الخميس, 21 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

تعامل المقاومة الحضاري مع الإنتصار

sample imgage

بعد سنواتٍ طوال من الجهاد والتّضحية والإستشهاد مع ما رافق ذلك من الآلام والإبتلاءات تحمّلها شعبنا ومقاومته منذ الإجتياح الصّهيوني لبلادنا تحقّق الإنتصار الإلهي الرائع على العدو، حيث أجبرته المقاومة الإسلامية بصمود أبطالها وبعمليّاتها المجيدة التي استنزفت قدرات العدو على الإنسحاب الذليل والمهين للجيش الذي كان يعتبر نفسه الجيش الذي لا يُقهر.

وجاء هذا الإنتصار في لحظةٍ مهمّةٍ جداً على مستوى الصراع بين الأمّة الإسلامية والكيان الغاصب، حيث شرّعت الكثير من الدول العربية والإسلامية بإقامة العلاقات السياسيّة والإقتصاديّة مع ذلك العدو تمهيداً للإعتراف باغتصابه لفلسطين الحبيبة والقدس السليبة، وقد كان الكثير من هذه الأنظمة يتمنّى لو أنّ المقاومة لم تنتصر على هذا العدو ليبقى مشروعها الإستسلامي للعدو سائراً وفق المخطّط الذي رسمته إدارة "الشيطان الأكبر" أمريكا عبر مؤتمرٍ في مدريد وأوسلو وما تبعهما من إتّفاقات مع العدو لإنهاء الصراع.

 

وممّا لا شكّ فيه أنّ الإنتصار على العدو رافقه هزيمة عملاء العدو الذين ارتضوا لأنفسهم السير في طريق الخيانة العظمى للوطن والشعب ليكونوا في خدمة العدو الغاشم وليمارسوا الظلم والعدوان والجور ضد أبناء شعبهم الذين ذاقوا المرارات من جرّاء ممارساتهم والذين باعوا ضميرهم ووجدانهم للكيان الغاصب بثمنٍ بخسٍ.

إلاّ أنّ المقاومة الإسلامية التي انطلقت من عمق المبادئ الراقية التي يحملها الإسلام لم تعمل على الإنتقام من هؤلاء الخونة الساقطين، بل نرى أنّها تعاملت بتسامحٍ وبتعالٍ كبيرين على الجراح والآلام التي تسبّبت بها تلك الفئة الضاّلة المنحرفة من أبناء شعبنا، فلم تقتل عميلاً ولم تمارس عمليات التهجير والطرد لهم من قراهم، بل تركت هذه المهمّة للدولة لتقوم بمسؤوليّتها القانونية والجزائية بحقّ تلك المجموعة المارقة لتعطي صورةً زاهية مشرقة عن ذلك الإنتصار، وأنّ هزيمة إسرائيل وانسحابها لن يكون وسيلةً للإنتقام والتشفّي وسفك الدماء وتشريد العائلات، بل هو فرصةٌ ذهبيّة ليعود هؤلاء إلى حضن الوطن بعد أن يدفعوا جزءاً قليلاً من الثمن المتوجّب عليهم تجاه ما ارتكبوه من جنايات وخيانات بحقّ شعبهم ومقاومته الباسلة.

وانتصار المقاومة الإسلامية على العدو لم تأخذ منه حجّة ومبرراً للتكبّر والإستعلاء على الآخرين، بل جعلت من الجميع في لبنان وخارجه ممّن يوافقونها الرأي والتوجّه، بل ممّن يخالفونها أيضاً شركاء في تحقيق النصر، وخاصّة شعبنا الفلسطيني المظلوم المضطهد داخل الأرض المحتلّة.

وهذا التّسامح من المقاومة وشعبها في التّعامل مع الإنتصار وآثاره مأخوذٌ من القدوة الكبرى للمسلمين والعالمين جميعاً وهو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما دخل مكّة فاتحاً ولم ينتقم ممّن حاربه وحارب الإسلام والمسلمين وأذاقهم الويلات وتسبّب في هجرتهم هرباً بدينهم وقال لكلّ الذين يتوقّعون القتل أو ما شابه "إذهبوا فأنتم الطلقاء"، أو " من دخل دار أبي سفيان كان آمناً".

إنّ هذا التصرّف الرائع من موقع القدرة والإنتصار هو التطبيق الرائع والمثالي للحديث الشريف بأنّ "العفو عند المقدرة"، وهو الذي يجعل المقاومة تصرّفت بشكلٍ حكيمٍ وعاقلٍ جداً ولم تسمح بإشاعة الفوضى وعدم النّظام في المناطق المحرّرة، بل حافظت على الأرواح والممتلكات بطريقةٍ جعلت من الخائفين آمنين على أرواحهم وعائلاتهم وممتلكاتهم.

وهذا التصرّف الحكيم يدلّ على القمّة في التواضع والترفّع عن التصرّفات الإنتقاميّة التي قد يمارسها بل مارسها الكثيرون عبر التاريخ عندما ينتصرون على عدوّهم، إلاّ أنّ المقاومة الإسلامية تصرّفت من وحي تعاليم الإسلام والقرآن وسيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلوك الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في هذا المجال، وأعطت النموذج الإنساني الرائع الذي يجب أن يسلكه المنتصر مع من تغلّب عليه وقهره، ولهذا احترمت كلّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة المقاومة الإسلاميّة لانتصارها تارةً، ولتصرّفها فيما بعد الإنتصار تارةً أخرى، لأنّها تصرّفت بطريقةٍ لم يكن أحدٌ يتصوّر أنّ المقاومة التي قدّمت كلّ تلك التّضحيات ستتعامل مع آثار النصر بتلك الطريقة الأخلاقيّة التي تعبّر عن قمّة التّواضع وإبعاد الأنانيّة والإنتقام.

ونحن على أعتاب الذكرى الأولى لذلك الإنتصار المجيد لا بدّ أن نتوجّه بالتّهنئة الحارّة إلى المقاومة وشهدائها وجرحاها وأسراها ومعوّقيها وإلى شعبنا المضحّي المعطاء الذي تصرّف بطريقةٍ حضاريّة رائعة أسكتت كلّ الألسنة التي كانت تحاول أن تصوّر أنّ الإنسحاب الإسرائيلي سيؤدّي إلى ارتكاب مجازر وفظاعات كبيرة ضدّ الفئة التي تعاملت مع العدو ومع قسمٍ من شعبنا في المناطق المحرّرة.

والحمد لله رب العالمين