التدبر في القرآن الكريم
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 1715
ومن هنا أمرنا الله سبحانه بأن نتدبر هذا القرآن وأن نمعن النظر فيه وأن نتخذه معيناً أساسياً لنا لنستلهم منه ما يوضح أمامنا السبل التي تجعلنا من الذين يسيرون في هذه الدنيا مزودين بنور هذا القرآن حتى لا نضيع أو ننحرف عن الوظيفة الأساس المطابقة لموقعية الإنسان ودوره الرائد في الحياة الدنيا وفي عالم الآخرة.
ولا شك بأن الله عندما يستنكر علينا عدم تدبرنا في القرآن , فهذا يرمز إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم الذي يمكن أن يقع فيه البشر عندما لا ينطلقون منه, وعندما يضعونه وراء ظهورهم منبوذاً غريباً عن حياتهم, ومهجوراً في معارفه الإنسانية , وهذا الاستنكار هو الذي تشير إليه الآية الكريمة: ( أفلا يتدبرون القرآن, أم على قلوب أقفالها).
ويتميز القرآن الكريم بمواصفات عديدة أساسية تعتبر الأركان التي من أجلها كان الأمر بالتدبر , ومن جملة هذة المواصفات:
أولاً: الثبات بمعنى عدم التحريف. وهذة الصفة ضرورية جداً خاصة إذا علمنا أن هذا الكتاب السماوي هو الخاتم مما أنزله الله عن طريق الرسل, حيث إن الكتاب الذي حوى بين دفتيه ما نزل قبله, وهو الحلقة الأخيرة من سلسلة كتب الهداية الإلهية والذي أريد له أن يستمر مع الإنسانية في كل مراحلها اللاحقة ليقوم بدوره في الوعظ والإرشاد والهداية إلى الله, لأن دور الرسل قد أختتم بمحمد (صلى الله عليه وآله) , ويراد للقرآن أن يقوم بهذا الدور المهم, فمن لوازم كونه كذلك أن يكون محفوظاً من التحريف والتلاعب ليبقى ممارساً لوظيفته, وهذا ما تحقق على امتداد العهد الإسلامي حيث تعهدت الأمة بالعناية بالقرآن من كل النواحي فاستمر كما هو على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وقد قال الله عز وجل عن ذلك: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
ثانياً: التماسك, ومنطلقنا في الحديث عن هذة الصفة هو قول الله تعالى: ( لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً), وهذا التماسك هو عبارة عن الترابط الذي يوضحه القرآن بين كل ما هو كائن في هذه الدنيا, والدور المطلوب من كل موجود فيها بلا أي تعارض بينها, فكل موجود يقوم بعمله سواء في مجال الإجبار كما في حركة الكائنات غير الإرادية أو في مجال الاختيار كما في حركة الإنسان وهو المميز بهذة الصفة وهو المخاطب بصفة التماسك القرآنية.
وفي هذا المجال نرى تركيز القرآن الكريم على طريقة خلق الإنسان في أطواره المختلفة , ثم نرى اهتمامه بعرض كل ما هو مسخر للإنسان ليكون عوناً له على القيام بوظيفته على الوجه الأحسن والأفضل, ثم يسير القرآن مع الإنسان الى الأهداف المطلوبة, منه في الدنيا وهي السعي والعمل لتحكيم شريعة الله وجعل الحياة قائمة على أساسها, ويحث الناس على الجهاد في سبيل الوصول الى ذلك, ثم يربط كل هذا التحرك المتنوع في الدنيا بعالم الآخرة التي يوضح فيها القرآن المسارات النهائية لحركة الإنسان الدنيوية على مستوى الآخرة, وبذلك تكتمل الرؤية القرآنية المتماسكة التي تبدأ من أول مشروع خلق الإنسان وصولاً الى مقره النهائي في الجنة أو النار.
ولا شك أن صفة التماسك هذه من أهم نتاجاتها على مستوى الحياة الإنسانية هو " الاستقرار والتوازن الإنساني" الذي لا يرى فيه أي تناف أو تهافت أو اختلاف بين الإنسان ووظائفه في الحياة الدنيا والأهداف الأخروية التى هي الأساس من المنظار الإلهي والقرآني, ولا شك بأن هذا التماسك ينتج التنسيق والإنسجام بين كل عمل الإنسان وينعكس قيمةً لهذا العمل الذي يقوم به لأنه عمل هادف لا لغو فيه ولا ابتعاد لأنه ينطلق من القاعدة الإلهية ليعودوا إليها في نهاية المطاف.
ثالثاً: "الاتعاظ والاعتبار" وهذة الصفة نلمسها بصورة جلية وكبيرة جداً على امتداد مساحة القرآن في سوره وآياته,لأن هذا الكم المتنوع والمتعدد من التجارب الإنسانية والذي يمثل "التراث الإنساني" بما يحتويه من العبر والدروس والنتائج الإيجابية والسلبية هي خير معين لهذا الإنسان الذي لا يستطيع أن يتحرر من سجن الحاضر الى الماضي البعيد و القريب وليستكشف نتائج رحلة الإنسان الطويلة, ولا يستطيع الذهاب إلى المستقبل ليحقق ما يريد أو ليطلع على ما كان ينبغي عليه أن تكون الحياة الإنسانية, وبهذا يضع القرآن الكريم قضية الصراع بين الإيمان والكفر, وبين الحق والباطل, وبين الخط الإلهي والخط الشيطاني عبر ذكر النماذج المتنوعة من الحياة الاجتماعية للشعوب والأمم حتى يقرأها الإنسان من زاوية هذا الصراع ومن خلفيته, ليتمكن من أن يستفيد من كل ذلك على ما يساعده في حركته السائرة نحو الحق تعالى.
وبهذا يمتاز القرآن عن كل كتب التاريخ التي أعدت لتدوين التاريخ الإنساني منذ بدء الخليقة والى الآن, إلا أنها لم تعط قضية الصراع بين الإيمان والباطل الموقعية الأساس, ولم تنطلق منها في كتابة ذلك التاريخ على أنه سلسلة من الحلقات في قضية الصراع الأكبر المستمر منذ بداية الخلق بين الإيمان والكفر ويحكم على كل حلقة منها بما يتناسب مع حركة الصراع.وهذا ما يتضح من دراستنا لمجموعة الشعوب والأمم التي قد ذكرها الله في كتابه منذ نوح(عليه السلام) وحتى عصر النبي محمد (صلى الله عليه وآله) حيث يتعرض القرآن لذكر أنواع كثيرة من البلاء تعرض لها المؤمنون في مواجهة الكافرين المستكبرين, ومع هذا لم يرضخوا ولم يستسلموا وخلدهم الله بآياته التي تتمحور حول قوله تعالى: ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) وقوله الآخر: ( ثلة من الأولين, وثلة من الآخرين).
وبهذا تكون قصص تلك الشعوب طريقاً لزرع القوة والإرادة في مواجهة الواقع الصعب الذي قد يمر فيه الإنسان المنطلق من الله والصائر اليه في هذة الدنيا, حيث يتعبأ بالقوة المستمدة من تاريخ القوة عند كل أولئك الذين ساروا مع الله في التاريخ وصبروا على كل الأذى حتى نالوا ما أملوا إن لم يكن في الدنيا ففي عالم الآخرة عند المليك المقتدر الجبار الرحيم.
رابعاُ: "ترشيد الإنسان" ومما لا شك فيه أن القرآن هو كتاب صياغة الإنسان وصنع الإنسان بأبعاده الإلهية, وهذا النحو هو الذي يتلاءم مع الصفات السابقة التى ذكرناها, بل لعل هذه الصفة هي محط نظر هذا الكتاب وما سبق يشكل عناصر العمل والحركة الهادفة المطلوبة من الإنسان, وقد اهتم القرآن بهذا الجانب الاهتمام المطلوب الذي يحقق الغاية منه, ولهذا نرى القرآن يكثر من ذكر ( يا أولي الألباب) أو ( لعلكم تعقلون) أو ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أو ( لعلكم تتفكرون) أو ( لعلكم تذكرون) أو ( لعلهم يرشدون) أو ( لعلهم يفقهون) أو ( لعلهم يحذرون) أو ( لعلهم يشكرون).
ومن هنا نرى أن القرآن ينظر إلى الإنسان على أنه الوسيلة التى خلقها الله لبناء الحياة بالطريقة التي يبرز فيها هذا المخلوق كل إمكاناته وقابلياته الروحية والفكرية في صورة العمل المؤسس في الحياة الدنيا والمجسد للطروحات الإلهية, ولينتقل بعد ذلك الى عالم الآخرة مؤهلاً لدخول الجنة التى يحتاج دخولها ألى العمل الصالح الذي يكون الإنسان قد قام به في عالم العمل بلا حساب.
هذا غيض من فيض ذلك الكتاب الذي يكفيه قول الله فيه: ( بسم الله الرحمن الرحيم، ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون).
والحمد لله رب العالمين