النبي (ص) القدوة
- المجموعة: مقالات سيرة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2585
ومما لا شك فيه أن أيّة مهمة يريد الإنسان القيام بها ، فإنها تفترض وجود القدرة الكافية لأدائها ، وهكذا ينبغي أن تكون القدرة أكبر كلما كانت المهمة كذلك، وبما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حمل أكبر مهمة تغييرية في المسيرة الإنسانية عبر التاريخ وهي (( تحويل المسيرة عن الفساد والانحراف والضلال إلى الإيمان والهداية والتقوى )) كان لا بد أن تكون القابليات والقدرات الكامنة في النفس النبوية المباركة متناسبة مع حجم المهمة التي كانت بحجم الإنسانية كلها كما تصرح بذلك الآية القرآنية: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .
ولهذا نرى أن العناية الإلهية قد تكفلت بتهذيب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتربيتها التربية التي تؤهله للقيام بأعباء تلك المهمة العظيمة ، وفي القرآن الكريم العديد من الآيات التي تبين تلك العناية في صقل الشخصية النبوية وتبرز قابلياتها وإمكانياتها واستعداداتها الذاتية للتكامل والتسامي والارتقاء حتى الدرجة الأعلى من درجات الكمال الإنساني الذي تفرد به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما يظهر ذلك من الآيات التي تتحدث عن الإسراء والمعراج (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) بحيث إن جبرائيل عليه السلام لم يتمكن من أن يتخطاها .
ومن الآيات الدالة على العناية الإلهية قوله تعالى: ( ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى) ، ومنها قوله تعالى: ( ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك ) .
هذا وقد ورد في السنة الشريفة عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يوضح أبعاد هذه الآيات كما في قوله: (صلى الله عليه وآله وسلم): (( أدبني ربي فأحسن تأديبي)) أو في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم ) الآخر: (( أنا أديب الله وعلي أديبي)) ، أو كما ورد عن ولده الإمام الصادق (عليه السلام): أن الله عزوجل أدب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم ) فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال: (وإنك لعلى خلق عظيم)، ثم فوّض إليه أمر الناس والأمة ليسوس عباده)). أو كما في الرواية الأخرى عنه (عليه السلام): (( إن الله عزوجل أدّب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا أقامه على ما أراد قال له: ( وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) فلما فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) زكاه فقال : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) .
من هنا، وبعد إكمال الاستعدادات الإيمانية والروحية وكل العوامل المؤثرة في إيصال الدعوة الإلهية جاء الخطاب الإلهي بالتكليف بحمل الرسالة وأدائها ، وذلك في قوله تعالى: ( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر) .
ومن هذه النقطة بدأت الخطوة الأولى في رحلة التغيير للمسيرة الإنسانية المعذبة والمنحرفة، والتي كانت تعاني من الضياع والفراغ الإيماني الروحي، فكانت بحاجة إلى الشاهد على كل مسيرتها الانحرافية التي كانت تقود الناس إلى الابتعاد أكثر عن خط الله عزوجل، ليتعرف على كل أسباب ذلك الفساد الذي طاول كل جوانب الحياة الإجتماعية وما يتفرع عنها من سلوك وعادات وتقاليد وأعراف وغير ذلك مما كان يصبغ حياة الإنسانية في ذلك الزمن الجاهلي المظلم .
وبعد هذا، بدأت حملة التبشير التي قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في محيطه أولاً في المجتمع المكي حيث " الكعبة المشرفة " بيت الله الحرام الذي كانت أفئدة الناس تهوي إليه من كل مناطق الجزيرة العربية وأطرافها آنذاك فتلتقي هناك لتمارس طقوساً عبادية مملوءة بالخرافات والأوهام التي تراكمت عبر القرون بعد النبي إبراهيم (عليه السلام) خليل الله .
وكانت حملة التبشير قائمة على توحيد الله والتعبد له ونبذ عبادة الأصنام والتماثيل، وتعليم الأمة طرق الاتصال والارتباط بالله سبحانه من حيث الأوامر والنواهي، لا من حيث وصلت طريقة الإنسان القائمة على توسيط تلك الجامدات من الهياكل الصخرية أو الخشبية الصمّاء التي كانوا يعتقدون بأنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وقد أوضح الله أهداف حملة التبشير بقوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) .
وكذلك رافقتها حملة الإنذار والترهيب القائمة على تبيان العواقب الوخيمة من جراء عدم الاعتناء بمسألة عبادة الله وتوحيده والاقتصار في ذلك عليه وحده دون سائر الآلهة التي كانت محل توجه الإنسان في عبادته وخضوعه وتوجهه، وكان من مفردات هذه الحملة الطلب إلى الناس لإعمال عقولهم وتحريك فكرهم عبر تجوال النظر فيما كان حوله من الموجودات وفي أنفسهم أيضاً ليتيقنوا بأن وجودهم ووجود كل الأشياء ليس من العدم بل من خالق مبدع مكون قادر مريد ، وفي القرآن الكريم الكثير من السور والآيات التي تتحدث عن مفردات ذلك ، كما في سورة الأعلى والبلد والشمس والتين والليل والعلق والنازعات والنبأ وغيرها
ومن أمثلة حملة التبشير الآيات التي تتحدث عن النعيم والأجر والثواب والمنازل الرفيعة التي أعدها الله للذين يؤمنون، والقرآن الكريم مليء بالشواهد من أوصاف الجنة ونعيمها وخيراتها، ومن أمثلة حملة الإنذار الآيات التي تتحدث عن النار وعذابها وطبقاتها وكيفية معاناة الإنسان فيها بطريقة مخيفة مرعبة ليأخذ الترهيب طريقه في النفس والعقل والقلب، إذ لعل ذلك يعيد الإنسان إلى الصواب والرشد .
فهذا الفكر الإسلامي القائم على عقيدة التوحيد ، كان فكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي حمله ودافع عنه وجاهد في سبيله. إن الفكر الذي ينطلق من العقل " هبة الله " ليصل من خلال العملية الفكرية النفسية في داخل الإنسان إلى الله سبحانه، ثم لينطلق نحوه متجسداً بالسلوك الذي يحقق واقع الفكر ويخرجه عن الإطار النظري التجريدي ليصبح واقعياً موضوعياً تحسه الناس وتنظر إليه وتشعر به، ليحرك الأحاسيس الكامنة في أعماق النفس البشرية ويدفع بها نحو إنقاذ نفسها من غيّها وانحرافها لتهتدي بذلك الفكر إلى ما فيه نجاتها في الدنيا والآخرة .
وقد حمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكر الإسلام بصفاء نفسه ونقاء روحه ونقله بأمانة وإخلاص ودافع عنه بكل قوة وثبات واقتدار ، وطبقه بحذافيره فلم يراع في تطبيقه أحداً ، ولم يساوم عليه أبداً ، كما في الآيات التي يخاطبه الله بها في سورة " الكافرون " ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ) ، وكذلك في جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمه أبي طالب عندما عرض مطالب زعماء المشركين حيث قال له: (( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه )) .
إن ذلك الصبر والثبات عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) كان منشؤه الاعتقاد عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوة الفكر الإسلامي الذي يحمل، لأنه الفكر للعقل والفطرة الإنسانيتين من دون أن يكون فيه مكان للخرافات والأوهام التي تعطل العقل وتشل قدرته على الخروج من أسر تلك الأباطيل التي تقيد حركة الفكر الحر المنتج للصواب عند الإنسان ويوصله إلى سبيل النجاة في الدارين .
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكلف بحمل الفكر الإسلامي إلى الأمة والدعوة إليه، وإنما نقله من مرحلة التنظير وجسد به سيرة شخصية أبرز فيها كل محاسن الفكر الإسلامي وأصوله وثوابته التي لا تسقط أو تنهزم أمام أية حالة من الحالات المضادة التي يمكن أن ينهزم أمامها بعض الناس. أما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد طبّق كل فكر الإسلام في صورته، فكانت سيرته هي الفكر العملي والسلوكي للعقيدة التي لم تدانها سيرة أخرى لكل الذين حملوا عقيدة التوحيد عبر التاريخ.
لقد جسّد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لسيرته أسلوباً كاملاً للحياة، وكيف ينبغي للمسلم أن يكون في خط سيره بين الناس ، حتى أن القرآن الكريم حضّ المسلمين على اقتفاء أثر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاستعانة به في كل خطواته وتحركاته وأساليبه التي امتازت بها سيرته وجعلتها في مقام المرشد والدليل لكل الذين ينطلقون من الإسلام: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وغيرها الكثير من الآيات التي تصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأوصاف توضح عظمة السلوك النبوي المستوحى من أصالة الفكر ووضوح الهدف وعمق الالتزام والإخلاص في أداء الأمانة والتفاني في خدمتها على حساب الراحة الشخصية والسعادة النفسية، ومن نماذج تلك الآيات قوله تعالى: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم )، وكذلك قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ).
فمن أية جهة نظرنا إلى سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نجد إلا سلوكاً واعياً مدركاً هادفاً ناظراً مصلحة الإسلام قبل المصلحة الذاتية، وتجسد ذلك السلوك النبوي في كل الجوانب من حياته الشريفة المباركة، ويكفي الرجوع إلى كتب السيرة والتاريخ لنجد أنها مليئة بالشواهد الحية على السلوك الأخلاقي الرفيع القائم على الاحتضان الرسالي من شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) لكل من كان يؤذيه، والمستند إلى مداراة الناس لمكان جهلهم وضعف عقولهم أو تقصيرهم .
لقد كان لسلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دور عظيم ومهم في إظهار عظمة الإسلام ، " مظهر التوحيد الإلهي " الذي خلده الله سبحانه في كتابه المجيد ، وبذاك السلوك استحق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الدرجة الرفيعة القريبة جداً من المقام الإلهي المقدس، ولعبت سيرته الشريفة دوراً بارزاً ومؤثراً في اجتذاب الناس إلى الإسلام عندما رأوا تأثيره في شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تواضعه وبساطة عيشه وفي قربه من الناس وفي حلمه عنهم ورأفته بهم وتجاوزه عن سيئاتهم، لقد ملأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) عيون الناس بتلك البساطة الربانية، والقوة والإدارة الصلبة في تطبيق الإسلام على نفسه وأمته فأسر العقول ودخل القلوب من غير اسئذان ليشع فيها نور الحقيقة الإلهية التي انتقلت من ذاته المباركة عندما كان أمة بحد ذاته، إلى الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً بعد أفواج، من دون أن ينقص من نور الحقيقة الإلهية في نفسه شيء، فملأ الإسلام العالم كله ببلاده وعباده يسبحون الله بما هو أهله، وعند التأمل في تلك السيرة الجليلة والفريدة كما أسلفنا القول، نجد أنها مشبعة بالطاعة الإلهية الرحمانية التي كانت مودعة في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك العاطفة التي ترجع إلى الرحمة الإلهية التي يريد لها الله أن تتمظهر في سلوكيات عباده ، ليدركوا من خلالها عظمة الرحمة الإلهية التي تنتظرهم لترفع عنهم أثقالهم وتضع عنهم أوزارهم التي جنوها من مسيرهم في الدنيا مجانبين خط الله وهدفه في الحياة .
لقد كانت العاطفة النبوية فيّاضة وجيّاشة إلى الحد الذي كان يشعر بالحزن والأسى لقومه الذين يصدون عقولهم عن الاستماع إلى كلمة الله، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ييأس من دعوة قومه ثم الناس جميعاً إلى دعوة الحق والإسلام ، لكنه كان يردد دائماً: (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )).
إن ذلك الاحتضان النبوي الرسالي ذي الأبعاد الإلهية كان له الدور الكبير في استمالة القلوب والعقول لتدخل في دين الله ، ذلك الاحتضان الذي تحقق في الواقع في السلوك النبوي الذي ما زال إلى الآن يمثل أحد أكبر عناصر القوة والثبات عند المسلمين الملتزمين، لأن سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست للحفظ والتاريخ فقط، لكنها السيرة التي يجب على المسلمين أن يطبقوها في واقعهم ليعيشوا قوة الإسلام في نفوسهم وسلوكهم وأهدافهم كما عاشها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) واستطاع في نهاية المطاف أن يحقق الهدف.
وبذلك حقق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المصداق الكامل للداعية إلى الله، بفكره ، وسلوكه ، وعاطفته الرسالية الأبوية التي وسعت الجميع من المحبين والمبغضين ، وعاشت الحياة رسالة ودعوة وكان بذلك النور الذي أضاء ليل الإنسانية المظلم المكفهر، فأجلى عن بصائر الناس وعقولهم ظلمات الكفر والشرك والضلال ، وكشف لهم الطريق بالنور الإلهي ، فصار لهم السراج المنير الذي اهتدوا به فأخرجهم من الظلمات إلى النور .
وها هي حياة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاب مفتوح أمام قلوبنا وعقولنا، وسراج منير يضيء لنا الطريق لنعرف كيف نسير مع الله في الحياة الدنيا، خاصة عندما تعاندنا الظروف والأوضاع، وتهجم علينا المؤامرات التي تريد سحبنا إلى السبيل المظلم ، تماماً كما هو الحال اليوم حيث يحتاج المؤمنون الرساليون إلى ضوء ذلك السراج المنير ليسلكوا الطريق الذي يضيئه لهم حتى لا ينكبوا عنه ليقعوا فيما يحذرون منه .
نسأل الله أن نكون ممن يقتدون بسيرة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأن يحيينا حياة محمد وآل محمد وأن يميتنا ممات محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن يرزقنا شفاعته وصحبته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .