"يوم القدس"
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 1444
يشكّل إعلان يوم القدس العالمي أحد أهم المسائل التي أثارتها الثورة الإسلامية المباركة بقيادة الإمام الخميني المقدّس، ذلك أنّ هذا الإعلان جاء في وقتٍ تعاني الأمّة فيه من خللٍ كبير في موازاة القوى العالمية الأخرى، وفي موازاة الكيان الغاصب الذي تحتلّ قوّاته الدخيلة تلك الأرض المباركة عند كلّ أهل الأديان بشكلٍ عام، وعند المسلمين بشكلٍ خاص.
ولهذا كان لا بدّ من الوقوف عند هذا الإعلان الريادي والمهم للنظر في دلالاته ومضامينه التي أراد لها الإمام"قده" أن تتحقّق في حياة الأمّة الإسلامية. إلاّ أنّه قبل البحث ينبغي التمهيد بمقدمة وهي: لقد كان الواضح من خلال تسلسل الأحداث منذ نشوء الكيان الغاصب ثمّ من خلال الحروب التي وقعت بينه وبين الدول العربية أنّ هناك منطقاً كان يُراد له أن يصبح في وعي العرب والمسلمين جميعاً وهو "أنّ الكيان الغاصب قد صار حقيقة قائمة وأنّه ليس هناك من مجالٍ لهزيمته ثمّ الإنتصار عليه" وهذا يعني في واقع الأمر ضرورة العمل على وقف الحرب والقتال والإعتراف بهذا الكيان المزروع في قلب عالمنا الإسلامي الكبير، وهذا الأمر كان الخدعة الكبرى التي أُريد لها أن تصبح حقيقة غير قابلة للنقاش، وقد شكّل كلّ هذا التسلسل للأحداث المقدّمات الممهّدة لإدخال هذا الكيان في عمق الشعور الشعبي الإسلامي العام.
والذي يمكن أن يشير إلى هذه الخدعة الكبرى هو الشعارات المرفوعة طوال فترة الصراع السابقة، حيث ابتدأت بتحرير كامل التراب المحتل، ثمّ من خلال الهزائم المتتالية كان ذلك الشعار يتقلّص تدريجياً إلى أن صارت مسألة تحرير فلسطين تخصّ الفلسطينيين وحدهم ، ممّا أدّى بالتالي إلى تغييب البعدين الإسلامي والعربي عن الصراع وعدم السعي بجدية عند شعوب هذين العالمين على مستوى الصراع مع إسرائيل.
وهذه الأجواء كلّها هي التي هيّأت الأرضية المناسبة نوعاً ما لخطوة السادات المبتورة الخيانية وهي "اتفاق كامب ديفيد" الذي كان من نتائجه الخطيرة على مستوى الصراع إخراج مصر وهي أكبر قوة عربية إسلامية من هذا الصراع ممّا أفقد العرب والمسلمين قوّة كان لها دورٌ كبير على مستوى التوازن في القوى مع ما هو عليه الكيان الغاصب.
وقد كان من الآثار المأساوية المباشرة لهذا الإتفاق الخياني هو "الإحباط الشديد" الذي سيطر على الساحة العربية عموماً وأرخى بظلّه الثقيل على مجمل حركة الصراع مع إسرائيل، بينما أعطى الكيان الغاصب مزيداً من القوّة في مواجهة الواقع العربي والفلسطيني من خلال رفع الضغط الكبير والخطر الشديد الذي كان يمثّله بقاء مصر في حلبة الصراع المباشر.
هذا هو باختصار الواقع الذي كان قائماً قبل بزوغ فجر الثورة المباركة في إيران الإسلام بقيادة الإمام الخميني المقدّس، وقبل إعلانه بأنّ آخر يوم جمعة من شهر رمضان من كلّ عام هو "يوم القدس".
وأمّا أبعاد هذا الإعلان فيمكن تحديدها بما يلي:
أولاً- "تحويل قضية فلسطين إلى قضية إسلامية": لأنّ الواضح من خلال حركة الصراع مع الكيان الغاصب أنّ البعد الإسلامي كان مُغيّباً بالكامل عن ساحة المعركة مع العدو، وإن كان له وجود في عمق الشعور عند العرب والمسلمين عموماً، إلاّ أنّه لم يكن بارزاً بشكلٍ يعطي المسألة ذات البعد الذي يحرّك المشاعر والأحاسيس ويدخل كلا الأمتين العربية والإسلامية في الصراع ويجعلهما مسؤولتين عن توفير الإمكانات لتسخيرها في المعركة، ولهذا لم يكن لقضية القدس وفلسطين امتداد على مستوى الشعار أو على مستوى العمل في عالمنا الإسلامي الكبير، ولا شكّ في أنّ إبعاد الشعار الإسلامي عن هذه المعركة كان من أهداف إسرائيل التي عملت دائماً على إبقائه بعيداً عن الدخول في المعركة ضدّها، ولهذا فقد سعت منذ أن قامت بمحاولة إقامة العلاقات مع بعض الدول الإسلامية وحقّقت اختراقات مهمّة في هذا المجال فقد كانت لها علاقات دبلوماسية مع كلٍّ من إيران وتركيا وغيرهما ممّا لعب دوراً في تغييب الشعار الإسلامي بالكامل. من هنا كان السعي الدؤوب عند الإمام"قده" لتركيز إسلامية المعركة مع الكيان الغاصب، لأن احتلال القدس لا يشكّل مجرّد استيلاء على قطعة أرض من دون تاريخ أو تراث، وإنّما هو احتلال لأحد أهم مقدّسات المسلمين نظراً لما تمثّله في الوعي الإسلامي الرسالي العام من قيمة معنوية كبيرة، فالقدس هي القبلة الأولى للمسلمين، وهي مسرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعراجه إلى السماء، وهي موطن أنبياء الله (عليهم السلام) ، واحتلال إسرائيل لها يعني القضاء على كلّ الرسالات الإلهية لمصلحة الصهيونية الحاقدة على كلّ الأديان والشرائع، وأنّ هذا الإحتلال هو المقدمة لذلك الهدف البعيد والخطير الذي يريد أن يصادر كلّ التاريخ الإلهي ليزيّفه من جهة، وليجعله تاريخاً يهودياً صرفاً من الجهة الأخرى، ولهذا كان الكيان الغاصب يقوم بالحفريات في مكان المسجد الأقصى في محاولةٍ واضحة لتزييف التاريخ الإسلامي وخداع شعوب العالم بذلك، وليست قضية إحراق المسجد الأقصى ببعيدة عن هذا الجو المخادع البعيد عن الواقع.
من هذا كلّه رفع الإمام "قده" شعاره الذي أطلقه: (إنّ يوم القدس، ليس يوم فلسطين فقط، وليس يوماً للعرب، إنّه يوم الإسلام..).
وهذا البعد هو الأساس عند الإمام الخميني "قده"، وهو البداية لإعادة تشكيل الوعي الإسلامي العام القائم على أساس أنّ احتلال القدس لا يشكّل خطراً على الهوية الوطنية الفلسطينية أو القومية العربية فقط، وإنّما هو خطر حقيقي على الهوية الإسلامية والتاريخ الإسلامي كلّه، وأنّ المسلمين جميعاً معنيون بالإهتمام بهذه القضية لأنّ إغفالها يشكّل خطراً لا يُستهان به على مستوى العقيدة الإسلامية.
ولهذا كلّه يقول الإمام الخميني "قده" :(إنّ يوم القدس هو يوم الولادة الإسلامية الجديدة، وعلى المسلمين أن يعوا أنفسهم) أو ( على كلّ مسلم أن يعدّ نفسه لمواجهة إسرائيل).
ثانياً- ربط المسلمين بالإسلام: وذلك لأنّ الربط الأكيد بين المسلمين وبين إسلامهم بحيث يشعر المسلم بالإنتماء الحقيقي إلى هذا الدين وينطلق منه في حياته على مستوى الوعي والحركة والصراع سوف يجعله على ثقة تامة من نفسه وقدراته الذاتية الإيمانية والمادية معاً ليتحرّر من كلّ تبعية أو استعباد، وليستعيد هويّته التي فقدها في مواجهة القوى المستكبرة المتسلّطة على رقاب الأمّة والمستعبدة لها والسالبة لكلّ ثرواتها وقوّتها، وقد كان الإمام "قده" يركّز كثيراً في هذا الجانب على ضرورة تحصيل الشخصية الإنسانية الموافقة لمفاهيم الإسلام وتشريعاته في كل المجالات كبديلٍ عن الشخصيات المزيّفة التي أريد للمسلمين أن يلبسوها في واقعهم بعيداً عن الإسلام، ولتربطهم بالتالي بتاريخ منسلخ عن حاضرهم وواقعهم، بل لا يتلاءم مع كلّ ما هم عليه من عادات وتقاليد وطريقة حياة، وهذا ما أدّى بالمسلمين لأن يعيشوا نتيجة ذلك حالة من التجاذب والصراع في مفهوم الشخصية في هذا العصر، فهم لا يريدون أن ينطلقوا من الإسلام، في الوقت الذي لم يستفيدوا من الشخصيات الأخرى التي أريد لهم أن يتقمّصوها.
هذا الضياع هو الذي سعى الإمام "قده" لإنقاذ الأمّة منه، وأن يثبت لها أنّ عودتهم إلى الإسلام كفيلة بأن تحقّق لهم شخصيّتهم المستقلّة، وقادرة هذه العودة على أن تجعلهم في هذا الزمن يتعاملون مع كلّ قضايا الواقع من خلال هذا الإسلام الذي يملك الحركية اللازمة لإدخالهم إلى عمق هذا العصر من موقع استقلاليتهم بإسلامهم، لا من موقع التبعية الرفيعة والذليلة للقوى المسيطرة في العالم، ولهذا كان شعار الإمام "قده" :(إنّ يوم القدس هو اليوم الذي يجب أن تعلن فيه الشعوب المستضعفة عن وجودها أمام المستكبرين).
من هنا يكشف الإمام "قده" أنّ يوم القدس هو يوم العودة إلى الذات وإلى الهوية الحقيقية ليكتشف الإنسان المسلم نفسه بدلاً من حالة الضياع التي يعيشها على هامش الأحداث والتأثير في العالم.
ثالثاً- إعتماد الجهاد سبيلاً للتحرير: وهذا ما نلحظه من خلال كون يوم القدس هو أحد أيام شهر رمضان المبارك، حيث تمتزج المعاني الروحية بالمضامين الجهادية لهذا الدين العظيم بملاحظة التاريخ الإسلامي العام الذي يحمل مناسبات عديدة سجّل فيها المسلمون عبر تاريخهم الطويل انتصاراتٍ مهمّة جداً في هذا الشهر، ومن أبرزها "معركة بدر" و"فتح مكة" في تاريخ صدر الإسلام زمن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ما أراد الإمام "قده" أن يوحي به للمسلمين من أنّ اغتصاب القدس لا بدّ أن ينتهي يوماً، وأنّ انتهاءه لن يكون إلاّ عبر سلوك خطّ الجهاد والتضحية والمقاومة، الذي أعطى للمسلمين عزّتهم وكرامتهم وحقّق لهم شخصيّتهم المستقلّة عبر التاريخ وجعلهم قادة الأمم والتاريخ الإنساني لقرونٍ طويلة، وأنّ خطّ الجهاد هو الكفيل بتحرير هذه الأمّة من كلّ واقعها المؤسف المليء بالتمزّق والتشتّت والإنهزام أمام القوى الكبرى، وأن عدم اعتماد الجهاد وسيلة للدفاع والتحرير، هو الذي ألجأ هذه الأمّة إلى سلوك سبيل المفاوضات المذلّ أمام غاصبيها لاستعادة الحقوق المغتصبة والتي لن تعود حتماً بهذا السلوك الخاطئ والسبيل المنحرف، لأنّه وإن أنتج شيئاً فإنّه لن يكون إلاّ على حساب ازدياد الإرتهان لهذه الأمة والإستسلام أمام جلاّديها من المستكبرين وربيبتهم إسرائيل".
لهذا سعى الإمام "قده" إلى تنوير الحالة الإسلامية عموماً حتّى يكون طريقاً لوصول هذه الأمّة إلى المستوى الذي تؤمن فيه بأنّ الجهاد هو طريقها للتحرير واستعادة الأرض والكرامة والحرية والقرار، ولهذا كان يرى أنّ هزيمة إسرائيل هي نتيجة حتمية لاتّحاد الأمّة وسلوكها خط الجهاد كما قال "قده": ( لو اتّحد المسلمون وألقى كلّ واحدٍ منهم دلواً من الماء على إسرائيل لجرفتها السيول) أو (يجب الإستفادة من الأسلحة المستندة إلى الإيمان من أجل تحرير القدس، لا من الآلاعيب السياسية).
هذه هي بعض الأبعاد الرئيسية والمهمّة لإعلان يوم القدس العالمي الذي أعلنه الإمام الخميني "قده" ليكون نقطة البداية للدرب الطويل لاستعادة الذات والهوية وتحصيل الحرية والكرامة واستقلالية القرار.
والحمد لله ربّ العالمين.