الخميس, 21 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الإنتفاضة مستمرّة ومنتصرة

sample imgage

لا نبالغ إذا قلنا إنّ الوضع الذي تعيشه الأمّة الإسلاميّة بأكملها هو وضعٌ صعبٌ ومأساوي على كلّ المستويات، فعلى المستوى السياسي لا تأثير لها في صنع الأحداث في العالم لا على نحو الإستقلال ولا على نحو الشراكة، وعلى المستوى الإقتصادي لا يتعدّى دورها أن يكون هامشيّاً جداً، وعالمنا هو مجرّد عالمٍ إستهلاكي يشتري بأمواله وثرواته من الدول الغنيّة والكبرى في العالم التي تحتكر مصادر القوّة الصناعيّة والإنتاجيّة، وينسحب هذا التقويم للوضع على العالم العربي كلّه الذي يشكّل مركز القلب من العالم الإسلامي المترامي الأطراف، وهذا الوضع هو المصداق الحقيقي للقول الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (بأنكم يومئذٍ غثاءً كغثاء السيل)، وأنّ الأمّة ستكون مجرّد رقمٍ يُضاف إلى التّعداد السكاني في العالم، ولكن من دون أثرٍ يُذكر له في مسار الأحداث ووضع السياسة العالمية أو حتى الساسة المحليّة لعالمنا الإسلامي.

والسبب الذي أوصل الأمّة إلى هذه الحالة المتدنّية من الحضور والتأثير هو التّفرقة والتّشرذم وتقطيع أوصال الأمّة الإسلاميّة إلى كياناتٍ قوميّة ووطنيّة لكلّ منها مصالحه وإرتباطاته الخاصّة التي قد تلتقي أو لا تلتقي مع الدول الإسلاميّة الأخرى.

 

ومع أنّ العالم الإسلامي ومنه العربي حاول أن يوجد لنفسه مؤسّسات تجمع دوله مثل منظمة المؤتمر الإسلامي أو "جامعة الدول العربية"، إلاّ أنّ هاتين المؤسّستين لم تتمكّنا من النّهوض بالوضع العام للأمّة، لأنّهما كانتا منذ التأسيس وحتّى الآن رهينتين للقوى الكبرى التي تسيطر على قرارات وتوجّهات دول عالمنا الإسلامي والعربي على حدٍّ سواء.

بل وصل الأمر ببعض الدول الإسلاميّة إلى إقامة علاقاتٍ رسميّة وغيرها مع الدولة الغاصبة لفلسطين كإيران أيّام حكم الشاه، أو تركيا التي لا زالت تقيم علاقاتٍ سياسيّة وعسكريّة وحتّى إستراتجيّة مع إسرائيل ضدّ دولٍ عربيّة أو إسلاميّة كسوريا والعراق وإيران.

وهذا الوضع الضعيف للأمّة هو النّتاج الطبيعي لتفرّد كلّ نظامٍ في إدارة شؤونه وأموره بغض النّظر عن كونه جزءاً من مجموعةٍ متكاملة يقوّي بعضها بعضاً ويؤثّر بعضها في البعض الآخر، ومن هنا نفهم السبب الحقيقي في عدم فاعلية كلّ القمم العربيّة والإسلاميّة، خصوصاً في المراحل الأخيرة، حيث تبقى القرارات حبراً على ورق من دون أن تتحوّل إلى خططٍ وبرامج عملٍ حقيقيّةٍ تعود بالنّفع والفائدة على العالمين العربي والإسلامي.

وهذا الوضع الشّاذ والمنحرف عن الطريق القويم الذي كان ينبغي للأمّة أن تسير عليه هو الذي جعل القوى الكبرى تستهين بها ولا تحسب لها حساباً مُعتبراً في القضايا العالميّة، أو القضايا التي تمسّ مصالح الأمّة الإسلاميّة، بل وصل الأمر إلى حدّ الإستهانة بمقدّسات المسلمين وشعائرهم الدينيّة، عندما ترفض أمريكا مثلاً وقف الغارات على أفغانستان خلال شهر رمضان المبارك مع أنّ العديد من الدول العربيّة والإسلاميّة طالبت بذلك علناً وجهاراً.

إنّ هذا الإستهتار الإستكباري الذي تمارسه أمريكا على عالمنا الإسلامي كلّه ومنه العالم العربي، هو الذي سمح لها ويسمح بالتّغاضي عن الجرائم المروّعة التي ترتكبها إسرائيل بحقّ شعبنا الفلسطيني المسلم، فتقتل وتجرح وتعتقل وتجرف الأراضي وتهدم البيوت وتدمّر البنى التحتيّة للشعب المظلوم هناك، من دون أن نسمع صوت إدانةٍ أو استنكارٍ من أمريكا أوغيرها من الدول الكبرى، بينما إذا قُتل إسرائيلي على يد فلسطيني ثائرٍ باع نفسه لله لأنّه لم يعد قادراً على أن يتحمّل الذلّ والمهانة والإحتقار، فهذا العمل مُدانٌ ومُستنكرٌ وهو اعتداءٌ سافرٌ يجب مواجهته والقضاء عليه، لأنّه الإرهاب بعينه.

ومن هنا نقول إنّ إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل بتغطيةٍ أمريكيةٍ سافرة ووقحة هو نتيجة سكوت دول عالمنا العربي والإسلامي عن التصدّي كأمّة مجتمعةٍ لهذا الإجرام الصهيوني المدعوم إستكبارياً، مع أنّ دولنا الإسلاميّة قادرةٌ لو أرادت ولو تحرّرت سلطاتها الحاكمة من سيطرة أمريكا أن تجبر ذلك الشيطان الأكبر على ردع الكيان الغاصب عن إجرامه ضدّ شعبنا الفلسطيني المسلم المنتفض منذ أربعة عشر شهراً في انتفاضة الأقصى، ودفع حتّى الآن مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوّقين والسجناء، وما زال ذلك الشعب حاضراً للجهاد مهما بلغت التّضحيات والأثمان التي يدفعها نيابةً عن تقاعس الأمّة الإسلاميّة والعربيّة في نصرته ومساعدته سياسيّاً وماليّاً وعسكريّاً.

وهذا الوضع غير الطبيعي الذي تعيشه الأمّة هو الذي جعل بعض قيادات الشّعب الفلسطيني ممّن حملوا راية الثورة لفترةٍ طويلة أن يتنازلوا عن شعاراتهم وثورتهم ويقبلوا بالتّخلّي عن الجهاد المسلّح لتحرير فلسطين، والقبول بقطعة أرضٍ صغيرةٍ منها مقابل الإعتراف بالإحتلال الصهيوني لفلسطين وإعطائه شرعيّةً فلسطينيّة وعربيّة وإسلاميّة ودوليّة يحتاج إليها الكيان الغاصب لإضفاء الشرعيّة القانونيّة على جريمته الكبرى في تهجير الشعب الفلسطيني والحلول مكانه تطبيقاً لشعار (أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض).

إنطلاقاً من هذا اليأس من نهضةٍ إسلاميّة أو عربيّة شاملة وتامّة لتقف خلف جهاد الشعب الفلسطيني المظلوم الذي يواجه بالحجر واللحم الحي والقنابل البشريّة كلّ آلة الإجرام الوحشي الصهيوني، لا بدّ من سلوك سبيل الجهاد الذي اختاره الشعب الفلسطيني المظلوم لنفسه، فكانت الإنتفاضة المباركة المسمّاة بـ "إنتفاضة الأقصى" هي الردّ العملي على التّقاعس والخذلان العربيّين، وعلى عدم الإهتمام والمبالاة من العالم الإسلامي الأكبر.

وقد استطاعت الإنتفاضة المباركة من تحقيق إنجازاتٍ مهمّةٍ جداً على مستوى الصّراع مع الكيان الغاصب، وتمكّنت عمليات المجاهدين التي تطوّرت كثيراً من إيصال العدو الصهيوني إلى مرحلةٍ صعبةٍ وحرجةٍ أرجعته عشرات السنين إلى الوراء على المستوى الأمني والسياسي، ولم تنفع كلّ محاولات العدو الذي بالغ كثيراً في العنف والإرهاب من إيقاف الإنتفاضة، بل على العكس من ذلك، فكلّما زاد العدو من إجرامه وسفكه للدماء وتدميره للحياة في المناطق المحتلّة زاد المجاهدون من عملياتهم النوعيّة التي كلّفت العديد من القتلى والجرحى والدمار في أكثر الأماكن أمناً بنظر العدو الصهيوني، واستطاع المجاهدون اختراق كلّ أنواع الحصار العسكري والأمني، وقاموا بعملياتٍ إستشهاديّة زرعت الرعب في نفوس كلّ أبناء الكيان الغاصب وقياداته على كلّ المستويات.

وكنتيجةٍ مباشرةٍ لعمليات مجاهدي الإنتفاضة فقد زال الأمان الذي كان يشعر به المستوطنون في مناطق الضفّة الغربيّة وغزّة، حتّى أنّ بعض المستوطنات قد فرغت كليّاً من سكانها، كما أدّت الإنتفاضة باستمرارها إلى إيقاف حركة الهجرة إلى الكيان الغاصب الذي كانت تصوّره الدّعاية الإسرائيليّة على أنّه الجنّة الموعودة والمكان الأكثر أمناً لليهود في العالم، كما أدّت الإنتفاضة وأثمرت خروج سبعماية ألف يهودي من الكيان الغاصب ولم يرجع منهم إلاّ ثلاثماية ألف، كما أدّت الإنتفاضة إلى تراجع الوضع الإقتصادي ونموّه في إسرائيل وإفلاس الكثير من الشركات وإيقاف آلاف العمال عن العمل، كما ضربت الإنتفاضة حركة السياحة النشيطة جداً في إسرائيل والتي كانت تدرّ أرباحاً كبيرةً جداً على الكيان الغاصب.

ولهذا فإنّ الإنتفاضة المباركة في مواجهة المحتل الغاصب هي السلاح الأكثر فاعلية وتأثيراً في مجريات الصراع مع العدو، وأيّة محاولةٍ لإيقافها هي محاولةٌ مشبوهةٌ وهي خيانةٌ لدماء الشهداء وجراحات الجرحى، وهي جنايةٌ كبرى بحقّ الشعب الفلسطيني المظلوم الذي بدأ يلاحظ ثمار جهاده بعد أربعة عشر شهراً من الألم والمعاناة والدم والدموع.

ومن هنا فإنّ المطلوب من كلّ الفصائل الفلسطينيّة التي تشارك في جهاد الإنتفاضة من الحركات الإسلاميّة والوطنيّة أن تقف صفّاً واحداً في مواجهة كلّ من تسوّل له نفسه السّعي لإرضاء الأمريكيين والإسرائيليين من خلال محاولات إيقاف الإنتفاضة، لأنّ هذا التّوقيف لها يعني إعطاء الكيان الغاصب القدرة على أخذ المبادرة بيده والضغط على الشعب الفلسطيني أكثر، كما أنّ محاولة البعض ممّن يعتبر نفسه قيادةً لذلك الشعب إلقاء القبض على النّاشطين من أبطال الإنتفاضة ومجاهديها هو خدمةٌ مجّانية للعدو، وليس لها أيّ ثمنٍ في المقابل سوى وعودٍ كاذبة سبق أن اختبرها الشعب الفلسطيني بدءاً من "اتفاق أوسلو" إلى كلّ الإتفاقات التي لحقته، ولم يستفد الشعب الفلسطيني منها بشيء، بل أدّت إلى زيادة القبضة الإسرائيليّة على ما يسمى بـ "السلطة الذاتية" وجعلها ما يشبه الأداة المسخّرة لخدمة الكيان الغاصب كما كان جيش لحدٍ في جنوب لبنان مجرّد خطّ تماس مع المقاومة ودرعاً لحماية الجيش الإسرائيلي من ضربات المقاومة الإسلامية وأبطالها الأشاوس الذين استطاعوا تحطيم ذلك الجيش، حتى لم يعد أمام الجيش الإسرائيلي المحتل إلاّ الخروج ذليلاً من أغلب الشريط اللبناني المحتل الذي كان يسيطر عليه.

وقد أثبت أبطال الإنتفاضة حتّى الآن أنّهم قادرون على تجاوز تلك العراقيل التي يحاول البعض وضعها في طريقها أملاً في الدخول مع الكيان الغاصب في محادثات سلامٍ يرعاها الشيطان الأكبر "أمريكا" التي لم تكن يوماً طرفاً حياديّاً في الصراع، بل كانت على الدوام إلى جانب الكيان الغاصب وتمدّه بكلّ أسباب القوّة العسكريّة والتقنيّة، وتعطيه المناعة السياسيّة وتغطّي على كلّ جرائمه بحقّ شعبنا الفلسطيني المسلم الذي عانى الكثير من حماية الولايات المتّحدة لإسرائيل في المحافل الدوليّة والإقليميّة وعلى كلّ المستويات.

وهناك نقطة لا بدّ من الإشارة إليها وهي أنّ الإنتفاضة المباركة في فلسطين بكلّ فصائلها الإسلاميّة والوطنيّة، والمقاومة الإسلاميّة في لبنان هما الشعلتان المضيئتان في حاضر الأمّة الإسلاميّة، واستمرارها سيؤدّي حتماً إلى إستنهاض الجماهير العربيّة والإسلاميّة التوّاقة للجهاد، خصوصاً في ظلّ استسلام الأنظمة العربيّة والإسلاميّة بأكثريّتها أمام الطاغوت العالمي المتمثّل بالشيطان الأكبر "أمريكا" ولهذا رأينا كيف أنّ أمريكا أدرجت أسماء حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي ضمن لائحة المنظمات الإرهابيّة، وهذا الإدراج هو شرفٌ كبيرٌ لهذه الحركات التي يمثّل إدراجها ضمن لائحة الإرهاب بالمفهوم الأمريكي، أنّ هذه المنظّمات تشكّل إحراجاً كبيراً للإدارة الأمريكيّة التي تريد من جميع الدول العربيّة والإسلاميّة أن تكون تحت قبضتها بالكامل وأن لا يرتفع أيّ صوتٍ رسمي أو شعبي ضدّ الغطرسة الأمريكيّة والهمجيّة الإسرائيليّة التي تُمعن فتكاً وقتلاً في صفوف شعبنا الفلسطيني من دون أن يرفّ للعالم الذي يدّعي حرصه على حماية حقوق الإنسان أيّ جفنٍ ولا يصدر أيّ إدانةٍ أو استنكارٍ لما يحصل في الأراضي الممثّلة وكلّ ذلك بتوجيهٍ من السيّد الأمريكي البغيض.

من كلّ ما سبق نقول إنّ الآمال الكبيرة معقودةٌ على الإنتفاضة المباركة في فلسطين، وهي السلاح الأوحد الذي باستمراره سوف يقضي على الأحلام الإسرائيلية، وسوف يجبر العدو ولو في المرحلة الأولى من الخروج من الضفّة الغربيّة وغزّة، لتكون هاتان المنطقتان المحرّرتان نقطة الإنطلاق من أجل تحرير القدس وفلسطين من البحر إلى النّهر وإنّ غداً لناظره قريب.

والحمد لله رب العالمين