طاعة أولي الأمر في الإسلام 16
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2152
فالإفتاء إذن هو عملية مشتركة بين الأحياء والأموات من الفقهاء حيث لا بدّ أن يكون من قد مات من الفقهاء قد مارس عملية الإستنباط واستخرج الأحكام وكذلك الحي بالإعتماد على نفس المصادر الشرعية، وهذا يعني أنّ كلّ عملية إفتاء لا تخرج عن إطار القرآن والسنة والحدود الشرعية، وكمثلٍ تطبيقي نرى أنّ الفقهاء الأموات والأحياء يستندون جميعاً إلى رواية واحدة للحكم ببطلان الصوم عند حصول الإرتماس لتمام الرأس في الماء، وهكذا نرى أنّ حيثيتي الموت والحياة لا تؤثران في كيفية الإعتماد على الدليل الشرعي والفهم العرفي له في استنباط الحكم.
ثانياً: إنّ الإفتاء ليس منصباً شرعياً جعلياً بمعنى أنّ الإسلام لم يقل للفقيه لقد جعلتك فقيهاً على الأمة، بل الفقاهة هي علم وفن كسائر العلوم والفنون الأخرى يتوقف الوصول إليها على دراسة العلوم المقدّماتية التي تحقّق رتبة الإجتهاد والفقاهة، ولذا قال علماؤنا بأنّ الفقاهة ليست منصباً جعلياً، ويترتّب على هذا أنّ الفقيه من جهة أنّه فقيه قادر على استنباط الحكم الشرعي ليس له ولاية على الأمة، بل الفقاهة تجيز له فقط استنباط الأحكام الشرعية كون الفقيه من أهل الخبرة بالشريعة وعلومها، ومن المعلوم أنّ رجوع الجاهل إلى العالم وإلى أهل الخبرة هو ديدن العقلاء ومسيرتهم سواء في الأمور الراجعة إلى الدين أو الدنيا، ولذا لا نجدّ في كلّ مصادر الشرعية ما يدلّ على أنّ للفقيه ولاية من جهة فقاهته على الأمة، نعم نجد من الأئمة (عليهم السلام) ما يحث الفقهاء على بذل علومهم وتبيينها للناس من دون الإشارة إلى ولايةٍ ما في هذا المجال، من قبيل الرواية التي تُنْقَل عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله لأبان بن تغلب: (أجلس في مسجد أو "مجلس" المدينة فإنّي أُحِبُّ أن يُرى في الناس مثلك).
ثالثاً: إنّ الإفتاء الذي يمارسه الفقهاء هو المختص بالمسائل الراجعة إلى عمل المكلَّفين بشكلهم الفردي أيّ بما هم أفراد، فيوضح الفقيه الحكم الشرعي ويمارسه كلّ إنسان وفق قناعاته من حيث الفقيه الذي يأخذ عنه أحكام دينه من أجل أن تكون أعماله موافقة للشريعة حسب نظر ذلك الفقيه، ولا يمكن للحكم الشرعي الصادر عن الفقيه من مقام فقاهته أن يكون ملزماً من ناحية حقوقية وقانونية للأمة، لأنّ الفقيه ليس له ولاية وسلطة، فإذا ما افترضنا وجود إنسان عصى الحكم الشرعي الصادر عن الفقيه فلا يحقّ لهذا الفقيه أن يأتي بهذا الإنسان ويمارس عليه سلطة بأن يعاقبه أو أن يتّخذ في حقّه إجراءً ما فيه تجاوز لحرية هذا الفرد وحقوقه الإنسانية أو الشخصية أو غيرها، لأنّ مثل هذه السلطة حتى يجوز للفقيه العمل بها يحتاج إلى أكثر من الفقاهة بمفردها، وبمعنى آخر الفقيه هنا محتاج إلى سلطة تجيز له إعمال هذه الإجراءات من موقع الولاية لا من موقع الفقاهة، وليس من الممكن أن تثبت الولاية لكلّ فقيه كما مرّ معنا ذلك سابقاً بالأدلة المبيِّنة.
ولهذا نقول بعد توضيح هذه الأمور الثلاثة إنّ الفقيه من جهة الفقاهة له حق إصدار الفتوى بسبب علمه بالشريعة، ولذا لو كان جاهلاً بها لما جاز له الإفتاء، وجواز العمل أو وجوب العمل بفتوى الفقيه إنّما هو لضمان براءة ذمة المكلَّفين أمام الله لأنّه ليس من الممكن أن يصبح كلّ الناس مجتهدين في الشريعة للزوم العسر والحرج أو لزوم تعطيل المجتمع وإهمال قضاياه في كلّ المجالات الأخرى، وأنّ فتوى الفقيه مختصّة بالأفراد المسلمين بما هم أفراد فقط، ولا يمكن لفتوى الفقيه أن تكون لها صفة الإلزام الحقوقي والقانوني حتى للفرد فضلاً عن المجتمع، وأنّ الحياة ليست شرطاً ملازماً له.
وهنا يأتي السؤال المهم جداً وهو إذن: (من أين جاءت الولاية للفقيه، وكيف يمارس الفقهاء في زماننا وفيما مضى من أزمنة الغيبة الكبرى الولاية على الأمور؟ ومن له الولاية فعلاً على الأمة في زمن الغيبة هذا؟) الجواب يأتي في ما يلي من مقالات إن شاء الله العلي القدير.
والحمد لله ربّ العالمين .