمئنّ الناس بالعمل على مقتضى الحكم الصادر عنه، ولهذا ورد في الشريعة الغرّاء على مستوى الكتاب والسنة ما يدلّ على عدم كفاية غير العلم كحجة فيما بين الفقيه وربّه، وفيما بينه وبين الناس الملزمة بالعمل على طبق الحكم الصادر عنه:

ونستشهد من القرآن الكريم بما يلي من الآيات الناهية عن الظنّ كحجّة:

1ـ {ولا تقف ما ليس لك به علمٌ}5.

2ـ {إنّ الظنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً}6.

3ـ {إن يتّبعونَ إلاّ الظنّ وإن هم إلاّ يخرصون}7.

ونستشهد من السنة الشريفة بما يلي من الأحاديث أيضاً:

1ـ (من أفتى الناس بغير علمٍ فليتبوأ مقعده من النار) ،الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)8.

2ـ (من أفتى الناس بغير علمٍ ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه)، الإمام الباقر (عليه السلام)9.

3ـ (القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة) الإمام الصادق (عليه السلام) 10 .

4ـ (وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا المعطّل للسّنة فيهلك الأمّة...) أمير المؤمنين (عليه السلام) 11.

               وإذا ثبت أنّ غير العلم لا يقوم حجّة فهذا يعني أنّ العلم وما يقوم مقامه حسب الأدلّة الشرعية هو الحجّة التي يجب أن يستند إليها الفقيه في أيّ حكمٍ يصدره من الأنواع الثلاثة التي تقدّم ذكرها.

**** منشأ حجيّة الولاية للفقيه: من الواضح جداً أنّ مراتب الولاية في الشريعة الإسلامية تبدأ من التوحيد في الولاية لله سبحانه وتعالى تكويناً وتشريعاً، ومن ثمّ لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المستوى التشريعي، ومن بعده للأئمة (عليهم السلام) من المنظار العقائدي الشيعي، وقد أوضحت ذلك الآية الكريمة: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}12، وقد جعل الله عزّ  وجلّ مسألة الطاعة متفرّعة عن ثبوت الولاية لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة( عليهم السلام) من بعده بالنص القرآني :{إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون}13.

                  فالولاية والطاعة المتفرّعة عنها بالنسبة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة( عليهم السلام) باعتبار أنّهم محيطون وعالمون بالشريعة وهم المؤتمنون عليها وعلى مصالح الأمّة الإسلامية وحمايتها من المفاسد والأخطار الدينية والدنيوية التي يمكن أن تتسلّل إلى داخلها لتغير فيها وتنشر الفساد والضلال والإنحراف، وقد كان شرط العصمة في النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة ( عليهم السلام) كافياً لجعل قراراتهم وأحكامهم مورد القبول عند المسلمين، لأنّ العصمة بالإضافة إلى الإحاطة التامّة بالشريعة ووسائل الحفاظ عليها كفيلٌ بإشاعة أجواء الإطمئنان إلى كلّ ما يصدر عنهم والإلتزام به من جانب الأمّة.

              إلاّ أنّ الظروف الموضوعية الضاغطة التي أدّت إلى غياب صاحب الولاية الأصلي الواجب الطاعة، أوجبت ومن باب عدم جواز ترك الأمّة بلا دليلٍ ومرشد موجّه في زمن الغيبة تعيين أشخاص ولو لأوصاف وشروط موضوعية التي تجعل المتّصف بها والمحقّق لشروطها في المراحل التطبيقية أهلاً لأن تكون له الولاية في بعض الموارد أو كلّها على الأمّة، ومن هنا جاءت أدلّة النص العام للفقيه في زمن الغيبة مع توافر الشروط الشرعية التالية في شخصه:14

1ـ الفقاهة: بمعنى الإحاطة والعلم الكافي بالأحكام الشرعية ومصادر استنباطها من الكتاب والسُنة والإجماع والعقل.

2ـ العدالة: وهي التي ترمز إلى ضرورة الإلتزام بفعل الواجبات وترك المحرّمات في أقلّ المراتب وترتفع وتقوى وتتأكّد كلّما كان الفقيه أشدّ التزاماً بالشريعة حتّى في حدود المستحبّات والمكروهات التي تنعكس في نفوس المسلمين ثقة واطمئناناً أكبر بمثل ذلك الفقيه الذي لم يكتفِ بالعدالة وإنّما تعدّاها إلى حالةٍ عالية ودرجة مرتفعة من التقوى والإخلاص.

3ـ الكفاءة: ونعني بها القدرة الكافية على الإدارة والتنظيم وضبط الأمور ووضعها في نصابها الصحيح وحسن استغلال الظروف الموضوعية المحيطة وتجييرها لصالح الأمة الإسلامية كلّما كان هناك سبيل إلى ذلك، ويدخل فيها قضايا إدارة الحرب والسلم وفهم الواقع السياسي المعاصر حتّى يتمكّن من تسيير أمور الدولة الإسلامية بما يتناسب مع المصالح العليا للأمّة دون وقوع تحت سلطة وسيطرة الأمم والدول الأخرى عبر إقامة شبكة من العلاقات والتحالفات المؤدية إلى ذلك.

وقد ورد في نصوص الشريعة ما يدلّ على أهمية الكفاءة بما تشمله من القدرة على ما ذكرنا من الأمور، ومن ذلك على نحو المثال لا الحصر:

1ـ (لا تصلح الإمامة إلاّ لرجلٍ فيه ثلاث خصال: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وحلمٌ يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم) ، الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) 15.

2ـ (أيّها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله)، أمير المؤمنين     (عليه السلام) 16.

3ـ (والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) ،الإمام الصادق ( عليه السلام) 17.

                  وقد ورد في مقابل ذلك نصوص تقدّم بعضها تدلّ على أنّ من له الولاية على المسلمين ينبغي أن لا تتواجد فيه المواصفات السلبية التي تمنعه من أن يكون كفؤاً وقادراً على إدارة أمور الدولة الإسلامية  كالجهل والبخل وقابلية الإرتشاء والجبن وضعف الشخصية لأنّ مثل هذه الأوصاف لا تليق أبداً بمن يريد أن يكون ولياً للمسلمين وقائداً لمسيرتهم وحافظاً لوجودهم ومحرّراً لهم من التبعية والإستبداد.

***** الولي الفقيه والشورى:  ممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ الولي الفقيه ليس حاكماً بصفته الفردية في المطلق، إذ أنّ ولايته راجعة إلى جملة من الشروط الموضوعية تتمحور جميعها حول قضية مركزية هي (ضمان المصالح العليا للأمّة وحمايتها من المفاسد والأخطار) وهذه القضية لا تتعلّق بجانبٍ معين من جوانب حياة الأمة، بل بكلّ ما له ارتباط بشؤونها الداخلية والخارجية على حدّ سواء، وهذا الأمر يدلّ دلالةً واضحة على أنّ الولي الفقيه الذي وضعت له الشريعة حدوداً لا يمكن تجاوزها وشروطاً لا بدّ من توفّرها فيه وذلك لضمان سلامة الحكم الصادر عنه من الخطأ والإشتباه بحسب المقدّمات الحاضرة عنده بنحوٍ إجمالي وعام وتتأمّن من خلاله المصالح وتندفع المفاسد.

                 وممّا لا شكّ فيه أنّ الشورى قد دلّ على أصل مشروعيتها في الإسلام الآيات القرآنية التي تحثّ على المشاورة واستطلاع آراء الآخرين، فمن ذلك قوله تعالى:

1ـ {... والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم...} 18.

2ـ {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله} 19.

                 والذي يبدو من مسار الآية الثانية بالخصوص ودلالتها أنّ مسألة الشورى ليست حاكمة على الولي المفترض الطاعة، وإن كان من المستحسن الإستناد في موضوع الحكم التشاور فيه مع الآخرين بما يوضح الأمور المتعلّقة به كافة من حيث المصالح أو المفاسد التي يمكن أن تنتج عن القرار المتّخذ من جانب الولي.

                  وقد ورد في الأحاديث ما يوضح أنّ مسألة الشورى ليست إلزامية بالنسبة لولي الأمر، ولا يكون رأي المستشار دخيلاً في أصل القرار المأخوذ من الولي، بحيث لو كان قرار الولي على خلاف من استشارهم كان موجباً  لبطلان حكمه وعدم الإلتزام به.

                  ومن الأحاديث المؤكّدة لهذا المنحى من الشورى ومقدار دخالتها في القرار الشرعي نورد النماذج التالية:

1ـ عن ابن عباس قال: لما أنزلت (وشاورهم في الأمر) قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أمّا إنّ الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمّتي. فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعدم غيّاً).20.

2ـ عن أمير المؤمنين( عليه السلام) في وصية لمحمد بن الحنفية قال: (أضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض ثمّ اختر أقربها وأبعدها عن الإرتياب... خاطر بنفسه من استغنى برأيه ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ).21.

                   وغير ذلك كثير من الأحاديث التي يبدو منها أنّ المشاورة أمرٌ مرغوب فيه من الناحية الشرعية، إلاّ أنّها لا توجب على الولي الفقيه الأخذ بها بحيث تجعله مسلوب الإدارة والاختيار في اتّخاذ القرار تجاه من يستشيرهم.

                    وما يمكن فهمه من الآية الأولى فهي أنّ الشورى ترتبط بالقضايا التي لها اهتمام بالمسلمين عامّة كأمّة أو مجتمع، لأنّها وردت في سياق مواصفات المؤمنين العامّة التي امتدح الله المسلمين بها ومنها "الشورى"، وهذا يعني أنّ الشورى هي من الصفات التي إذا استند المسلمون إليها على مستوى قضاياهم المصيرية يمكن أن تجعلهم في المستوى الراقي من درجات الإنسانية والتكامل، لكن يجب أن لا يكون هذا النحو من التشاور قائماً مقام ولاية ولي الأمر، وإنّما يمكن لولي الأمر أن يأخذ من آراء المستشارين ما يستعين به على إصدار القرار الذي يتوافق مع مصلحة الأمّة أو دفع المفسدة عنها، كما هو مقتضى دلالة الآيات والروايات على أنّ الولاية لله ولرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وللأئمة( عليهم السلام) وللفقهاء المنضويين بالنص العام في زمن الغيبة الذين توافرت فيهم الشروط الشرعية المطلوبة، وهؤلاء هم الذين يجب على الأمّة طاعتهم والعمل على طبق أحكامهم وقراراتهم التي يصدرونها.

                  وبهذه الطريقة من التحليل يمكننا فهم طبيعة العلاقة بين الولاية والشورى، فالولاية هي التي يقوم من خلالها ولي الأمر بإصدار القرار الشرعي، بعد أن يكون قد استحصل على آراء من استشارهم لاتّخاذ قراره.

****** إختصاص الحكم بمقام الولاية:   بالرجوع إلى الآيات القرآنية نجد أنّ القرار هو للولي فقط ومن اختصاصه دون غيره، وقد ورد في القرآن ما يدلّ على ذلك كقوله تعالى: {يا داوود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله...} 22، وكذلك قوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً}23.

                  وبما أنّ الأدلّة قد دلّت على أنّ الولي الفقيه له وظائف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة( عليهم السلام) إلاّ ما أخرجه الدليل فهذا يعني أنّ طاعة الفقيه واجبة كطاعة المعصومين( عليهم السلام) فيما يرجع إلى إدارة أمور الأمّة الإسلامية من حيث حفظ المصالح ودفع المفاسد.

                 بعد هذا العرض لتوضيح العلاقة بين الولاية والشورى، نعود إلى بحث بقية النقاط المتعلّقة بالشورى من حيث أهميتها في اتّخاذ القرار ومواصفات المستشارين الذين يمكن الأخذ برأيهم وجعله من المقدّمات الموضوعية عند الولي الفقيه في اتّخاذ القرار.

*******  أهمية الشورى:    فقد ورد في الشريعة الغرّاء وخصوصاً في السنة الكثير من الأحاديث عن أهمية المشورة والإستئناس برأي الآخرين، ومن النماذج من هذه نذكر ما يلي:

1ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) :(من أراد أمراً فشاور فيه وقضى، هُديَ لأرشد الأمور) 24.

2ـ عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) :(ما خاب من استخار ولا ندم من استشار) 25.

3ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) :(لا شقي عبد بمشورة ولا سعد باستغناء رأي) 26.

4ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) :(لا وحدة أوحش من العجب ولا مظاهرة أوثق من المشاورة)27.

5ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (من استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) 28.

********  صفات المستشارين:   ومن المؤكّد أنّ المشاورة لا تكون لكلّ الناس وإنّما للأشخاص الذين يحملون من الوعي والخبرة والكفاءة في المجالات التي يستشارون بها، حتّى تكون تلك المشاورة ملقية الضوء على ما هو متعلّق بالموضوع الذي يريد الولي الفقيه اتّخاذ القرار بشأنه، ولهذا نجد أنّ الأحاديث تؤكّد على بعض المواصفات للمستشارين حتّى يحصل الإطمئنان بقولهم وآرائهم، ومن هذه المواصفات:

أولاً- العالم بالموضوع المنوي اتّخاذ القرار فيه:

1ـ (شاوروا العلماء الصالحين فإذا عزمتم على إمضاء ذلك فتوكلوا على الله)، النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) 29.

2ـ (الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره)، النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) 30.

3ـ (خير من شاورت ذوو النهى والعلم وأولو التجارب والعزم) ،أمير المؤمنين( عليه السلام) 31.

ثانياً- الخشية من الله والخوف منه:

1ـ (شاور في أمورك الذين يخشون الله ترشد) ،أمير المؤمنين( عليه السلام) 32.

2ـ (شاور في حديثك الذين يخافون لله) ،أمير المؤمنين( عليه السلام) 33.

3ـ (ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع ثمّ قال ( عليه السلام): أمّا أنّه إذا فعل ذلك لم يخذله الله بل يرفعه الله ورماه بخير الأمور وأقربها إلى الله)، الإمام الصادق( عليه السلام)34.

ثالثاً- عدم الخيانة في المشورة:

      إنّ المشورة كما تدلّ الأحاديث مسؤولية وأمانة، ومن هنا ينبغي على المستشار أن يعطي الرأي بصدقٍ وإخلاص وتجرّد عن الهوى والطمع والحرص على المصلحة الخاصة ولو على حساب المنافع العامّة للمسلمين، وكنماذج من هذه الأحاديث نذكر ما يلي:

1ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشده فقد خانه) 35.

2ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) :(المستشار مؤتمن فإذا استشير فليشر بما هو صانع نفسه) 36.

3ـ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (من غشّ المسلمين في مشورة فقد برئت منه)37.

         ومن الواضح جداً أنّ هذه الأحاديث بكلّ دلالتها لم تتعرّض للتفاصيل في عناوين الموضوعات التي تتمّ الإستشارة فيها، وإنّما هي ناظرة إلى الشورى كأحد أهم المقدّمات الموضوعية التي ينبغي الرجوع إليها من جانب الولي الفقيه لتحديد الموضوعات التفصيلية فيما تدلّ عليه أو تحتويه من المصالح أو المفاسد، وما من شكّ أنّ التوسّع الحاصل في الدول الحديثة نظراً لتنوّع الإختصاصات تبعاً للتشعّب الحاصل في العلوم الإنسانية عموماً والإدارات والأجهزة المولجة بمعالجة قضايا الشعوب جعلت من المتعذّر على الولي الفقيه أن يتصدّى لإصدار القرارات في كلّ الموضوعات بشكلٍ مستقلٍّ ومنفرد، ولهذا لا بدّ من الرجوع في المسائل السياسية إلى المستشارين الجيّدين الثُقاة، وكذلك على مستوى القضايا الإقتصادية أو التربوية أو المالية وغير ذلك من المسائل التي تحتاج إلى استصدار القرار من الولي الفقيه، وبعد ذلك يجمع الولي كلّ الآراء المرفوعة له من المستشارين ويأخذ القرار الذي لا يخرج عن حدود الثوابت الشرعية التي لا يمكن تجاوزها حتّى للولي الفقيه في حالٍ من الأحوال.

*********  القوانين الثابتة والمتغيّرة:   فالقوانين الثابتة هي التي تأخذ بعين الإعتبار واقع الإنسان وفطرته في بعديه المادي والمعنوي وهي التي لا ربط لها بالمكان أو الزمان، وهذه القوانين تشمل جملة من المسائل العقائدية والأخلاقية والعبادية والسياسية والجزائية، وهي التي تُسمّى لمجموعها (الدين والشريعة) وهي التي قال الله فيها :{ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}38، وهي كذلك ما عبّر عنه الإمام الصادق( عليه السلام): (حلال محمد حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة) 39.

                   ويمكن القول إنّ من مفردات القوانين الثابتة كالعبادية مثلاً هي الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس وسواها كالطهارات، والقوانين السياسية الثابتة مثل (الإستقلال والحرية) للأمّة الإسلامية، والقوانين الإقتصادية مثل (تحريم الربا وسائر المحرّمات في هذا المجال وجواز البيع وسائر أنواع المعاملات) وكذلك على مستوى باقي القوانين الثابتة التي لا يتطرّق إليها التغيير، وإنّما قد يحصل التغيير والتبديل في بعض تفاصيلها الجزئية فقط، والقوانين الجزائية كالحدود والتعزيرات والديّات التي هي ثابتة كأصول لا يمكن لأيّ فردٍ ولو كان الولي الفقيه أن يتجاوز عنها ويستبدلها بغيرها وإن كان يمكن في البعض منها تطبيقها بما يتناسب مع الزمان والمكان كالتعزيرات التي هي قانونٌ ثابت لكن تطبيقها يخضع للمكان والزمان والظرف التاريخي الذي يسود العالم من جهة القوانين والتشريعات.

                    والقوانين المتغيّرة هي التي شرّعها الله سبحانه وتعالى من أجل ملاحظة حاجات البشر ومصالحهم حسب الزمان والمكان، وهذه القوانين هي التي قد تتعرّض للتغيير تبعاً للتغيير في المصالح والحاجات للأمّة الإسلامية حسب الظروف الموضوعية التي تعيشها الأمّة في المراحل الزمنية المختلفة التي قد تحوّل أمراً ما من كونه مصلحة في زمان ومكان ما إلى كونه مفسدة في مكانٍ وزمان آخر، ففي هذا المجال يكون لولي الأمر حقّ تحديد المصلحة أو المفسدة واتّخاذ القرارات المناسبة التي تحفظ الأمّة ككيان ومجتمع ولا تتعارض مع القوانين الثابتة التي هي الضمانة الأساسية والحدّ الذي لا يمكن للولي الفقيه التجاوز عنه مطلقاً، وأبرز مثال على هذه القوانين المتغيّرة هي الأنظمة المعمول بها اليوم في معظم دول العالم على مستوى التنظيم الداخلي لدولها أو على مستوى العلاقات الخارجية مع الدول الأخرى كالعلاقات السياسية والإقتصادية والثقافية والمالية وما سوى ذلك ممّا تحتاجه الدول للحفاظ على مصالحها في ظلّ النظام العالمي المشتمل على دول كثيرة تسعى كلّ واحدة منها أن تسنّ القوانين حسب كلّ مرحلة من المراحل بما يضمن وجودها ومركزها بين الدول ويصون مصالحها ويدفع عنها المفاسد.

                وننقل هنا كلاماً للعلاّمة الراحل الكبير الفيلسوف السيد محمد حسين الطباطبائي يعبّر عن هذه المسألة فيقول(قده): (مثلما يستطيع أحد أفراد المجتمع الإسلامي ـ نتيجةً للحقوق التي يحصل عليها عن طريق القانون الديني ـ أن يغيّر محيط حياته الخاصة بالشكل الذي يرغب فيه (بالطبع في ظلّ التقوى وشريطة مراعاة القانون)، ويستطيع أن يستخدم ماله وثروته في تحسين معيشته من مأكل ومسكن وملبس وما إلى ذلك من أمور أخرى، أو غضّ النظر عن جزء منها، ويستطيع كذلك الدفاع عن حقوقه المشروعة أمام أيّ اعتداءٍ وادعاء، والمحافظة على وجوده في الحياة، أو التخلّي عن الدفاع فيما إذا اقتضت المصلحة وغضّ النظر عن جزء من ماله وثروته، وكما يستطيع أن يبذل النشاطات لضمان حاجاته، بل والعمل ليلاً ونهاراً، أو التخلّي عن عمله والقيام بعملٍ آخر حسب ما يراه صحيحاً. فإنّ لولي أمر المسلمين ـ الذي يعيّن طبقاً للقوانين الإسلامية وله ولاية عامّة في نطاق حكومته ـ الحقّ في القيام بما يراه مناسباً في محيط الحياة العامّة، فهو يستطيع في ظلّ التقوى ومراعاة الأحكام الدينية الثابتة، أن يضع قوانين خاصة بالطرق والمعابر والدور والأسواق ووسائط النقل (للبضائع والمسافرين) وعلاقات الناس ببعضها، ويستطيع كذلك أن يأمر بالدفاع في يوم أو التخلّي عن الدفاع إذا كان في ذلك مصلحة، أو توقيع معاهدات مفيدة. إنّه يستطيع اتّخاذ قرارات في مجال تطوير الثقافة الخاصة بالدين أو بالحياة الرغيدة للناس، ويبذل نشاطات مكثّفة في هذا المجال، كما يستطيع في يومٍ ما أن يغضّ النظر عن بعض العلوم ويحضّ على دراسة علوم غيرها.

وخلاصة القول: (إنّ وضع أيّة قوانين جديدة تعود بالفائدة على المجتمع وتنتهي لصالح الإسلام والمسلمين، هو من اختصاص ولي الأمر، وليست هناك أيّة محدودية  في وضع مثل هذه القوانين أو تطبيقها، وبديهي أنّ مثل هذه القوانين وإن كانت لازمة التنفيذ كما ينصّ الإسلام على ذلك، ويتعيّن على الفقيه العمل بها وتطبيقها، فهي لازمة الإطاعة، ومع ذلك لا تعدّ شريعة إلهية، لأنّ قيمة مثل هذه القوانين تتوقف ـ بالطبع ـ على الوضع الذي يتطلّب تشريعها، فهي تذهب حال انتفاء المصلحة، وفي هذه الأثناء يعلن ولي الأمر السابق أو ولي الأمر الجديد عن القوانين الجديدة للناس وينسخ القوانين السابقة). 40.

**********  تحديد معنى المصلحة:  في هذا المجال لا يوجد في الفقه الشيعي تاريخياً معنى واضحاً وتحديداً بارزاً لعناوين المصلحة المرتبطة بالأمّة الإسلامية، باعتبار أنّ الشيعة كانوا خارج إطار الحكم والسلطة ويمارسون التقيّة للحفاظ على وجودهم في ظلّ السلطات التي كانت تحكم العالم الإسلامي، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ هناك مشكلة في هذا المقام، لأنّ عناوين المصلحة متّفق عليها بين المسلمين باختلاف مذاهبهم على ضوء القوانين الإسلامية الثابتة.

                ولهذا يمكن القول بأنّ معنى المصلحة هو (المحافظة على مقصود الشرع) ومقصود الشرع خمسة: هو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلّ ما يتضمّن هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة) 41.

               وللمصلحة تقسيم آخر باعتبار ما لها من الأحكام حسب مرتبتها وأهميتها في حياة المسلمين، وهذا التقسيم هو التالي:

أولاً- "الضروري": وهو "المتضمّن لحفظ مقصود من المقاصد الخمسة التي لم تختلف فيها الشرائع بل هي مطبّقة على حفظها"، ويقول الغزالي :(وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع يقتل الكافر المضلّ، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإنّ هذا يفوّت على الخلق دينهم، وقضاؤه بايجاب القصاص إذ به حفظ النفوس، وايجاب حدّ الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وايجاب حدّ الزنا إذ به حفظ النسل والأنساب، وايجاب زجر الغُصّاب والسُّراقِ إذ به حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرّون إليها)، ثمّ يتابع فيقول: (وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليها ملّة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر)42.

ثانياً- "الحاجي": وهو "ما يقع في محلّ الحاجة لا الضرورة، كتشريع أحكام البيع والإجارة وسائر أنواع المعاملات التي يحتاجها الناس في تحصيل أمور معاشهم".

ثالثاً- "التحسيني": وهو "ما لا يرجع إلى ضرورة أو عادة" ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير.

                 ومن الواضح أنّه بهذا التقسيم للمصلحة بحسب رتبتها وأهميتها يمكن أن نجعله متناسباً مع تقسيم القوانين الإسلامية إلى الثابتة والمتغيّرة، فما هو الضروري من المصلحة يدخل تحت القوانين الثابتة وكذلك المصلحة المحكومة بحكم الحاجة من جهة مبادئها تدخل ضمن إطار القوانين الثابتة أيضاً، وأمّا تطبيقات المصلحة المحكومة بحكم حاجة المسلمين إليها والمصلحة التحسينية يدخلان في القوانين المتغيّرة التي يلعب الزمان والمكان والظرف الدولي الذي تتواجد فيه الأمّة الإسلامية ويعود القرار فيهما للولي الفقيه بمشاورة أهل الخبرة والإختصاص على النحو الذي أسلفنا الكلام فيه، وكذلك يلعب الوضع الداخلي للأمّة الإسلامية دوراً في تحديد القرارات التي يتّخذها الولي الفقيه في هذا المجال أيضاً.

*********** تطبيقات لحكم الولي الفقيه:    من الواضح جداً بعد كل الذي تقدّم أنّ المقدمات الموضوعية التي تحضر بين يدي الولي الفقيه يمكن أن تحصرها في الحالات التالية:

الحالة الأولى- وضوح تشخيص المصلحة من خلال المقدمات: في هذا المقام فإنّ حكم الولي الفقيه لا بدّ أن يكون بالإيجاب لتحقيق المنافع العائدة للأمّة الإسلامية باعتبار أنّ المصلحة مشخّصة تماماً من خلال المقدّمات الموضوعية التي تحقّقت عند الولي الفقيه من خلال المجريات والوقائع، وكمثالٍ على ذلك الإستفتاء الذي حصل في الجمهورية الإسلامية بعد انتصار الثورة على نوعية النظام الذي يريده الناس، فبما أنّ المقدّمات كانت ايجابية جداً من خلال مجريات الثورة والتضحيات الكبيرة التي قدّمها المسلمون كان واضحاً أنّ خيار الناس كان هو التصويت لصالح النظام الإسلامي، ولهذا كان قرار الإمام الخميني(قده) بإجراء الإستفتاء لوجود المصلحة الواضحة في   ذلك وقد تحقّقت بالفعل.

الحالة الثانية- وضوح تشخيص المفسدة من خلال المقدّمات: وفي هذا المقام فإنّ حكم الولي الفقيه لا بدّ أن يكون بالسلب لدفع المفسدة الواضحة والمشخّصة من خلال المقدمات الموضوعية الحاصلة عنده، وكمثالٍ على ذلك تحريم التنباك وهو الحكم المعروف عن الميرزا الشيرازي أيام حكم الأسرة الكاجارية لأنّ من لوازمها الحتمية آنذاك كان وقوع إيران وشعبها المسلم تحت رحمة الإستعمار الإنكليزي، وكذلك حكم الإمام الخميني(قده) بتحريم "مشروع فهد" الخياني الذي انعقدت من أجله قمة عربية في المغرب عام 1981 والذي كان من أهم أهدافه الإعتراف بإسرائيل، لأنّ المفسدة في هذا الأمر واضحة جداً لما تمثله إسرائيل من وجود غصبي عدواني على حساب الأمّة العربية والإسلامية، وهذا فيه من المفاسد الواضحة ما لا يخفى.

الحالة الثالثة- التعارض بين المصلحة والمفسدة من خلال المقدّمات: وفي هذا المجال لا بدّ للولي الفقيه من التقدير الواقعي لكلّ ما يترتّب على المصلحة من جهة من منافع، وما يترتّب على المفسدة من أضرارٍ وخسائر، ثمّ يقارن ذلك كلّه ببعضه البعض ليحصل على النتيجة النهائية التي قد تؤدّي إلى إصدار الحكم على ضوء تغليب جانب المصلحة أو على ضوء تغليب جانب المفسدة، وهنا لا شكّ تلعب الشورى دوراً مهماً في رفد الولي بالآراء الناضجة والمدروسة بعناية في الإطمئنان إلى النتائج المتوقّعة لأحد الخيارين، وكمثال على ذلك، القرار الذي اتّخذه الإمام الخميني(قده) بقبول القرار رقم 598 الصادر عن مجلس الأمن والمتضمّن لوقف الحرب بين إيران والعراق، وذلك لأنّ التعارض كان بارزاً بين المصلحة في إستمرار الحرب حتّى إسقاط النظام العراقي وبين الأضرار والخسائر الضخمة جداً التي يرتّبها استمرارها، فالإمام (قده) نظراً لما تحقّق عنده من الضرر الكبير في الإستمرار أصبح الترجيح عنده لجانب المفسدة أكثر ممّا هو لجانب المصلحة وكان ذلك القرار الشهير المتّخذ بقبول القرار ووقف الحرب، وكذلك القرار في دخول الحالة الإسلامية في لبنان معترك الإنتخابات النيابية يمكن أن يكون تطبيقاً لهذه الحالة من التعارض بين المفسدة من البقاء خارج المجلس النيابي أو الدخول إليه بسبب المصلحة الواضحة في ذلك.

************ كلمة أخيرة: وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ نظرية ولاية الفقيه التي يتولّى فيها الفقيه حقّ إصدار القرار بالإستناد إلى علمه فيما هو من مجالات اختصاصه أو بالرجوع إلى أهل الخبرة والإختصاص وأهل الرأي والمشورة فيما هو خارج عن محلّ اختصاصه هي الصيغة المناسبة بل الأنسب للأمّة الإسلامية بملاحظة الشروط التي اعتبرها الشارع واشترط تحقّقها في شخص الولي الفقيه حتّى لا تتحكّم العقلية الفردية الإستبدادية بالأمّة ومصالحها.

                وهذه الصيغة هي التي أثبتت قوّتها وجدارتها إلى الآن من خلال الجمهورية الإسلامية التي قادها الإمام الخميني(قده)، ويقودها الآن من بعده ولي أمر المسلمين آية الله السيد الخامنئي حفظه الله وأدام ظلّه.

                                                               والحمد لله ربّ العالمين

 

الهوامش:

1ـ مجلة المنطلق ـ العدد 54 ـ بحث تعريف ولاية الفقيه.

2ـ وسائل الشيعة ـ المجلد 18 ـ القضاء ـ أبواب كيفية الحكم وإقامة الدعوى ـ باب 3 ـ ص170 وما بعد.

3ـ وسائل الشيعة ـ المجلد 16 ـ كتاب الإقرار ـ ص 110 وما بعد.

4ـ يعتبر الشارع المقدس أنّ الخصومة تنتهي ظاهرياً بحكم القاضي حسماً للمنازعات الخارجية.

5ـ سورة الإسراء ـ الآية 36.

6ـ سورة يونس ـ الآية 36.

7ـ سورة الأنعام ـ الآية 116.

8ـ وسائل الشيعة ـ المجلد 18 ـ أبواب صفات القاضي ـ باب 4 ـ حديث 33 ـ ص16

9ـ وسائل الشيعة ـ المجلد 18 ـ أبواب صفات القاضي ـ باب4 ـ حديث 1 ـ ص9.

10 ـ وسائل الشيعة ـ المجلد 18 ـ أبواب صفات القاضي ـ باب 4 ـ حديث 6 ـ ص11.

11ـ في الخطبة (131) نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب( عليه السلام).

12ـ سورة النساء ـ الآية 59.

13ـ سورة المائدة ـ الآية55.

14ـ مجلة المنطلق ـ العدد 46 ـ بحث الأصول العقائدية لولاية الفقيه.

15ـ كتاب الكافي ـ الجزء الأول ـ ص 407.

16ـ في الخطبة (173) نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب( عليه السلام).

17ـ تحف العقول ـ ص 261 ـ بحار الأنوار ـ ج 78 ـ ص80.

18 ـ سورة الشورى (الآيات 35،38).

19ـ سورة آل عمران ـ الآية 195.

20ـ الدر المنثور ـ ج2 ـ ص90.

21ـ من لا يحضره الفقيه ـ ج4 ـ ص 385.

22ـ سورة محمد ـ الآية 26.

23ـ سورة الأحزاب ـ الآية 36.

24ـ الدر المنثور ـ ج1ـ ص106.

25ـ تفسير أبي الفتوح ـ ج10 ـ ص 65 ـ ج3 ـ ص228.

26ـ تفسير أبي الفتوح ـ ج10 ـ ص 56.

27ـ التوحيد للصدوق ـ ص 376.

28 ـ نهج البلاغة ـ باب الكلمات ـ 192.

29 ـ تفسير التستري ـ ص 28.

30ـ البحار ـ ج75 ـ ص 105.

31ـ مستدرك الوسائل ـ طبعة مجربة ـ ج2 ـ ص 62.

32ـ غرر الحكم ـ رقم 5834.

33ـ أمالي الصدوق ـ ص 182.

34ـ كتاب المحاسن ـ ص 602 ـوسائل الشيعة ـ ج8 ـ 426.

35ـ مسند أحمد بن حنبل ـ ج2 ـ ص 321.

36ـ الجامع الصغير ـ ج2 ـ ص 326.

37ـ عيون أخبار الرضا( عليه السلام) ـ ج2 ـ ص 66.

38ـ سورة الحشر ـ الآية 7.

39ـ أصول الكافي ـ ج1 ـ كتاب فضل العلم ـ باب البدع ـ حديث 19.

40ـ كتاب "بين ولاية الفقيه وحكم الشعب" ـ ص26 ـ طبع منظمة الإعلام الإسلامي ـ سنة 1405 ه.

41ـ المستصفى للغزالي ـ ج1 ـ ص140.

42ـ إرشاد الفحول ـ ص216 ـ المستصفى للغزالي ـ ج1 ـ ص140.


"التعليقات المنشورة لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع، كما ولا يتحمّل الموقع

أي أعباء معنوية أو مادية إطلاقاً من جراء التعليقات المنشورة"


أضف تعليقاً


كود امني
تحديث