أولوية العدالة وأصالتها
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2122
من هذا الجزء لخطاب الإمام الخميني المقدّس ننطلق للكلام عن التشريع الإسلامي والقوانين الوضعية لأنّ هناك فوارق مهمّة وأساسية بين الأمرين تجعل من كلّ منهما له كيانية مستقلّة عن الأخرى، ولا ينسجم أحدهما مع الآخر، بل لا يقبلان التعايش معاً وفي ذات الوقت، هذا في حال وجود دولة إسلامية تطبّق الشرع الإسلامي كاملاً غير منقوص، وكلامنا هو في مورد وجود دولة إسلامية، أمّا إذا كانت الدولة غير إسلامية بحسب قوانينها وأنظمتها فهنا يكون المسلم في الموارد التي لا يستطيع أن يطبّق فيها أحكام الإسلام مضطرّاً إلى التزام قوانين الدول التي يعيش فيها إلى أن تحين الفرصة المناسبة لإقامة الدولة الإسلامية التي تحكم بشرع الله ونظامه.
وحتّى لا نطيل الكلام في المقدّمات ننتقل مباشرة إلى الفوارق بين التشريع الإسلامي والقوانين الوضعية التي تسيطر اليوم على أنظمته أغلب دول العالم هي:
*أولاً: التشريع الإسلامي ليس بشريّاً، وليس للبشر دخالة في وجوده، بل هو تشريع إلهي أنزله الله على رسوله محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) لتسير الناس على هداه لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وهو التشريع الذي انتخبه الخالق الذي يعرف البشر واحتياجاتهم لأنّه هو الذي خلقهم من العدم، وهو بالتالي يعلم ما ينفعهم وما يضرّهم، وما يفسدهم وما يصلحهم، كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من شيء يقرّبكم إلى الله إلاّ أمرتكم به، وما من شيءٍ يبعدكم عن الله إلاّ ونهيتكم عنه). بينما القانون الوضعي هو الذي شرّعه الإنسان من تلقاء نفسه ليحكم نفسه والآخرين به إنطلاقاً من الحاجة إلى وجود قانون ينظّم ويشرّع العلاقات بين البشر، لأنّ الإنسان أدرك بفطرته أنّ الحياة لا تستقيم بلا وجود قانون ونظام، وأنّ النظام حاجة إجتماعية وإنسانية أدرك الإنسان أهميتها منذ بداية تكوّن المجتمعات في صورتها البدائية وصولاً إلى المجتمعات الحديثة، وهذا الفارق بين التشريعين ينسحب على كلّ ما يتفرّع عنهما كما سوف نبيّن.
*ثانياً: التشريع الإسلامي لا يقتصر على الجوانب المادية من الحياة البشرية كالمعاملات بأنواعها وقوانين الأحوال الشخصية والإرث وما شابه، بل يشمل الجوانب الروحية والمعنوية للإنسان والتي لا غنى له عنها إنطلاقاً من أنّ الإسلام هو دين الدنيا والآخرة وليس دين الدنيا فقط، وهو يعطي للمسألة الروحية مساحة كبيرة ومهمّة ويعتبرها الأساس في مسيرة الإنسان المسلم في الحياة الدنيا، لأنّها تجعله إنساناً سويّاً مستقيم السلوك والفكر، فلا ينجرف مع تيارات الفساد والأهواء المضلّلة والغايات الهدّامة والفاسدة، وتجعله يعيش الدنيا وهو ينظر إلى الآخرة، ويعيش الآخرة وهو حيّ في هذه الدنيا طبقاً للحديث النبوي: (إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، وإعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً). وبينما القانون الوضعي لا يقتصر إلاّ على الجانب المادي من حياة الإنسان فقط ويهمل الجوانب الروحية والمعنوية كلياً ولا يعتبرها جزءاً من نظامه وقانونه، ويعتمد على مقولة :(فصل الدين عن الدولة) كما يقول المثل الشائع عندهم :(ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، ولا شكّ أنّ مثل هذا النظام الذي يغفل النظر عن الجوانب الروحية الإيمانية لن يستطيع أن يلبّي حاجات الإنسان في غير الجوانب المادية، ولذا نرى أنّ البشر عبر التاريخ الطويل ممّن كانوا يلتزمون قوانين وضعية كانوا يبحثون عن وسائل الراحة والأمان والطمأنينة في فلسفات وعقائد روحية تعويضاً عن ذلك النقص الموجود في القوانين الوضعية، وهذا ما نراه عند دراسة تاريخ الشعوب القديمة وما تركوه من آثار تدلّ على ديانات كانوا يؤمنون بها لإشباع حاجاتهم الروحية، وكذلك اليوم حيث نرى أنّ الدول التي تعتمد الأنظمة الوضعية وتعيش الفراغ الروحي والخواء الإيماني يبحث مواطنوها هنا وهناك في العالم بحثاً عن أشياء تشبع نهم أرواحهم إلى الأمان والهدوء والسكينة، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ التشريعات الوضعية لم ولن تستطيع أن تسدّ هذا النقص الكبير والخطير في حياة البشر، لأنّ الإنسان محدود القدرة والإمكانات العقلية والجسدية، وغير قادر على الإحاطة بكلّ ما يحتاجه في الجوانب المادية والروحية، ولذا تحدّى الله الإنسان في القرآن الكريم بقوله :{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه ـ أي الله ـ الحقّ}، ومن هنا نعتبر أنّ كل السلوك المنحرف والركض وراء الشهوات والملذّات المحرّمة واستباحة القتل وارتكاب الجرائم على أنواعها هي نتاج فراغ القوانين الوضعية من الأنظمة الروحية التي تضع الحدود والضوابط الأخلاقية للسلوك الإنساني السوي والمستقيم.
*ثالثاً: إنّ القانون الإسلامي حتّى في الجوانب المادية له حدود وضوابط لا بدّ من الوقوف عندها وعدم تجاوزها لأنّ التجاوز فيها يعتبر دخولاً في المحرّمات الإلهية التي نهى الله المسلمين عن الإقتراب منها كشرب الخمر والزنا والفسق والفجور والعري ولعب القمار وإشاعة الفحشاء والمنكر، وذلك ضماناً لحفظ المجتمع من الإنحراف الأخلاقي والسلوكي وعدم الإنغماس في الملذّات والشهوات، ويعتبر الإسلام ما ذكرناه جرائم يعاقب عليها بالجلد تارة، والحبس أخرى، والقتل في أحيانٍ أيضاً، لأنّ وجود أمثال تلك المنكرات وإشاعتها تدمّر حياة المجتمعات على المستوى الإنساني والأخلاقي، لأنّ الإسلام يعتبر أنّ الحياة الدنيا ليست مطلقة للإنسان يتصرف فيها بما تهواه النفوس ولو كان حراماً ومبغوضاً عند الله عزّ وجل، بل الحياة الدنيا هي طريق الآخرة ومفتاحها للوصول إلى برّ الأمان وإلى جنّة الخلد التي وعد الله عباده المؤمنين بها. بينما نرى أنّ القوانين الوضعية تعطي الشرعية لكلّ ذلك إمّا بنحو مطلق أو ضمن حدود معيّنة، وتعتبر أنّ تحريمها أو إلغاءها من حياة الناس هو اعتداءٌ على الحرية الشخصية للفرد مع أنّ ذلك محلّ اشتباهٍ كبير، وهذا ناتج بالطبع عن كون القانون الوضعي لا حدود له ولا ضوابط، بل وظيفته شرعنت كلّ ما هو موجود ولو كان حراماً ضمن النظام الإسلامي لكن مع وضع ضوابط وقيود معيّنة كما يتوهمون حفاظاً على السلامة العامّة وأمن المجمتع، مع أنّ ذلك لا يتحقّق بالفعل إلاّ باقتلاع هذه المفاسد من جذورها ومن أصلها.
*رابعاً: إنّ التشريع الإسلامي يتضمّن ما هو ثابت غير قابل للتغيّر والتبدّل ولو تغيّرت من الظروف بسبب التطوّرات التي تحصل في المجتمعات كالنظام العبادي وأمّهات الأمور الداخلة في صميم الحياة الإجتماعية والإقتصادية والتربوية والمالية للناس، فمثلاً الربا حرام والزنا حرام والصلاة واجبة والصوم والحج واجبان، فهذه الأحكام لا تقبل التغيير ولا التبديل، نعم ما يتفرّع من بعض الأحكام في المسائل التفصيلية نتيجة تطوّر الحياة الإنسانية يمكن أن يتغيّر فيتغيّر معه الحكم تبعاً لذلك أو لا يعود لبعض الأحكام مجال من تطبيقها كما في حكم كراهة تلقّي الركبان مثلاً الذي كان يفتي به الفقهاء قديماً ولم يعد له مورد في أيامنا نتيجة تطوّر عالم الإتصالات والمواصلات في آن.
بينما نجد أنّ التشريع الوضعي متعدّد ومتنوّع بتنوّع الشعوب والثقافات، وقد يتمّ إلغاء قانون وضعي ما كلياً وبتبديله بآخر كما في الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية أو بالعكس وما شابه ذلك، وكلّما طرأ تطوّر جديد اخترعوا تشريعاً ينظّمه، بينما في الإسلام كلّ تطوّر يطرأ على حياة البشر له أساس في الشريعة الغرّاء، وما على الفقهاء إلاّ تطبيق الأحكام والقواعد الإسلامية على كلّ ما يتجدّد ويتطوّر في حياة الناس والمجتمعات.
*خامساً: نعتبر أنّ الفارق الأهم والرئيس بين التشريع الإسلامي وبين القانون الوضعي، أن التشريع الإسلامي هو تشريع إلهي يريد أن يرفع مستوى الحياة البشرية إلى الحدّ الذي يليق بالإنسان أن يكون خليفة الله حقاً في هذه الحياة الدنيا، وخلافة الله في الأرض هي الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان، والتشريع الإسلامي إذا تمّ تطبيقه كما هو وكما أنزله الله على النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) لتحقّق مجتمع العدل الإلهي ولتجسّد معنى الإستخلاف حقيقة. بينما القانون الوضعي لا يبالي بهذا الجانب ولا يعطيه الأهمية المطلوبة، بل قد لا يعترف بوجود مثل هذه الأفكار أصلاً، وهو قانون ينطلق من الوقائع الموجودة فيجعل له أنظمة ترتّبها، ويخترع أنظمة جديدة لكلّ ما يطرأ من مستجدّات بغضّ النظر عن المفاسد والأضرار التي قد يسبّبها ذلك للمجتمع، ومن دون الأخذ بعين الإعتبار آراء الملتزمين بالإسلام أو بغيره من الأديان تطبيقاً لمقولة الفصل التام بين التشريعين الديني والإسلامي خصوصاً والوضعي بشكلٍ عام.
ممّا سبق نقول أنّ كل مآسي البشرية والفظيعة منها خصوصاً نتجت عن الإبتعاد عن القانون الإسلامي والإلهي بشكلٍ عام وإن كنّا نعترف أنّ المسلمين أنفسهم اليوم لا يطبّقون الإسلام في عالمهم الخاص، بل يعملون بالدساتير الوضعية التي صاغها المستعمر وحكمونا بها عندما سيطروا على بلادنا ومقدّراتنا بسبب قواهم العسكرية والتكنولوجية.
وإنّ من أكبر مآسي القوانين الوضعية أنّ القوي يصوغها بالطريقة التي تجعله قادراً على الإستقواء واستعباد الشعوب، بل قد يتجاوزها أحياناً ويضرب بها عرض الجدار إذا لم تحقّق له ذلك كما تفعل أمريكا اليوم التي تريد أن تجعل من قانونها ونظامها عالمياً بحيث تذوب كلّ الثقافات وتلتغي كلّ الأديان لتحلّ محلّها الثقافة الأميركية ـ ثقافة الأقوى عسكرياً وتقنياً وأسلحة دمار شامل ـ سواء بالقوّة أو بالإختيار، بينما التشريع الإلهي عموماً والإسلامي خصوصاً لا يستعمل أساليب الإكراه في إقناع الناس، بل يستعمل أساليب الحجّة والدليل والبرهان كما قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي}، وكما في قوله تعالى الآخر: {ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة}.
ونسأل الله في الختام أن ينصر دينه وأن يعجّل في فرج مولانا صاحب العصر والزمان ليكون تشريع الله هو الحاكم والمهيمن ولتشرق الأرض بنور ربّها ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
والحمد لله ربّ العالمين