أخلاقية القيادة عند الإمام "قده"
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 1665
وهذا السلوك الأخلاقي قد استطاع الإمام "قده" أن يجسّده بطريقةٍ جعلتنا نعيش عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمير ( عليه السلام) والأئمة ( عليهم السلام) فاختصر بذلك الزمن وطوى القرون، ممّا جعل الناس تقارن ما بين حياة ذلك القائد الربّاني المتواضع والملهم وبين حياة أولئك الجبابرة الذين يعيشون الترف والبذخ على حساب أموال الأمّة وثرواتها ويصرفون الكثير من تلك الموارد على منافعهم الشخصية وشهواتهم الشيطانية، وكلّ ذلك بدعوى أنّهم حكّام مسلمون.
وبالرجوع إلى النصوص التي تركها الإمام "قده" في هذا المجال نرى تركيزه الأكيد وتصميمه الشديد على كلّ أصحاب المواقع القيادية بأن يكونوا بسطاء في عيشهم، ومقتصدين في احتياجاتهم، ومراعين لأوضاع الناس الفقراء والمحتاجين العاجزين عن تأمين لقمة العيش إلاّ بشقّ الأنفس، ويقول "قده": (يجب أن يعيش أئمّة الجمعة الحياة البسيطة كما يعيش الناس، وأن يأمروا الناس في خطبهم بالتّقوى... حاولوا أن لا تتجاوزوا في حياتكم زيّ الطلبة، وإذا ارتفعتم من الناحية المعيشية فوق مستوى الناس فاعلموا أنّكم سوف تُطردون عاجلاً أو آجلاً).
إنّ الميزة العظمى للإمام الخميني "قده" في هذا الجانب الأخلاقي الرفيع، هو أنّه التزم سلوكاً أخلاقياً متسامياً من موقع حاكميته وقيادته للأمّة، وليس من موقع كونه رجل دين فقط، وهذا لعلّه أعظم أثراً وتربية وأنموذجية للناس، لأنّ بساطة العيش التي كانت عند علمائنا، إنّما لأجل أنّهم يحملون التراث الإلهي المحمدي الإمامي، ولم يكونوا في موقع القيادة والسلطة المباشرة، فلم يُبتَلوا بمسألة القيادة عبر العصور، ونحن لا نشكّ بأنّ علماءنا كانوا سيلتزمون أيضاً بهذا السلوك الجميل في حال وصلوا إلى مرتبة القيادة، إلاّ أنّهم لم يصلوا، والإمام "قده" له فضل السبق في هذا الأمر الخطير الذي أراد له أن يكون خير معينٍ وناصرٍ لمن يتولون أيّ منصبٍ قيادي في الدولة الإسلامية التي لا يمكن لمن يقود الأمور أن يعيش الترف والبذخ منفصلاً عن شعبه وأمّته وعن كلّ ما يمكن أن تعاني منه في هذا الجانب الحسّاس والمؤثّر سلباً أو إيجاباً تبعاً لطريقة عيش الفئة القيادية.
ولهذا نراه "قده" يؤكّد المرّة بعد الأخرى، فتارةً يخاطب النوّاب وأخرى أئمّة الجمعة والجماعة ونراه يحذّر المسؤولين جميعاً ومن هم في موضع القدوة للأمّة أن لا يجعلوا الدنيا أكبر همّهم ويقول: ( إنّ الأمّة تتوقع منكم... أن تكونوا مؤدّبين بآداب الإسلام، وأن تكونوا حزب الله، وأن لا تهتمّوا ببهارج الدنيا وزخارفها، وأن لا تبخلوا عن بذل كلّ ما تستطيعونه في سبيل إعلاء كلمة الإسلام وفي خدمة الأمّة الإسلامية، .. فإذا رأت الأمّة منكم خلاف ذلك، رأت أنّ همّكم ليس هو التوجّه إلى قوى الغيب بل هو همّكم الدنيا والمصالح الشخصية كما يفعل الآخرون... إذا رأتكم متنازعين على الدنيا متخاصمين في أهوائكم وقد اتّخذتم الدنيا متجراً من أجل الوصول إلى الأغراض الدنيوية الدنيئة ... فإنّ الأمّة سوف تنحرف حينئذٍ وسوف تسيء الظنّ بكم وتصبحون أنتم المسؤولون عن ذلك حينئذٍ).
إنّ نظرة الإمام "قده" في هذا الأمر هو أن يقتصد المسؤولون في أمور حياتهم على الضروريات "أي التي لا يمكن الإستمرار بدونها" وأن يتركوا الكماليات التي لا تشكّل ضرورة بل يمكن أن تكون ذا أثرٍ سلبي عليهم وعلى نظرة الناس إليهم، كما يطلب من جميع أصحاب مواقع القدوة إلى أن يأمروا الناس أيضاً بالإكتفاء ما أمكن بالمسائل الحياتية الضرورية ويقول "قده": (... وأن يوصوهم بمساعدة اقتصاد الدولة الذي هو اليوم من أهمّ الأمور بأن يجتنبوا الإسراف والتبذير والإنفاق على الكماليات والتجمليات).
ولا ريب أنّ بساطة العيش المستحبّة شرعاً على كلّ المستويات ومن كلّ طبقات المجتمع هي خير معينٍ ومساعدٍ لأيّ شعبٍ في الصبر والإستمرار في الخطّ الرسالي عندما تلجأ القوى المعادية لمحاربته في لقمة عيشه محاولةً إسقاطه أو محاصرته لرفضه الرضوخ لإرادتها والإنصياع لأوامرها، وقد لمسنا مدى الصلابة التي واجه بها الشعب المسلم في إيران كلّ المؤامرات الإقتصادية واستطاع أن يهزم كلّ الذين أرادوا إسقاطه بهذا الأمر.
والإمام "قده" قد استطاع تهذيب نفسه وتأديبها بهذا تماماً كما أوصى أمير المؤمنين ( عليه السلام) في كلمته الخالدة: ( من أراد أن يُنَصِّبَ نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، فمؤدّب نفسه ومعلّمها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم ) ،وقد سمع الإمام "قدهِ" قبل هذا وبعده قول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) :{ وإنّك لعلى خلقٍ عظيم } .
من أجل كلّ ذلك دخل الإمام القلوب واستوطن النفوس فحرّرها من أسر الدنيا وجعلها تتعلّق بساحة القدس الإلهي، تدافع وتقاتل وتقتصد وتضحّي في سبيل الإسلام ، فنقل بكلّ ذلك الأمّة من مواقع الإرتماء في أحضان الدنيا الفانية المتهالكة أمام مغرياتها ، إلى أمّةٍ تصغر الدنيا في عينها لأنّ الخالق كبر في نظرها ، فانطلقت إلى مواقع العزّ والشرف والكرامة والحرية والعزيمة متخلّية في سبيل ذلك عن كلّ ما يعيق حركتها وعملها ، والفضل كلّه لذلك القائد الربّاني العارف الذي أدّب نفسه فأدّب الأمّة وحقّق لها وجودها .والحمد لله ربّ العالمين .