الخميس, 21 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الرد على شبهات الجماعات التكفيرية

sample imgage

الرد على شبهات الجماعات التكفيرية

الشيخ محمد توفيق المقداد

إن المتأمل في أوضاع أمتنا الإسلامية بدولها المتعددة عربية وغير عربية لا بد أن ينتابه الأسى والحزن والحسرة على ما وصلت إليه هذه الأمة من التمزق والتشتت والتباعد، فكل دولة لها مشاكلها الخاصة، وليست على استعداد للتعاون مع الدول الإسلامية الأخرى لبحث شؤون وأحوال الأمة لانتشالها من الوضع الصعب والمرير الذي تمر فيه، وما يزيد الأمر سوءً أو تعقيداً هو وقوع الأنظمة بأغلبيتها في عالمنا الإسلامي تحت سطوة وجبروت قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسها الشيطان الأكبر "أميركا" التي تحدد مسار الكثير من دولنا من دون وجود حول ولا قوة لهذه الدول إلا الإنصياع والرضوخ لإرادة أولئك، وما زاد في الطين بلة ظهور الحركات (الجهادية) السلفية التكفيرية التي رأت فيما تعيشه الأمة الإسلامية من فراغ وضياع فرصة لها لبث أفكارها وآرائها العقائدية والفكرية الفقهية بين أوساط المجتمعات الإسلامية ولقيت دعوتها صدى لدى قطاعات من الشباب المسلم الذي فقد الثقة والأمان والسلام مع الأنظمة التي يعيش فيها، فلجأ إلى هذه الجماعات لعله يجد ما يبحث عنه معها.


وتقوم أفكار ومعتقدات هذه الجماعات على الفكر السلفي أساساً الذي يعتبرونه الأمل الذي لا بد من الرجوع إليه كبديل عن الأنظمة الوضعية الكافرة بنظرهم والتي تتحكم بمصير الشعوب الإسلامية.

ومرجع هذه الحركات السلفية (الجهادية) الرئيس هو (ابن تيمية) الملقب عندهم بشيخ الإسلام، والذي اتخذ من التكفير قاعدة أساسية في فكره وفقهه مستنداً في ذلك إلى أدلة وأقوال من القرآن والسنة النبوية من دون تمحيص أو تعمق في النظر في تلك الأدلة التي استند إليها، ومتخذاً من فكر الفقه الحنبلي قاعدة لآرائه وأفكاره.

ففي الجانب الاعتقادي يذهب إلى القول بالتجسيم والتشبيه، حتى ورد عنه أن الله سبحانه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ويقول: (أين التائبون فأتوب عليهم) ثم يصعد إلى السماء، وهذا القول فيه تكذيب صريح للآيات القرآنية التي تدل على نفي إمكانية تجسيد الله عز وجل وعدم إمكانية رؤيته لا في الدنيا ولا في الآخرة كما هو القول الصحيح عندنا.

وكذلك موقف ابن تيمية من زيارة النبي(ص) التي أجمع المسلمون على جوازها، فإن ابن تيمية يرى أن التوسل بالنبي(ص) غير جائز، واختلف مع المذاهب الإسلامية في ذلك وأتهم كل من خالفه في هذه المسألة بالكفر، مع أن المسلمين يقرّون بالحديث الوارد عن النبي(ص) : "من زار قبري وجبت له شفاعتي".

ومن فتاواه الفقهية التي يكفر بها المسلمين فتوى من جهر بالنية بالصلاة فإنه يعتبر ذلك تشويشاً على المصلين حوله فإذا أنكر عليه المصلون ذلك ولم يرجع عن الجهر بالنية فهو كافر ويجب قتله، وكذلك أفتى بقتل المسلم الذي لا يلتزم بأداء الصلاة في وقتها، وكذلك من أخر صلاته من أجل صناعة أو حرفة يُستتاب فإنه لم يتب يقتل، وكذلك أفتى بقتل من أظهر الإسلام وأبطن الكفر وهو المنافق حسب تعريفه فهذا يقتل حتى لو تاب مع أنه قد لا يكون منافقاً أبداً لكنه قتله هنا هو من باب الشبهة بأنه منافق من دون دليل واضح وصريح، وكثيرة هي الفتاوى التي على هذا الشكل في أبواب متعددة من فقه العبادات والمعاملات، وما ذكرناه هو نماذج فقط لتوضيح الصورة عن القتل بدون دليل واضح ولمجرد الشبهة، والتي ورد فيها أن الحدود تدرأ بالشبهات.

ومن فتاواه السياسية وهي "العمدة" في سلوك الجماعات التكفيرية اليوم ما ورد فيها "قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام كالصلاة أو الزكاة أو الحكم بما أنزل الله في الدماء والأعراض والأموال أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" مستدلاً على ذلك بقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}([1]).

والذي جعل ابن تيمية يذهب هذا المذهب في التكفير هو الاعتماد على ظواهر بعض النصوص الشرعية دون تفسير منطقي ودون النظر إلى روايات أخرى أو أدلة أخرى يمكن الجمع بينها بحيث لو فعل ذلك لتغيرت الفتاوى وتغير النهج والمسلك الذي سلكه.

فالتكفير ليس تهمة جاهزة لرمي كل مسلم بها لمجرد شبهة أو ذنب أذنبه لأن التكفير له شروطه الواضحة التي لا بد أن يستند إليها، وقد حصر الإسلام التكفير بحالات محدودة، فمثلاً تارك الصلاة ليس بكافر، نعم هو محكوم بالفسق، وكذلك من ترك واجباً، وإلا لوجب تكفير كل المسلمين لأنه ما من مسلم إلا وخالف حكماً ما في يوم ما أو حادثة ما، وهذا واضح البطلان عند المذاهب الإسلامية المعروفة بالإعتدال والإعتماد على الآيات والنصوص الصريحة والواضحة في ذلك.

فالبناء على ذلك الفهم المجتزأ للأدلة الشرعية وعدم إعمال الفكر والنظر فيها أدى إلى ظهور مذهب التكفير الذي تبناه ابن تيمية، ثم تبناه من بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب الذي اتخذ هذا الفكر المنحرف أساساً لمذهب الوهابية وارتكبوا من خلال فتاواه المجازر الرهيبة في بلاد المسلمين واحتلوا كربلاء وهدموا قبر الإمام الحسين عليه السلام ثم احتلوا مكة والمدينة، وبسبب الخوف من تمدد الدولة الوهابية جرّد إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر حملة كبيرة وهاجم مركز الوهابية "الدرعية" وانتصر عليهم وأنهى دولتهم وكفى المسلمين شرهم واستبدادهم.

واليوم نرى أن هذه الجماعات التكفيرية قد أطلت بقرنها واتخذت من هذا الفكر أساساً لعملها في عالمنا الإسلامي، وبدأنا نسمع عن المجازر المروعة والقتل الجماعي وممارسة أنواع من القتل والتنكيل والتمثيل بقتلى المسلمين وغيرهم، وكأننا نعيش في العصور الحجرية حيث لا يوجد علم ولا ثقافة، بل جاهلية عمياء تقضي على كل مظاهر الحياة والحضارة، ووصل الأمر بهذه الجماعات إلى هدم المساجد ومقامات الأولياء والصالحين من العباد وتجرؤوا على هدم قبة الإمامين العسكريين عليهما السلام في مدينة سامراء في العراق.

وما يدل على سطحية تفكير هذه المجموعات استعمال المصطلحات التي كانت في القرون الماضية "الخليفة" و "الأمير" و "البيعة" و " العبيد والإماء" وبيعهم في الأسواق في المناطق التي يسيطرون عليها، وهذا كله إن دل على شيء فهو يدل على جهل هؤلاء الذين يدعون أنهم وحدهم من يفهم الإسلام ويطبقه، ويحكمون بكفر كل من خالفهم وعاند معتقداتهم.

والحجة الأساسية التي يعتمدها هؤلاء اليوم لقتال الأنظمة الإسلامية وشعوبها أن هذه الأنظمة لا تحكم بالإسلام من جهة، ولأن الشعوب المسلمة لم تنهض لمحاربة تلك الأنظمة، فبذلك صار الجميع محكومين بالكفر ويجب قتالهم.

ويضاف إلى ذلك أن الأنظمة الإسلامية تسمح في دولها بممارسة المحرمات في الشريعة كالزنا والخمر وغير ذلك، وهذا داع إضافي لقتالهم وإقامة الدولة الإسلامية بديلاً لهم.

وفي مواجهة هذا الفكر المنحرف لا بد من تعاون كل المصلحين من أبناء الأمة الإسلامية وعلى رأسهم العلماء والمثقفون وأهل الحل والعقد لاتخاذ موقف موحد من هؤلاء الذين يسيئون إلى الإسلام وسماحته ورحمته طبقاً لقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، لأن هذه السورة السيئة للإسلام التي ينشرها هؤلاء سيكون لها رد فعل عكسي عند المسلمين وغيرهم الذين سيهربون من هذا الدين الذي تصوره هذه الحركات السلفية الصنمية على أنه دين الإرهاب والقتل والتنكيل وعدم الإعتراف بالآخر.

ولهذا نرى أن من واجب كل غيور على مصلحة الإسلام والأمة الإسلامية المبادرة إلى الرد العقائدي والفقهي والسياسي على هذه الجماعات التي تستقطب اليوم الكثير من الشباب المسلم الذي يعيش في صحراء الفكر، ويتصور أن فعل هذه الجماعات مستند إلى فكر إسلامي وإنما أخذوه من فتات النباتات في تلك الصحراء ليصنعوا منه عقيدة يستميلون بها أولئك الشباب الذين يتم التغرير بهم سواء من دولنا الإسلامية أو من الجاليات الإسلامية المنتشرة في عالم الاغتراب في أوروبا وأميركا.

وهذه المسألة الخطيرة لم تعد تحتمل التأجيل لأن خطر هذه العصابات التكفيرية قد وصل إلى الذروة خصوصاً بعد نشر مقطع الفيديو الذي يعرض قتل الطيار الأردني حرقاً وبطريقة بشعة ومأساوية مهما كان رأينا في هذا الأمر، وقد استندوا في فعلهم ذاك إلى فتوى مأخوذة عن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعرنيين الذين زعموا أن النبي أمر بقلع عيونهم، كما استدلوا بفعل خالد بن الوليد بأهل الردة كما يدعون، واستندوا إلى قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}([2])، وصرفوا حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينهى عن الحرق وقالوا إن كلام النبي لا يدل على التحريم، بل يدل على التواضع فقط، وهذا هو الأخطر في المسألة عندما يصل الأمر بهؤلاء إلى التلاعب بالأدلة الشرعية وتوجيهها نحو الوجهة التي يريدون مخالفين بذلك الفهم الصحيح للأدلة الشرعية الواردة في القرآن والسنة النبوية الشريفة.

من كل ما سبق نقول إن مواجهة هذه العصابات التكفيرية يجب أن تتم بكل الوسائل الممكنة، فكما تجب محاربتهم عسكرياً لمنع تمددهم وتحجيمهم تمهيداً للقضاء عليهم، يجب الرد عليهم فكرياً عبر تسفيه أدلتهم وتبيين زيفها وبطلانها عبر كل الوسائل الإعلامية المتاحة، وأي تقصير في هذا المجال الخطير سوف يترتب عليه مآسي وكوارث على الإسلام كدين وعلى المسلمين كأمة.  والحمد لله رب العالمين.