الموقف الديني من الأعراف والتقاليد
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 7803
والمجتمع الإسلامي الكبير لا يشذّ عن هذه القاعدة، فبالإضافة إلى الإسلام وهو الدين الذي يؤمن به المسلمون، هناك أعراف وتقاليد مختلفة عند كلّ شعبٍ مسلم على امتداد رقعة تواجد المسلمين في العالم، إلاّ أنّ النقطة الأساس والمركزية في الحديث هي هل أنّ الإسلام له موقف مخالف للأعراف والتقاليد بحيث لا يقيم لها وزناً؟ أو أنّها عنده مورد قبول واحترام لأنّ الشعوب الإسلامية تلتزمها نهجاً ومساراً لها إلى جانب أحكام الإسلام التي تنظّم حياتهم؟ وهذه هي النقطة المحورية في هذا المجال.
بداية نقول إنّ الإسلام يحترم الشعوب بكلّ ما فيها من أعراف وتقاليد، لا يمنع من التعامل بها والإستناد إليها إذا كانت غير مخالفة لأحكام الإسلام وقوانينه، لأنّ الإسلام كدين يريد أن يربط الناس بالله سبحانه وتعالى ليؤمنوا به وليعملوا بأحكامه ومفاهيمه، هذا هو الأساس في تعامل الإسلام مع الشعوب على اختلاف قومياتهم وأجناسهم ولغاتهم.
ومن هنا نقول إنّ الإسلام يتعامل مع عادات وتقاليد وأعراف الشعوب استناداً إلى قاعدة ثلاثية الأبعاد، بمعنى أنّ الأعراف والتقاليد عند الشعوب يمكن أن نقسّمها بلحاظ أحكامنا الإسلامية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: التي لا تخالف الإسلام نصّاً وروحاً.
القسم الثاني: التي تخالف الإسلام نصّاً وروحاً.
القسم الثالث: ما كان خليطاً ممّا يخالف الإسلام وممّا لا يخالفه.
أمّا القسم الأول فهو مقبولٌ في ديننا الإسلامي لأنّه لا يخالف أحكامه وقوانينه وينسجم نوعاً ما مع الهدف الأسمى للإسلام وهو ربط المسلم بربّه لعبادته، مثل الكرم والشجاعة والإلفة بين الناس، ومساعدة الناس بعضهم البعض على فعل الخير، والتعاون فيما بينهم بما يقوّي أواصر القربى بين أفراد المجتمع الإسلامي ولو من باب الأعراف والتقاليد التي لا تخالف قواعد الدين ولا تؤثر على الإسلام، بل يمكن أن تساعد لأنّها منسجمة معه كونها تكون نابعة من الفطرة الإنسانية التي تتجه نحو فعل الخير والتعاون، وهي الإنعكاس للجانب الإيجابي من الروح الإنسانية، ولهذا نجد أنّ الإسلام أقرّ واعترف ببعض الأعراف والتقاليد عند العرب مثل الإسلام، ومن أشهر ذلك "حلف الفضول" ومختصره مساعدة المظلوم من أهل مكة وغيرها حتى يسترجع حقّه ممّن ظلمه، وقد ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّ هذا الحلف: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبّ إليَّ منه حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت).[1]
أمّا القسم الثاني فهو مرفوضٌ كلياً لأنّه يتعارض بشكلٍ صريحٍ وواضح مع الإسلام نهجاً وفكراً وسلوكاً، وهو من المعوّقات الأساسية أمام الإسلام لأخذ موقعه الصحيح والسليم في حياة المجتمعات الإسلامية، ولأنّ هذا القسم يتنافى مع أهداف الإسلام، وإذا أردنا أن نأخذ أمثلة عن هذا القسم فهناك الكثير، ولكن نقتصر على الخطير منها، حتى يتبيّن لنا مدى خطورة هذا القسم على العلاقة بين المسلمين ودينهم.
1- جرائم الشرف: وهي عبارة عن قتل الفتاة التي يتّهمها أهلها أو المجتمع بممارسة الفاحشة، بل لو هربت مع رجل تريد الزواج به، فهنا العادات والأعراف تحكم بقتلها وإباحة دمها مع أنّ ذلك غير جائز وهو فعلٌ محرّم، وللأسف ما زلنا نجد في بعض مجتمعاتنا الإسلامية هذا النوع من الجرائم والتي يذهب ضحيّتها عشرات أو مئات الفتيات سنوياً، وذلك بادّعاء أنّ هذا الفعل عار على العائلة أو العشيرة أو القبيلة ويجب غسل العار، وهو لا يُغسل إلاّ بالقتل، وحكم الإسلام هنا واضح وهو قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق[2]}، فالقتل في ديننا له أسباب واضحة ومحدّدة، وأيّ خروجٍ عن تلك الأسباب هو مخالف.
2- جرائم الثأر: وهي عبارة عن قتل غير القاتل من عائلة أو عشيرة أخرى، فمثلاً إذا قتل رجل ما شخصاً آخر، فتقوم عائلة المقتول بقتل أيّ شخصٍ آخر من عائلة القاتل مع أنّه لا ناقة له ولا جمل كما يقولون في القتل، وهو مثل لإنسان بريء لا ذنب له سوى اشتراكه في إسم العائلة مع القاتل، وهو ظلم لا يقرّه الإسلام ولا يعترف به وينهى عنه، باعتبار أنّ هذه العادة السيّئة تؤدّي إلى شرذمة المجتمع وتمزيقه وإيجاد عداوات وأحقاد لا داعي لها، فضلاً عن إعاقتها لحركة المجتمع السليمة المحقّقة للأهداف والأغراض المشروعة للناس، ولذا قال القرآن الكريم :{ولا تزر وازرةً وزر أخرى[3]}، وقال أيضاً: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنّه كان منصوراً[4]}، فالإسلام أقرّ في هذه الحالة بقتل القاتل دون غيره، وأعطى وليّ الدم الإذن في الإقتصاص ولكن من نفس القاتل دون غيره.
3- ميراث المرأة: وهو عبارة عن أنّ في الكثير من مجتمعاتنا الإسلامية لا يتعاملون مع المرأة كما يتعاملون مع الرجل، فلو فرضنا أنّ رجلاً قد مات وترك ميراثاً، فهنا نرى أنّ هذا الرجل قبل موته قد يوزّع ثروته على أولاده الذكور فقط، أو يقول للذكور بأن يعطوا أخواتهم شيئاً في مقابل حرمانهم من ميراثهم الحقيقي، وهذا التقليد راجع إلى تفضيل الرجل على المرأة بشكلٍ عام، ولا شكّ أنّ هذا مخالف لأحكام الإسلام في الميراث الذي حدّد لكلّ وريثٍ حصّته وأعطى الذكر ضعف حصة الأنثى نظراً لموقع كلّ واحدٍ منهما في المجتمع، ولكن مع هذا نرى هضم حقّ المرأة في التركة لا زال معمولاً به في العديد من ساحاتنا الإسلامية، وذلك بحجّة أنّ ميراث المرأة إذا تزوّجت من خارج إطار العائلة فإنّ الميراث سوف يذهب للغرباء، وهذا ما يوافق عادة جاهلية كانت موجودة، وقد أثبتها بيت من الشعر جاء فيه: بنونا بنو أبنائنا وبنو بناتنا أبناء الرجال الأباعد[5]
وهذا الأمر لا ينسجم مع الإسلام ويرفضه، إذ للمرأة الحق في أن تأخذ حصّتها من الميراث كغيرها ولا يجوز حرمانها بحججٍ واهية وساقطة بنظر القانون الإسلامي.
بل نجد أنّ تفضيل الذكر على الأنثى يصل إلى مرحلة الولادة فإذا أنجبت المرأة بنتاً نرى أنّ الأب في الكثير من الأحيان يكون كارهاً ممتعضاً وغير راضي و يريد أن تلد له الذكر، وكم من النساء قد طلّقهن أزواجهن لأنّهن لا يلدن إلاّ البنات، وهذا التقليد كان سارياً في الجاهلية قبل الإسلام وحاربه ديننا إلاّ أنّه عاد وتسلّل إلى مجتمعنا عبر الأعراف والتقاليد، وقد قال القرآن عن ذلك: {وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هونٍ أم يدسّه في التراب}[6]، فوأد البنات الآن لم يعد له وجود، ولكن التمايز في المعاملة لا زال موجوداً، حتى أنّه في بعض الأعراف الموجودة لا يورثون البنت أصلاً، لأنّه قانون العائلة أو العشيرة ويقدمون هذا على حكم الله في الميراث للمرأة.
وأمّا القسم الثالث وهو المشتمل على ما يخالف وما لا يخالف الإسلام، فالمقبول منه "ما لا يخالف" والمرفوض منه "ما يخالف"، وهذا يعني أنّ هذا القسم ليس مقبولاً بالكامل ولا أنّه مرفوضٌ بالكامل، ومن أبرز أمثلته انتصار العائلة أو العشيرة لفردٍ من أفرادها إذا تعرّض لاعتداءٍ من جانب فردٍ آخر أو مجموعة من العائلة أو عشيرة أخرى، فالمرفوض هنا هو نصرة المظلوم ضدّ ظالمه وغيره، والمقبول هو نصرة المظلوم ضدّ ظالمه خاصّةً، وذلك عبر الطرق والأساليب المشروعة في الإسلام، وليس على الطريقة العشائرية والقبلية التي تأخذ البريء بذنب المجرم.
وبالجملة فإنّ القسم الثالث فما لا يخالف الإسلام يدخل في القسم الأول وما يخالف الإسلام يدخل في القسم الثاني، وليس له حكم مستقل، بل تتبع أحكامه أحكام القسمين الأولين.
بناءً على ما تقدّم، نرى أنّ مجتمعاتنا الإسلامية لا زالت متأثرة كثيراً بالأعراف والتقاليد وهي عند البعض شريعة لهم يتعاملون فيما بينهم على أساسها وليس على أحكام الإسلام، وهذا الأمر مرفوض بالكلية، خصوصاً في الأعراف التي تتنافى مع روح الإسلام ونصوصه وأحكامه، والمسؤولية في هذا المجال تتحمل الأنظمة التي حكمت المسلمين عبر العصور بالإسلام من دون أن تعمل على تطبيق الإسلام نصّاً وروحاً، وتركت أمور الناس تمشي على هواهم ومزاجهم، فعادت كلّ تلك الأعراف والتقاليد التي كان بعض منها من زمن الجاهلية، ونشأت عادات وتقاليد جديدة من واقع الحياة الإجتماعية وامتزجت بالإسلام حتى صار البعض يظنّ أنّ هذه الأعراف هي جزء من الدين الإسلامي وأحكامه وممارساته، مع أنّ الإسلام منها براء لا علاقة له بها على الإطلاق.
من هنا نقول إنّ مهمّة إرجاع الأمور إلى نصابها وإلى الصراط السوي الذي يجب أن يسير عليه المسلمون هي عبر كلّ مهتم بأمور المسلمين، بدءاً من العلماء والوعاظ والمثقفين واستعمال كلّ وسائل الإعلام من أجل توضيح الأعراف والتقاليد، وإثبات ما هو مخالف للإسلام والسعي إلى عدم العمل به، والترويج لما يوافق الإسلام والتشجيع عليه لأنّه رافد من روافد تقوية الإسلام في النفوس.
وهذه المهمة الواجبة الملقاة على عاتق الغيورين على الإسلام ينبغي وضع الخطط والبرامج لها خصوصاً في المجتمعات الإسلامية التي لا زال يغلب عليها الطابع العشائري الذي يمزج أعرافه وتقاليده مع الإسلام.
ولهذا فإنّ تحقيق الوعي الإجتماعي وتبيان فوائد الأعراف والتقاليد غير المخالفة للإسلام، وتبيان المفاسد والمضار والمساوئ للأعراف المخالفة للإسلام هي التي يجب السعي والعمل من أجلها من دون إبطاء أو تأخير، لأنّ كلّ تأخير سيؤدي إلى رسوخ الأعراف المخالفة عند الناس وتقديمها على أحكام الإسلام، وهذا فيه خطر كبير على وعي المسلمين بدينهم الحقيقي الذي يرفض الكثير من تلك الأعراف والتقاليد الموروثة عبر العصور والأجيال.
[1] النهاية في غريب الحديث/ ص 456، لإبن الأثير.
[2] الأنعام/ 151.
[3] الأنعام/ 164.
[4] الإسراء/ 33.
[5] المغني لابن قدامة/ ج 6/ ص 207.
[6] النحل / 58 و 59.