صلح الإمام الحسن (عليه السلام)
- المجموعة: مقالات سيرة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2765
الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) هو الثاني من سلسلة الأئمة الأطهار عليهم السلام، ولد في المدينة المنوّرة في السنة الثالثة للهجرة وعاش مع جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبع سنين، ومع أبيه علي (عليه السلام) ثلاثين سنة، ثمّ انفرد بالإمامة زهاء عشر سنوات إلى أن رحل عن هذه الدنيا وهو ابن سبع وأربعين سنة. وقد ورد في حقّه الكثير من النصوص المتضمّنة مدحاً وثناءً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ومن أبرزها: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) و (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة) وكذلك (...وأمّا الحسن فله هيبتي وسؤددي...). وما يهمّنا من السيرة المباركة للإمام الحسن (عليه السلام) وفق عنوان المقالة هو الحادثة التاريخية المعروفة ب" صلح الإمام الحسن(عليه السلام) ". وقد أثارت هذه الحادثة ولا تزال العديد من الباحثين والمحقّقين في كتب السيرة والتاريخ الإسلاميين، وقد تحامل بعض هؤلاء على مقام الإمام الحسن (عليه السلام) وشخصه الكريم واتهموه بالخضوع والاستسلام لمعاوية والقبول بالتنازل عن الخلافة التي كان قد
بويع بها بعد استشهاد أبيه من جانب أهل الحلّ والعقد آنذاك. لهذا لا بدّ من دراسة هذه الحادثة التاريخيّة من كلّ جهةٍ يمكن أن يكون لها دخل مباشر أو غير مباشر في تكوين الصورة الواضحة التي تسمح بإعطاء الباحث أو المحقّق الحق في إصدار حكمه. وهنا لا بدّ من الرجوع إلى المصادر التي وثّقت هذه الحادثة وأدرجتها ضمن أبحاثها ومضامينها، والنظر في الروايات التي تتحدّث عن تفاصيلها والأجواء التي أحاطت بها، وتمييز النص الصحيح من غيره وفق القواعد في هذا المجال حتى لا يضيع الباحث في زحمة النصوص وكثرتها، والتي قد يحمل البعض منها مغالطات، لأنّ الحادثة هذه كان لها تأكيد جداً في مسيرة المسلمين عموماً، وفي مسيرة ذلك العصر بالذات. إستلم الإمام الحسن (عليه السلام) الخلافة في وقتٍ كان الإضطراب والإرباك سيّد الموقف في العالم الإسلامي بسبب الحروب التي أنهكت الجميع والتي اضطرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى خوضها مع القاسطين والناكثين والمارقين. ومن الواضح أنّ أقسى حرب وأصعبها هي التي خاضها الأمير ضدّ معاوية الطامح في الخلافة والملك، وكانت معركة صفّين التي سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى من الجانبين ذروة ذلك الصراع المرير، والتي نتج عنها مؤامرة التحكيم الخبيثة التي أُرغم الأمير (عليه السلام) على الدخول فيها مُكرهاً لا مختاراً بسبب عدم طاعة قادة جيوشه له لانخداعهم بعملية حمل المصاحف التي قادها عمرو بن العاص أحد أهم الشخصيات التي كانت إلى جانب معاوية. لهذا اعتبر معاوية أنّ استشهاد الإمام علي (عليه السلام) قد فتح له الطريق للوصول إلى مبتغاه، ولكنه اصطدم بمبايعة المسلمين للإمام الحسن (عليه السلام) بالخلافة فكان أن ركّز مخطّطاته الشيطانية لمنع الإمام الحسن (عليه السلام) من تثبيت دعائم خلافته وهو ما زال في أول الطريق حتى يتسنّى له الوصول إلى مبتغاه. بينما نرى من جهة الإمام الحسن (عليه السلام) أنّ أول خطابٍ له بعد استلامه الخلافة تضمّن دعوة الأمّة الإسلامية إلى الإستنفار وتهيئة الجيوش لإكمال حرب أبيه ضدّ معاوية المتمرّد والخارج عن طاعة الخلافة في زمن أمير المؤمنين وكذلك في زمن الإمام الحسن (عليه السلام). وممّا قاله (عليه السلام) :(أيّها الناس: إنّ الدنيا دار بلاء وفتنة، وكلّ ما فيها إلى زوال واضمحلال،... إلى أن قال (عليه السلام) وإنّي أبايعكم على أن تحاربوا من حاربت، وتسالموا من سالمت، فقال الناس: سمعنا وأطعنا فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين). والذي يؤكّد أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) أراد حرب معاوية كخيارٍ أول له هو تهيئة الجيوش وتجهيز العتاد والمؤن وعيّن عبيد الله بن العباس قائداً لجيوشه، إلّا أنّ الإحباط واليأس كانا قد سيطرا على الكثير من النفوس المريضة والضعيفة، بل وصل الأمر إلى الكثير من قادة فرق جيش الإمام الذين خانوه وقبلوا ما أطمعهم به معاوية من الأموال والمناصب من أمثال "عبيد الله بن العباس" و "قائد من قبيلة كندة". ومع ذلك لم يتراجع الإمام الحسن (عليه السلام) عن إرادة قتال معاوية، وقال لمن بقي معه من الجيش (... لأعودن هذه المرة فيما بيني وبينكم، وإني أعلم أنّكم غادرون ما بيني وبينكم، لأنّ معسكري بالنخيلة فوافوني هناك، والله لا تفون لي بعهدي، ولتنقضنّ الميثاق بيني وبينكم). وذهب الإمام الحسن (عليه السلام) إلى معسكره بالنخيلة وبقي هناك عشرة أيام فلم يجتمع معه إلّا أربعة آلاف، وهو عدد قليل جداً لا يستطيع أن يحارب معاوية به، لأنّ العملية ساعتئذٍ ستكون أشبه بالإنتحار الجماعي غير المبرّر شرعاً. كلّ هذه المجريات دفعت بالإمام الحسن (عليه السلام) للرجوع إلى الكوفة وخطب في أهلها: (يا عجباً من قومٍ لا حياء لهم ولا دين ولو سلمت له "معاوية" الأمر فأيم الله لا ترون فرَجاً أبداً مع بني أميّة، والله ليسومونكم سوء العذاب حتى تتمنّوا أنّ عليكم جيشاً جيشاً، ولو وجدت أعواناً لما سلّمت له الأمر لأنّه محرّم على بني أميّة، فأفٍّ وترهاً يا عبيد الدنيا). وروي أيضاً أنّ معاوية بعد مبايعة الحسن (عليه السلام) بالخلافة أرسل جواسيس إلى الكوفة والبصرة وعرف الإمام بذلك فأمر باعتقالهم وضرب أعناقهم، والجاسوسان اللذان أمر الإمام بقتلهما هما "رجل من حِميَر" و "رجل من القين". إنّ كلّ هذا الجو يؤكّد أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان مريداً للقتال دون تراجع أو تزلزل في هذا الموقف، إلّا أنّ الخيانة والغدر وشراء قادة الجيوش ونشر الدعايات المغرضة التي أدّت إلى إضعاف نفوس الأتباع عن الحرب والقتال أدّت إلى انفراط الجيوش من حول الإمام الحسن (عليه السلام) ولم يبق معه إلّا العدد القليل جداً الذي لا يقدر أن يصمد في وجه جيشٍ كبير ضخم العدد والعدّة يقوده معاوية المتمرّد. ولهذا لم يعد أمام الإمام الحسن (عليه السلام) إلّا اختيار طريق الصلح حقناً لدمه ودماء أهل بيته وأتباعه، ولم يكن صلحه مع معاوية من موقع الضعف والذل، بل وضع شروطاً صعبة وقاسية على معاوية، مع أنّ الإمام كان يعلم بأنّ ذلك الرجل لن يلتزم بها، ولكن لتكون تلك الشروط حجّة بيده، وبيد من بعده ليتأكّدوا أنّ معاوية إنّما كان طالب ملك دنيوي، ولم يكن تمرّده قربة إلى الله وفي سبيل الإسلام. وقد طولب الإمام الحسن (عليه السلام) عن أسباب صلحه مع معاوية من جانب محبّيه الذين اتّهموه بالتخاذل والخنوع فقال لهم: (... ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم عليَّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قتل). وفي كلامٍ آخر له (عليه السلام) يوضح فيه سبب صلحه مع معاوية قال: (أرى واللهِ معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة ابتغوا عليَّ وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، واللهِ لئِن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي، واللهِ لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً...). وكذلك نرى عندما قال له حجر بن عدي: "سوَّدت وجوه المؤمنين"، فأجابه الإمام الحسن (عليه السلام): (ما كلّ أحدٍ يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك، وإنّما فعلت ما فعلت إبقاءً عليكم). ولعلّ أوضح ما ورد في سبب صلح الإمام الحسن هو الرواية التي وردت عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن طريق محمّد بن مسلم :(والله الذي صنعه الحسن ابن علي (عليه السلام) كان خيراً لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس، ووالله لقد نزلت هذه الآية {ألم ترى إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} إنّما هي طاعة الإمام (عليه السلام) ولكنّهم طلبوا القتال، فلمّا كتب عليهم القتال مع الحسين (عليه السلام) قالوا :"ربنا لما كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل" أرادوا تأخير ذلك إلى القائم "عج"). وفي كتاب "تنزيه الأنبياء" للسيد المرتضى علم الهدى نجد أنه يأتي بما يلي: (فإن قال قائل: ما العذر - الإمام الحسن (عليه السلام) – من خلع نفسه من الإمامة، وتسليمها إلى معاوية مع ظهور فجوره، وبعده عن أسباب الإمامة...؟ الجواب: قد ثبت أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) الإمام المعصوم المؤيّد الموفّق بالحجج الظاهرة والأدلّة القاهرة، فلا بدّ من التسليم لجميع أفعاله وحملها على الصّحة وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل، أو كان له ظاهر ربّما نفرت النفس منه وقد مضى تلخيص هذه الجملة وتقريرها في مواضع من كتابنا هذا. وبعد فإنّ الذي جرى منه (عليه السلام) كان السبب فيه ظاهراً، والحامل عليه بيّناً جليّاً، لأنًّ المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد، فقد كانت قلوب أكثرهم نغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية من غير مراقبة ولا مساترة، فأظهروا له النصرة، وحملوه على المحاربة والإستعداد لها في أن يورّطوه ويسلّموه، فأحسّ منهم بهذا التولّج والتلبّس، فتخلّى من الأمر، وتحرّز من المكيدة التي كادت تتمّ عليه في سعةٍ من الوقت). من هذا كلّه يثبت لدينا أنّ صلح الإمام الحسن (عليه السلام) كان من نوع الإلتجاء إلى الضرورة التي كان لا بدّ منها للحفاظ على البقيّة الباقية من الأتباع والأنصار، لأنّ الناس لم تكن مستعدة للتضحية والبذل في سبيل دينها وعقيدتها وآثرت الإستسلام للحياة بوهم أنّها سوف ترتاح، إلّا أنّ التاريخ بعد الصلح أثبت أنّه اختيار الناس الذي اضطرّ الإمام الحسن (عليه السلام) إلى أن يصالح معاوية لم يكن الخيار الأسلم الأصلح. لهذا كلّه ينبغي علينا أن نستوعب فكرة الطاعة جيداً، وأنّ الإنسان الملتزم عليه أن يعيش هذه القضيّة مع قيادته وفق ما ترتأيه تلك القيادة، لا وفق مشتهيات النفس ورغباتها التي قد تدفعه إلى الطاعة عندما لا يرى فيها خيراً، وقد تدفعه إلى المعصية عندما يرى فيها ضرراً عليه، لأنّ مثل هذا التعامل مع مسألة طاعة أولياء الأمر لها مخاطرها العظيمة والكبيرة على مسيرة الإسلام والمسلمين. ومأساة الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية، ثمّ مأساة الإمام الحسين (عليه السلام) مع يزيد، هما أثران سلبيان جداً لطريقة التعامل الإستنسابية مع مسألة الطاعة لولي الأمر المفترض الطاعة من الله جلّ وعلا. وأخيراً نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا حسن الولاية وتوفيق الطاعة وأن يعتق رقابنا من النار بحق محمّد وآل بيته الطاهرين المعصومين. والحمد لله ربّ العالمين.