السبت, 23 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الإجتهاد المعاصر وإمكانات التقارب الفقهي

sample imgage

من المسلّم به أن أحكام الشريعة الإسلامية ليست في متناول كل فرد من أفراد هذه الأمة بسبب الحاجة إلى عملية الاجتهاد المتطلبة لصرف الوقت والجهد في وقت غير قصير من عمر الإنسان ، لتحصيل العلوم الشرعية وغيرها الدخيلة في الوصول إلى تلك المرحلة المتقدمة من الوعي والإدراك والفهم والإحاطة بكليات الشريعة ومقاصدها الدنيوية والأخروية، واستنباط الأحكام لكل المسائل المستجدة والطارئة في حياة الأمة بعد عصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) والمعصوم(عليه السلام).

والإجتهاد هو عملية إستقراء ونظر وتمحيص في الأدلة التفصيلية الموصلة إلى الأحكام الشرعية, وهذا بذاته يفترض أن تكون تلك الأدلة المعتمد عليها حائزة على الأهلية القانونية من الشريعة حتى تكون نسبة الحكم المستنبط إلى الإسلام صحيحة, لأن المطلوب من الاجتهاد هو التوفيق بين الإيمان بالإسلام وبين لوازمه العملية والسلوكية في حركة المسلمين تجاه كل القضايا والمسائل محل الإبتلاء عندهم.                                                                                                    

من هنا فالاجتهاد هو الطريق لتحقيق التكامل بين المسلم ودينه من خلال عمليات الاستنباط للأحكام التي يمارسها المجتهدون الذين توصلوا بجهدهم لبلوغ تلك المرتبة العلمية الشامخة التي أهلتهم ليكونوا نواباً عن الأمة في تحديد أنماط سلوكها وتصرفاتها في القضايا الخاصة والعامة.

 

ومما لا شك فيه عند المسلمين جميعاً أن الأدلة التفصيلية التي يعتمدون عليها في استنباط الأحكام تندرج تحت عناوين عامة, وهذه بدورها ترجع إلى أهم مصدرين عند المسلمين لهما القدسية والإحترام وهما "القرآن والسنة" اللذان يعتبران المرجع العام لكل ما يستدل به الفقهاء على الأحكام.

فالقرآن هو كتاب الله المنزل على خاتم أنبيائه أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله والمتضمن لكليات الإسلام ومفاهيمه العامة في مجالات العلاقة مع الله عز وجل أو في مجالات العلاقات الإنسانية العامة في مختلف جوانبها, والسنة وهي التي تعتني بسيرة النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) قولاً وفعلاً وتقريراً باعتبار أنه القدوة الأساس للمسلمين جميعاً.

ومع أن مصادر التشريع الأساسية عند المسلمين واحدة ومعترف بها عند جميعهم, نرى الإختلافات الكثيرة على مستوى الاجتهاد وحركة الإستنباط, ومرجع هذه الاختلافات إلى طريقة التفكير والتحليل والاستنتاج, وإلى الأدلة التي يستندون إليها, فبعضهم يقبل دليلاً والآخر يرفضه, ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة والمدارس الفقهية المتنوعة, فبعض المدارس يقتصر في استنباطه للأحكام على الأدلة المنصوصة فقط ولا يتعداها, وبعضهم رأى أن الشريعة بما فيها من نصوص عامة وخاصة لا تلبي كل الحاجة المطلوبة فلجأ إلى أساليب ثانوية للاستنباط مثل القياس والاستحسان وغير ذلك.

من هنا سنحاول في هذا البحث النظر في عموم هذه الأدلة الموجودة عند مختلف المذاهب الإسلامية لتحديد صلاحية كل دليل من هذه الأدلة أولاً, ثم سنحاول مرة ثانية معرفة مدى إمكانية توحيد تلك الأدلة عند عموم المذاهب الإسلامية طالما أنها جميعاً وبإقرار الجميع مستقاة من المصدرين الأساسيين بالشريعة.

ولا شك أن الحاجة إلى هذا البحث ضرورية, إذ لا يعقل أن تكون وحدة العقيدة سبباً في هذا الكم الهائل من الإختلافات, سواء على مستوى الأدلة العامة التي ينسبها كل مذهب إلى الإسلام, أو على مستوى الاختلاف ضمن المذهب الواحد فيما يستنبطه فقهاؤه ومجتهدوه, وإن كان الاختلاف من النوع الثاني أخف وطأة من حيث آثاره كونه خلافاً في التفاصيل الصغيرة بينما الأدلة العامة واحدة طالما أنها ضمن حدود المذهب, وهذا الأمر لا يمكن إنكاره وهو واقع في كل المذاهب مهما حاولنا أن نضيّق من دائرة الاختلاف ضمن نفس المذهب, لأن هناك الكثير من المفردات تلعب دوراً في عملية الإستنباط, وهذه المفردات لا يمكن أن تكون بالضرورة مورد القبول عند جميع فقهاء المذهب الواحد كرواة الأحاديث ومدى قبول رواياتهم, ومعاني الألفاظ الواردة في الأدلة التفصيلية وغير ذلك.

وبالجملة فوحدة العقيدة الإسلامية وإن كنا نسلم بأنها لا تنتج وحدة في عملية الإستنباط على مستوى كل تفصيل من تفاصيل حركة المسلمين, إلا أنها لا يعقل من جهة أخرى أن تكون سبباً في الإختلافات الكبيرة على مستوى الأدلة العامة التي يستند إليها أرباب المذاهب عموماً, لأن الأدلة العامة هذه يفترض فيها أن تكون الترجمة النظرية والعملية للعقيدة الإسلامية كما أرادها الله عز وجل.

من هنا تنشأ أهمية هذا البحث, لأنه بمقدار ما نتمكن من أن نجعل من الإجتهاد طريقاً وباباً ينفتح فيه المسلمون على بعضهم البعض بمقدار ما نتمكن من أن نحقق اختراقات مهمة في الحواجز والفواصل الموضوعة بين أبناء الأمة الواحدة التي لعبت الاختلافات المذهبية دورها السلبي عبر العصور والقرون الماضية, وكانت سبباً في الفرقة والاختلاف والتنافر والتباعد بين المسلمين.

وإعادة النظر في عملية الإجتهاد هي في العصر الحاضر من أكثر الحاجات المطلوب التجديد فيها والابتكار والإبداع للتمكن من الاستفادة من كل التطورات التي طرأت على مستوى الحياة البشرية بشكل عام, ولإبراز القابليات الشرعية الإسلامية على التأقلم والتعايش مع كل عصر, ولإعطاء المسلمين شحنة دافعة تجعلهم في خضم حركة الواقع بدلاً من العيش على الهامش نتيجة عدم القدرة على التحرر من الرواسب أو النمط التقليدي للاجتهاد الذي يقف عند حدود ما توصل إليه السلف من قواعد وأصول ويدور في فلك اجتهادات السابقين فقط, مع التسليم بأن هذا النمط من الاجتهاد وبالحدود التي تم الوصول إليها لم يعد كافياً بنظر الكثيرين من العلماء والفئات المثقفة على مجاراة العصر نتيجة التقصير أو القصور في دخول العصر الذي نحن فيه والذي حفل بالعديد من التطورات في مجالات المعرفة المختلفة أدت إلى إيضاح العديد من القضايا التي يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في توسيع الإطارين الفقهي والأصولي معاً ليشملا حركة التجدد والابتكار التي أمتلأ بها هذا العصر.

فالاجتهاد الذي كان نعمة كبرى للأمة سابقاً بسبب التفاعل الكبير بين الأمة ودينها ومعتقداتها, والذي كان قادراً على تزويد الأمة بكل ما تحتاجه من أحكام توضّح لها كيفية التعاطي مع كل الطوارئ والتطورات, أصبح في هذا الزمن عملية غير إبداعية نتيجة وقوفه عند حد معين لم يتعداه إلا في إطار محدد ومخصوص, وبقي منحصراً ضمن آراء بعض المجتهدين فقط ممن حاول الاستفادة من العصر الحديث لإبراز قدرة الإسلام على التكيّف, إلا أن هذا الأمر لم يتعد هذا الإطار ولم يحقق الفوائد المرجوة منه, لأن هذه المحاولات بقيت ضمن نطاق الأفراد ولم ترقَ إلى مستوى الثورة الشاملة التي تنفض الغبار عن العملية التقليدية للاجتهاد ولكي تحوله إلى عنصر إبداع وابتكار وتجديد يبرز طاقات الشريعة ومدى قابلياتها لاستيعاب كل العصور بكل ما يمكن أن تحفل به من مستجدات وتطورات.

ومما لا شك فيه أن النهضة الإسلامية العالمية والحركة الإسلامية التي تتوسع كل يوم عبر حركات التبليغ المنتشرة, وبعد السقوط الكبير لحركة الفكر الوضعي في عالمنا الإسلامي تحتم علينا أن نطوّر من عملية الاجتهاد وحركة الإستنباط لإقناع هذا الجيل- الذي تغرّب عن الإسلام وابتعد عنه بدعايات الآخرين ورفضه بحجة أنه فكر سلفي جامد يريد إعادتنا إلى عصور الجهل والتخلف- بأن الإسلام هو غير ما قد صوروه لكم وأفهموكم إياه.

ومما يفرض إعادة النظر في عملية الاجتهاد هو أن الكثير من أحكامنا المستنبطة عند كل المذاهب الإسلامية كانت وفق تفسير النصوص حسب ما موجود في عصور السابقين مصاديق للمفاهيم الإسلامية المتعلقة بالحركة الإقتصادية أو السياسية والاجتماعية والتربوية, ووفق النمط الذي كان يعيشه المسلمون في السابق, فكانت تلك المفاهيم المطبقة من حيث معانيها على واقع الأمة آنذاك هي التي تحدد مسار الحكم وحجم دوره في الحركة العامة, مع أن الكثير من هذه المفاهيم قد تحمل في عصور أخرى مزيداً من التوسعة في مصاديقها ومساحة تطبيقها ولا يتعارض ذلك مع أصول الشريعة وذوقها, ومع هذا نرى أن حركة الاجتهاد لم تستطع أن تتحرر من أسر تفسيرات السابقين وبقيت جامدة عند تلك الحدود من قبيل مفاهيم الاحتكار والغناء وأمور اللهو واللغو والكثير من المعاملات في القضايا المالية والزراعية والتجارية وغير ذلك.

وأيضاً ما يفرض إعادة النظر في عملية الاجتهاد هو إمكانية إلغاء قسم كبير من الأحكام التي لم تعد مورداً لابتلاء الأمة بسبب تغيّر العادات والتقاليد والأعراف نتيجة التطورات على شكل الحياة من حيث الاتصالات والمواصلات، وسرعة الحركة التي تجعل الإنسان قادراً على الإحاطة بالكثير من الأمور في زمن قياسي بدلاً من الأوقات الطويلة التي كان يُحتاج إلى صرفها للحصول على قدر قليل من المعلومات أو مما يحتاجه الإنسان في حركته المعيشية العامة, مثل الحكم بحرمة تلقي الركبان الذي ملاكه رفع الغبن, أو مثل الحكم بوجوب البحث عن الماء مقدار رمية سهم في الأرض الصعبة ومقدار رمية سهم مضاعفة في الأرض السهلة الذي من الواضح أن ملاكه هو البحث عن الماء للغسل أو الوضوء, ولإيجاد المبرر الشرعي للانتقال من الطهارة المائية إلى التيمم عند عدم وجوده, وكذلك مثل أحكام الإماء والعبيد التي ما زال عدد من الفقهاء يذكرها مع أن هذا النمط لم يعد من القضايا المتعارفة في مختلف أرجاء العالم المعاصر.

ومما يحتم هذه العملية أيضاً هو ذلك الكم الهائل من التراث عند عموم المذاهب الإسلامية في مجالات المعرفة الإسلامية بالعموم, وفي المجالين الفقهي والأصولي بالخصوص, حيث يزخر كل مذهب بالعديد من الفقهاء والأصوليين الذين كتبوا واستنبطوا وفق أصول المذهب وقواعده المقررة, مع أنه بمكان من الإمكان جمع كل هذا التراث الإسلامي من المذاهب كافة وإعادة صياغته وترتيبه بالنحو الذي يستفيد منه كل المسلمين على اعتبار أن هذا التراث هو ملك للأمة طالما أنه مأخوذ من الإسلام وأصوله العامة وفق ما يقرره الجميع, فلماذا يبقى هذا النتاج منقسماً بين المذاهب بحيث يعتبر كل مذهب منهم أن نتاجه هو الإسلام, بينما الباقي مشكوك في صحة انتسابه عندهم, إن لم نترّقَ ونقول بأنه مرفوض كونه لا ينسجم مع ما يعتقده أبناء المذاهب الأخرى؟ مع أنه قد نجد في كل مذهب على حدة ما هو مقبول ومسلّم به عند المذاهب الأخرى ولا يوجد مانع من الموانع التي تحظر إمكانية الإستفادة منه سوى العوامل النفسية المتراكمة تاريخياً والواصلة إلى الحد الذي جعلت فيه نوعاً من العصبية التي ترفض كل ما هو خارج عن إطارها من دون استدلال وبراهين وحجج موضوعية.

لهذا كله نقول إن الاجتهاد المعاصر ينبغي أن يقوم على أساسين لا بد منهما:

الأساس الأول: التطوير في نفس عملية الاجتهاد بما هي إعمال نظر وفهم واستدلال وطرق استنباط, وهذا لا يتم إلا عبر فهم العصر الذي نحن فيه، واستيعاب كل التطورات الحاصلة لتحويل الاجتهاد إلى عملية دخول للعصر مع إمكانية مواكبته بما لا يخالف الأصول العامة والمباني الكلية للإسلام, وهذا الأمر له مجال آخر للبحث غير ما نحن فيه.

الأساس الثاني: الدراسة الموضوعية للأصول العامة للإستدلال الفقهي عند كل المذاهب، ومحاولة تقريب أو توحيد هذه الأصول عند عموم المذاهب الإسلامية لإنتاج فقه يعمل على تذويب وتدمير الحواجز النفسية والإنفعالية الضاغطة على المسلمين والمانعة لهم من الانصهار في الدين الواحد الإلهي المبدأ والمنتهى والأهداف والصياغة والتوجه والسلوك, وذلك عبر محاكمة أصول كل مذهب على ضوء المرجعين العامين المعترف بهما عند المسلمين جميعاً وهما "القرآن والسنة".

ونحن سوف نقصر الكلام في هذا البحث في الأساس الثاني, لأن الأساس الأول قد صار الأمر مفروغاً عنه من حيث ضرورة فتحه عند المذاهب التي وقفت في عملية الاجتهاد عند حدود المذاهب الأربعة المعروفة لأن الأمور تجاوزت كثيراً حدود ذلك الاجتهاد بأدواته التي كانت متعارفة وبالتطورات التي طرأت منذ ذلك الوقت إلى الآن، والتي تحتاج إلى عملية مواكبة لتزويد الأمة بالأحكام التي تضبط حركة المسلمين معها بما لا يخالف الذوق العام لمسار الشريعة, أو من حيث ضرورة تطور الاجتهاد في المذهب الجعفري بعد تحقيق الدولة الإسلامية التي فتحت الآفاق والمجالات الواسعة للاجتهاد في العديد من أبواب الفقه التي كانت مجرد عملية تنظير فقهي واستنباط علمي لم يتيسر له سابقاً عمليات تطبيق ميداني لكي تتم مرحلة الانسجام بين النظرية والتطبيق في تلك المجالات, مع إمكانية الاستفادة العلمية من الأصول عند المذاهب الأخرى-كونها تعرضت للأحكام التدبيرية وفق المصطلح المتعارف عندهم لأن الحكام المسلمين كانوا يرجعون إلى مجتهدي وأصول تلك المذاهب الأربعة المتعارفة- متوفرة ومعقولة جداً بعد التأمل والنظر وتحليل تلك الأدلة والأصول.

ولا بد قبل الدخول من التمهيد بذكر الأصول الكلية العامة للفقه الإسلامي عند عموم المذاهب الإسلامية وهي التالية: -القرآن الكريم-السنة النبوية-سنة الصحابة-سنة أهل البيت(عليهم السلام)-الإجماع-العقل-القياس-الاستحسان-المصالح المرسلة-سد الذرائع وفتحها-العرف-شرع من قبلنا-مذهب الصحابي-الاستصحاب-البراءة الشرعية-الاحتياط الشرعي-التخيير الشرعي-البراءة والاحتياط والتخيير العقلي-.

وهذه الأصول هي تقريباً كل ما هو الموجود عند المذاهب الإسلامية والتي تعود إليها كل الأدلة التفصيلية على الأحكام الفرعية المتعلقة بعمل المسلمين, وهي منقسمة إلى قسمين أساسيين:

الأول: ما يوصل إلى الحكم الشرعي وهي بدءاً من القرآن الكريم حتى مذهب الصحابي.

الثاني:ما يوصل إلى تحديد الوظيفة العملية عند العجز عن الوصول إلى الحكم الشرعي واستحكام الشك وهي الأصول الشرعية والعقلية.

وهذه الأصول العامة منقسمة بدورها من جهة القبول والتأييد من الجميع إلى قسمين -الأول-ما هو مورد الاتفاق والإجماع على كونه أصلاً عاماً ومرجعاً للكثير من الأدلة التفصيلية وهي التالية (القرآن الكريم-السنة النبوية-الإجماع-العقل-العرف-الاستصحاب-البراءة والاحتياط والتخيير "شرعاً وعقلاً") -الثاني-ما هو مورد الاختلاف والتنازع بين المذاهب الإسلامية بحيث أن بعض الأدلة هذه مقبول عند بعض المذاهب بينما هو مرفوض عند آخر وهي التالية (سنة الصحابة-سنة أهل البيت(عليهم السلام)-القياس-الاستحسان-المصالح المرسلة-سد الذرائع وفتحها-شرع من قبلنا-مذهب الصحابي.), وسبب الاختلاف هو عدم قبول دليلية هذه الأصول لدى الجميع, ولهذا نرى أن بعض المذاهب تعتبر بعضاً من هذه الأصول جزءاً من أصولها العامة وتستند إليها في التوصل إلى الأحكام الشرعية وتجعلها من صميم الإسلام, بينما البعض الآخر يرى أن ذلك نحو من إدخال ما ليس من الدين في الدين وهو مرفوض.

ولا شك أن الأصول العامة التي هي مورد الإجماع عند المذاهب الإسلامية كافة تفتح الأبواب وينبغي أن يعمل أرباب المذاهب على إجراء النقاشات الموضوعية المجردة عن الأهواء والانفعال لتطوير الاستفادة منها من خلال البحث العلمي الدقيق في التفاصيل الأساسية لها لقبول ما يمكن أن تساعد عليه الأدلة, ورفض ما لم يثبت له دليل عند النقد والتمحيص, وبهذا نقطع شوطاً مهماً على طريق توحيد الأصول العامة هذه على مستوى كيفية الاستفادة منها كماً ونوعاً.

ولنأخذ القرآن الكريم مثالاً على ذلك فنقول :(إن كون القرآن أصلاً عاماً من أصول الفقه مما لا خلاف فيه بين المسلمين بشكل عام, فالكل متفقون على كونه كلام الله وعلى كونه غير محرّف أو مغيّر, وأن الاستناد إليه مقدم على كل الأصول الأخرى, وهو الدستور الأساس للمسلمين, وأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل, لكنهم مع هذا التقدير والتبجيل للقرآن, تنازع المسلمون في جوانب متعددة منه, وكمثال على ذلك "النسخ", حيث اختلف أرباب المذاهب في نسخ بعض الآيات وعدم نسخها من قبيل "آية المتعة" التي تبيح هذا النوع من النكاح, فالمذهب الجعفري يقول بعدم ثبوت النسخ, بينما نجد أن المذاهب الأخرى تثبت النسخ, والجميع يدّعي وجود الدليل على ذلك, وعليه فالطريق لحل هذا الخلاف في النسخ وعدمه أن نأتي بالأدلة جميعاً-الدالة على النسخ أو عدمها-ونقارن بينها من حيث القوة والضعف في الدلالة وفي السند, ويمكن من خلال النقاش الموضوعي المجرّد عن الهوى والانفعال والموقف السلبي أو الإيجابي السابق على النقاش الوصول إلى نتيجة مشتركة يقتنع فيها الجميع إما بثبوت النسخ فيحرّم كل أرباب المذاهب عندئذ هذا النوع من النكاح, وإما بعدم ثبوت النسخ فيلزم على هذا إباحة هذا النوع لكل أتباع المذاهب الإسلامية, وبهذا المثال الذي يمكن تكراره نقاشاً واستدلالاً في كل ما أختلف فيه فقهاء المسلمين من الآيات المتنازع عليها بين النسخ وعدمه, وفي غير النسخ من مواضع الخلاف في القرآن, وبهذا الأسلوب الهادئ المنفتح المبني على الحوار الجدي، والنقاش الموضوعي، والاستدلال القائم على الأدلة الموضوعية المقبولة عند الجميع يمكن توحيد الموقف الرسالي الإسلامي من كل القضايا التي تهم حياة المسلمين وتتصل بواقعهم المعاش, ونخفف من حدة العصبية والانفعال التي تتحكم بأبناء المذاهب عندما يبدأون بالطعن على بعضهم البعض فيستنكر هذا على ذاك في أمر ما وكذلك العكس أيضاً).

ومن هذا الباب السنة النبوية التي يعني بها فقهاء المسلمين قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) وفعله وتقريره, حيث اتفق الجميع على حجية السنة بأصنافها الثلاثة شرط ثبوتها بالطرق المتعارفة كالتواتر أو الخبر الواحد العدل أو الثقة كما هو الرأي الراجح في قبول الرواية عنه(صلى الله عليه وآله وسلّم), ولا شك أن السنة النبوية مصدر كبير للأحكام الشرعية إذا علمنا أن القرآن لا يتضمن بين دفتيه أكثر من خمسماية آية تدل على الأحكام, بينما تفاصيل الكثير من العناوين الواردة في القرآن قد فصلها النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم), ومن هنا كان الأمر الإلهي للمسلمين بقوله تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

ولا شك أن التنقيح المطلوب في السنة النبوية معقد أكثر مما هو كذلك في القرآن, لأن القرآن قطعي الصدور والسند, بينما السنة ليست كذلك إلا في موارد التواتر وهي قليلة قياساً إلى غير المتواتر منها, إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون عائقاً صعب الإزالة إذا صفيّت النوايا وكان العمل جاداً مخلصاً في خدمة الإسلام وأمته.

وهنا يأتي دور الكلام عن الرواة وأصنافهم ودرجات وثاقتهم ومدى قبول رواياتهم وتمييز الموضوع والمحرّف عن المقبول والموافق للأصول والمفاهيم العامة الواردة في القرآن, وهذه الأبحاث لا ندّعي سهولة البحث فيها على الإطلاق.

ومما لا يناقش فيه أحد أهمية هذا البحث بالنسبة للسنة النبوية لأن الرواة هم المصدر الأساس الذي نقل لنا السنة بكل تفاصيلها سواء في مجالات الأحكام أو غيرها, ولكل مذهب طريقة في العمل بالسنة, فمنهم من يأخذ بالقسم الأكبر منها ومنهم من لم يثبت عنده من حديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) صحيحاً إلا القليل, وهذا التفاوت الكبير مما لا يمكن القبول به لمجرد أن طرحه البعض من جهة استناده إلى بعض النظريات التي اعتقدها وعمل بها, بينما السنة هي مرجع عام للمسلمين وهي أهم مصدر للأحكام بعد القرآن الكريم, ويضاف إلى ذلك أن العلماء الذين كتبوا حول الرواة وأحوالهم قد تركوا لنا تراثاً ضخماً في هذا المجال يتضمن من روى رواية واحدة وصولاً إلى من روى العشرات بل المئات أو الالآف من الروايات وكلها تحتاج إلى التأمل والبحث والتنقيح الموضوعي, خصوصاً وأن كل المذاهب تتداخل فيما بينها على مستوى قبول الرواية بنحو عام, وهذا مؤشر جيد يوحي ويُشعر بإمكانية التوصل إلى نقاط مشتركة حول كيفية توثيق الراوي والقبول بالرواية.

ونحن نعتقد جازمين أن تنقيح هذين الأصلين المرجعين والأساسيين كفيل بحل الكثير من الخلافات حول الأصول الأخرى, لأن جميع المذاهب تسند أدلة تلك الأصول إلى الكتاب والسنة النبوية.

أما بالنسبة للإجماع فهو محل اتفاق المسلمين على الحجية, إلا أن العمل به عند بعض يزيد عن الآخرين, مع الاختلافات الكثيرة أيضاً حول المقدار الذي يتحقق به الإجماع, فبين قائل إن الإجماع يمكن أن يتحقق بشخصين, وبين آخرين يشترطون اتفاق كل الأمة أو اتفاق أهل الحل والعقد على الأقل, والنقطة الأهم في بحث الإجماع هي (هل أن الإجماع دليل وأصل بما هو هو؟ أو أنه كاشف عن دليل راجع إلى الكتاب أو السنة أو العقل؟) فالمذاهب هنا مختلفة في الرأي فبعضها يقول بأنه أصل مستقل برأسه والبعض الآخر يجعله كاشفاً فقط.

وللنقاش الموضوعي في الإجماع وحجيته مجال واسع بسبب الاختلافات الكبيرة في الكثير من جوانبه , ولذا لا بد من تركيز البحث حول عدة نقاط في الإجماع هي:

الأولى: تحديد معنى الإجماع لغة واصطلاحاً.

الثانية: الأدلة المدعاة على الإجماع ومدى قوتها وإمكانية الاعتماد عليها.

الثالثة: هل الإجماع دليل مستقل بذاته أو أنه كاشف عن الدليل؟

الرابعة: أقسام الإجماع "المنقول بخبر الواحد" و "المتواتر" و "المحصن" وحجية كل قسم منها:

الخامسة: علاج الإجماعات المتعارضة عند المذاهب وبينها لأن هناك شيئاً من هذا القبيل في فقه المذاهب كلها تقريباً.

وأخيراً في بحث الإجماع لا بد من الإشارة إلى أن هناك قاسماً مشتركاً بين المذاهب وهو (أن الحكم إذا كان له دليله من القرآن أو السنة وكان الإجماع متحققاً حول ذلك الحكم فلا قيمة استدلالية لهذا الإجماع لأنه مدركي والعبرة بدليل الحكم عندئذٍ لا بالإجماع.).

وهكذا يسري الكلام حول بقية الأصول العامة المتفق عليها, إذ لا بد من الاقتناع بأن هذه الأصول المختلف في الكثير من تفاصيلها ضمن المذهب الواحد أو بين المذاهب لا يعقل أن تكون كلها صحيحة ومعبرة عن وجهة نظر الإسلام, لأن الاختلافات على مستوى النتائج تأبى صحة النسبة فيها إلى هذا الدين, لأن الإسلام كمنهج حياة لا يمكن أن يسمح بمثل ذلك التفاوت الذي تتعدد فيه أنواع السلوك والتعرف بين مسلم وآخر.

ومن هنا ندخل إلى ما اصطلح على تسميته بمبحث (التخطئة والتصويب) وهو نوع من أنواع التبرير للاختلافات الفقهية الواقعة بين المذاهب بسبب الاختلاف في الأصول العامة, ومذهب التخطئة هو القائم على أساس أن حكم الله ثابت واقعاً لكل مسألة من المسائل, واجتهاد المجتهد قد يصيب ذلك الواقع أو لا يصيبه, لكن على كلا الاحتمالين فإن حكم الله لا يتغير ولا يتبدل لأنه مبني على المصالح والمفاسد الواقعية في الأشياء, وهذه لا تتغير عما هي عليه عند الله في اللوح المحفوظ, وهذا المبنى هو الذي يأخذ به الفقه الجعفري, بينما مذهب التصويب هو القائم على أساس أن الحكم الواقعي يتبدل تبعاً لرأي الفقيه, وبهذا الاعتبار يكون حكم الله الواقعي عرضةً للتبدل إذا كان استنباط الفقيه مخالفاً له أو ليس متوافقاً معه.

وبرأينا فإن هذا المنطق التبريري لعلاج تعدد الحكم في المسألة الواحدة عند الفقهاء ينبغي أن نعيد النظر فيه ملياً, إذ ليس هناك من مبرر وداعٍ لسلوك هذه السبل لتبرير هذا التنوع في الحكم بلحاظ المسألة الواحدة, طالما أن فقهاء المسلمين قادرون على معالجة الخلاف بينهم من خلال توحيد الأصول العامة والقواعد الفقهية المتعلقة باستنباط الأحكام, وهذا التوحيد للأصول يخفف كثيراً من إدخال المنطق التبريري المعروف بـ "التصويب" الذي يؤدي إلى أن يجعل حكم الفقيه مصادراً للحكم الواقعي أو حاكماً عليه بما هو موجود وثابت في اللوح المحفوظ.

وأما القسم الثاني من الأصول العامة وهو المتنازع في حجيته بين المذاهب, فهو مورد للتأمل والنقاش بسبب الاختلافات العميقة جداً بين الأفرقاء في هذا المجال, بسبب أن بعض المذاهب يأخذ ببعض هذه الأصول بينما يرفضها البعض الآخر ويستنكر على العامل بها, وهكذا بالنسبة لبعض آخر من المذاهب أيضاً.

والقاسم المشترك في الذهاب إلى الاعتماد على تلك الأصول هو القول بأن القرآن الكريم والسنة النبوية لا تستوفيان كل احتياجات الأمة من الأحكام في مختلف المجالات, فكان لا بد من الالتجاء إلى أساليب أخرى, ومن هنا سعى كل مذهب إلى الاستدلال بأدلة من القرآن أو السنة أو منهما معاً على جواز الاستنباط استنادا إلى تلك الأصول بعد إضفاء الصفة الشرعية عليها.

إلا أنه مع ذلك لا يمكن نكران إمكانية الاستفادة من تلك الأصول في هذا الزمن المعاصر بما يخدم حركة التجديد الأصولي والفقهي عند الأمة عن طريق إعادة النظر في كل واحد منها وفقاً للمصدرين الأساسيين والسعي إلى تكوين رؤية موحدة ومشتركة للمذاهب جمعاء حول هذه الأصول التي ما زالت حتى الآن محصورة ضمن أطرها المذهبية والتاريخية ولا يجرؤ أحد على المساس بها.

ونبدأ الحديث بالأصل الأول من هذه الأصول المتنازع عليها وهو (سنة أهل البيت"عليهم السلام"المعتبر أصلاً عند المذهب الجعفري من جهة, ومفسراً ومبيناً عن النبي الأعظم" صلى الله عليه وآله وسلّم" في عمقه وحقيقته) وقد استدل الفقهاء على هذا الأصل بأدلة من القرآن والسنة النبوية والعقل بالتقريب التالي:

أ- من القرآن: آية التطهير (إنما يريد الله ليذهب الرجس عنكم أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وآية الإطاعة لأولياء الأمر (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً), وقد أوضحت الروايات المعتبرة عند الفريقين بأن المراد بأهل البيت (عليهم السلام) هم الأئمة المعصومون الذين هم من قريش دون غيرهم, ويمكن الرجوع إلى المصادر الحديثية للتثبت من هذا الأمر أكثر حيث توجد في كتب الفريقين من السنة والشيعة.

ومن السنة النبوية الحديث المعروف والمتواتر بين المسلمين وهو (حديث الثقلين) الذي جاء فيه (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي, كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي, ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض, فانظروا كيف تخلفونني فيهما) وقد أوضح النبي( صلى الله عليه وآله وسلّم)  أن المراد بأهل البيت(عليهم السلام) هم الأئمة(عليهم السلام) في العديد من الوقائع والروايات الواردة عنه.

ومن العقل الدليل التالي (إن الإمام(عليه السلام) حافظ للشرع كالنبي( صلى الله عليه وآله وسلّم), لأنه حفظه من أظهر منافع وفوائد إمامته), إلا أن أدلة العقل هذه لا تثبت إلا بعض صفات الإمامة وهي "العصمة" ولا تتدخل في تحديد من هو الإمام, ولذا يحتاج تعيينه إلى الأدلة الواردة في السنة النبوية بالخصوص.

ولا شك أن الآيات الدالة على مودة أهل البيت( عليهم السلام) تصلح أن تكون أساساً بين جميع المسلمين يلتفون حولهم, خصوصاً أن لهم محبة وتقديراً عند عموم المسلمين, وقد ورد في كتب الفريقين الأحاديث الدالة على استحباب الصلاة عليهم عند الصلاة على النبي( صلى الله عليه وآله وسلّم), مضافا ً إلى ما ورد من المدح والثناء والتبجيل للأئمة( عليهم السلام) كلهم في كتب الأحاديث والمرويات عند الفريقين.

فهذه الأمور تستوجب إعادة النظر من المذاهب التي لم تعمل بالرواية الصادرة عن أئمة المذهب الجعفري, لأن روايتهم لا يمكن أن تكون مرفوضة في مقابل رواة أقل منهم شأناً ورتبة وعلماً وشرفاً وفق موازين الإسلام.

وهذا يعني فيما لو قبلنا روايتهم بالحد الأدنى ولو لم يعتقد المسلمون الآخرون فيهم وفق ما يعتقده أتباع المذهب الجعفري لأغنى ذلك حركة علمي الفقه والأصول عند كل المذاهب الإسلامية باعتبار أن الروايات الواردة عنهم تشمل الكثير من الأحكام المرتبطة بالمتغيرات التي حدثت والتطورات التي حصلت بعد رحيل النبي( صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى أواسط القرن الثالث.

ولا يفوتنا في هذه النقطة بالذات, أولا يمكننا إغفال دور السلطتين الأموية والعباسية من منع المسلمين وفقهائهم من الرجوع إلى أئمة أهل البيت( عليهم السلام) في تلكما الفترتين على مستوى الأحكام, ما عدا الفترة الزمنية القصيرة-انتهاء الدولة الأموية وتأسيس السلطة العباسية-تحرر الإمام الصادق( عليه السلام) بالخصوص من ضغوطات السلطتين فاستغل تلك الفترة خير استغلال وعمل على نشر أحاديث آبائه وأجداده وأحاديث النبي( صلى الله عليه وآله وسلّم) بين المسلمين, وهذا هو السبب في تسمية المذهب الإمامي بالجعفري.

وهذا المنع الذي كان له أسبابه السياسية والسلطوية بالخصوص من طرف السلطتين استمر إلى الأزمان اللاحقة, في الوقت الذي احتاج فيه المسلمون إلى الكثير من الأحكام لعلاج المستجدات على كثرتها, ومن هنا نشأت الحاجة إلى العديد من الأصول التي استفيدت من المصدرين الأساسيين لإيجاد الأصول العامة التي بواسطتها تمت تغطية احتياجات الأمة من الأحكام.

وأصل سنة أهل البيت( عليهم السلام) في المذهب الجعفري ليست معتبرة عندهم أصلاً مستقلا ً برأسها, بل هي عندهم تابعة للسنة النبوية ومتفرعة عنها, ولهذا لم يعهد عنهم الرواية عن غيرهم من الرواة, بل يروي اللاحق منهم عن السابق وهكذا وصولاً إلى النبي الخاتم محمد( صلى الله عليه وآله وسلّم).

هذا هو باختصار ما يمكن أن يقال عن سنة أهل البيت( عليهم السلام) وفق ما يقتضيه مقام البحث في موضوع الحديث الذي نحن فيه.

بعد هذا ننقل الكلام إلى الأصول العامة الأخرى مورد النزاع, ونبدأ بـ"القياس" لأنه من أهم الأصول المعتبرة عند البعض من المذاهب ومصدر الكثير من الأحكام في المسائل الفرعية, لكنه كان مثار جدل واسع ونقاش طويل من جهة أخرى, وأهم النقاط التي ينبغي البحث فيها في هذا الأصل هي التالية:

الأولى: تعريف القياس وتحديد معناه لغةً واصطلاحاً.

الثانية: الأدلة المدعاة على حجيته من الكتاب والسنة النبوية والعقل.

الثالثة: أركان القياس التي تجيز إعطاء حكم الأصل للفرع.

الرابعة: العلة وأقسامها وتحديد ما يصلح منها لجواز التعدية في الحكم.

الخامسة: تحديد الموارد التي يمكن إجراء القياس فيها.

إلا أنه لا بد من الإشارة بالجملة إلى أن القياس بالحجم الذي تعمل عليه المذاهب الآخذة به ليس مرفوضاً بالمطلق, وذلك لأن الموارد الكلية التي جرى فيها القياس عندهم قد يوجد بعضها لدى المذاهب الأخرى لكن تحت عناوين أخرى معترف بها, ويمكن الإشارة إلى أهمها كما هي عند المذهب الجعفري مثلاً:

أولاً: العلة المستنبطة أو تنقيح المناط أو العلة المتصيدة.

ثانياً: مناسبات الحكم والموضوع.

ثالثاً: إسقاط الخصوصية.

رابعاً: مفهوم الأولوية ودلالات الإقتضاء والإشارة والتنبيه.

خامساً: التنقيح الظني.

والموارد الأربعة الأولى من هذه الموارد الكلية الخمسة معمول بها وبعضها معتبر من نوع الدلالة الللفظية مثل مناسبات الحكم والموضوع ودلالات الإشارة والتنبيه و الإقتضاء ومفهوم الأولوية, وبعضها يأخذ حجيته من حجية القطع كما في موارد العلة المستنبطة وإسقاط الخصوصية الذي يعني أن يكون الحكم معلقاً على وصف مشعر بالعلية فيقطع العقل أن هذا الوصف هو علة الحكم وليس شيئاً آخر فيعديه إلى كل مورد كان ذلك الوصف المشعر بالعلية متحققاً فيه.

نعم يبقى المورد الخامس وهو "التنقيح الظني" ومعناه أن يرد دليل على أمر ولم ينص الدليل على علة الحكم, ولكن حصل الظن العقلي بأن العلة هي الشيء الفُلاني من دون أن يرتقي ذلك الظن إلى حدود القطع, ومع هذا نسري هذه العلة المظنونة إلى مورد آخر, من قبيل الحكم بأن القاتل لا يرث المقتول إذا كان وارثاً له, يتحصل الظن أن علة عدم التوريث هي معاقبة الفاعل بضد ما أراده, فهذه العلة المظنونة لا يمكننا تسريتها إلى شيء آخر مشابه, وهذا القسم من القياس هو الذي ورد النهي عنه عند المذهب الجعفري بأدلة منها (إن دين الله لا يصاب بالعقول)  و (السنة إذا قيست مُحِقَ الدين), لأن العقول البشرية قاصرة عن إدراك عالم الملاكات الواقعية للأحكام أي "المصالح والمفاسد", ومجرد الظن فيها لا يكفي لتسرية الحكم من الأصل إلى الفرع, وهو من نوع التشريع ألبدعي, مضافاً إلى الاختلاف الواقع بين المذاهب الأربعة حول حجية التنقيح الظني من القياس.

إلى كل ذلك نجد أن المذاهب كلها متفقة على عدم جواز إجراء القياس في العبادات لأنها توقيفية ولا تعرف أو لم تعرف قبل زمن الشارع الإسلامي المقدس, وما على الإنسان إلا الالتزام بها لإثبات العبودية الخالصة والحقة لله عز وجل ولامتحان طاعته, وهي بعكس المعاملات التي هي من الأمور التدبيرية وقد تكون علل الأحكام واضحة فيها فيمكن تسرية الحكم من الأصل إلى الفرع لكن بعناوين متعددة عند المذاهب متفقة جميعاً في المضمون.

وعليه فالخلاصة أن القياس كما أوضحنا ليس مرفوضاً بالمطلق, بل هو مرفوض في مورد كلي واحد وهو ( تسرية الحكم من الأصل إلى الفرع لعلة مظنونة), بينما الموارد الأخرى محل اتفاق وتسليم عند جميع المذاهب.

بعد هذا ننقل الكلام إلى الأصل العام الآخر المتنازع فيه وهو المسمى بـ"الاستحسان" والذي يعني تقديم دليل على آخر, أو رأي على آخر من دون دليل, وقد نفي حجيته الشافعي وقال كلمته المعروفة ( من استحسن فقد شرّع).

لكن مع هذا يمكن القول بأنه يمكن علاج بعض الجوانب من موارد الاستحسان وجعلها في معرض القبول لدى كل المذاهب.

وذلك لأن الاستحسان بمعنى الأخذ بأقوى الدليلين المعترف بهما شرعاً مثل (الدليلان اللفظيان) أو (الدليلان غير اللفظيين) أو (الدليل اللفظي والدليل العقلي) على مختلف أوجه التفصيلات الأخرى, فهنا توجد لدى العاملين بغير الاستحسان من الأصول قواعد عامة لمعالجة أوجه الاختلاف بين الأدلة وهي على قسمين:

أولاً: قاعدة "التزاحم": وهي التي تعني تقديم أحد الدليلين على الآخر في مقام الامتثال بسبب فعلية كلا التكليفين في حق مكلف وعدم قدرته على الجمع بينهما عملاً, والمرجحات في المقام كثيرة وفق ما ورد في النصوص أو وفق ما يقتضيه حكم العقل, والمرجحات هي:

1-تقديم الأهم على المهم مثل تقديم تطهير المسجد على الصلاة مع سعة الوقت والعكس مع ضيق الوقت.

2-تقديم ما له البدل على ما ليس له البدل كتقديم طهارة الثوب على الوضوء لأن للوضوء بدلاً وهو التيمم.

3-تقديم المعيّن على المخيّر كمن وجب عليه نذر وكفارة مخيّرة.

4-تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية كتقديم وجوب وفاء الدين على وجوب الحج, لأن القدرة إن اعتبرت في الدليل كانت شرعية, وإلا كانت عقلية.

ثانياً: قاعدة "باب التعارض": وهي التي تعني تقديم أقوى الدليلين عند تعارضهما بلحاظ واقعة معينة ولم يمكن الجمع العرفي بينهما بناء لقاعدة فرعية تقول بأن "الجمع أولى من الطرح", والمرجحات هي التالية:

أ-أن يكون أحد الدليلين حاكماً والآخر محكوماً, فنقدّم الحاكم على المحكوم.

ب-أن يكون أحد الدليلين وارداً والآخر موروداً, فنقدم الوارد على المورود.

ج-موافقة أحدهما للكتاب ومخالفة أحدهما للآخر, فنقدم الموافق ونرفض المخالف.

د-مخالفة العامة: بعد كون الدليلين موافقين بظاهر معناهما للقرآن ننتقل إلى البدل الطولي الآخر وهو المخالفة للعامة, فما كان من الدليلين مخالفاً للعامة فلنا أن نأخذ به ونترك الآخر.

1 وعليه فـ"أ" و "ب" مع غيرهما مما لم نذكره علاج للتعارض البدوي الذي يزول بهذا العلاج, و"ج" و "د" للتعارض المستحكم المستتر بين الأدلة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المراد بالعامة هم الرعاع وفقهاؤهم الذين كانوا يعملون تحت إمرة السلاطين ليضعوا لهم الأحاديث والأحكام وفق أغراضهم ومشتهياتهم ولو على حساب دين الله وشريعته, وليس المراد هم أئمة المذاهب الأربعة الذين كانوا يستنبطون الأحكام وفق ما صح عندهم من روايات عن النبي( صلى الله عليه وآله وسلّم), أو وفق الأصول المستدل عليها عندهم من الكتاب أو السنة النبوية.

وأما الاستحسان بمعنى أن يقدم المجتهد ويرجّح أحد أمرين على الآخر بناء لاجتهاده ورأيه الشخصي, فهذا مرفوض من الناحية المبدئية كونه متضمناً لمعنى التشريع,إذ لا يمكن لأي فقيه أن يدّعي أن اجتهاده الشخصي أصل من الأصول العامة لإثبات الحكم الشرعي, مضافاً إلى ما ورد من النهي عن الإفتاء بغير علم وبغير الاستناد إلى حجة, والقول بأن رأي الفقيه عند عدم الدليل هو الدليل تحّكم أو مصادرة على الأقل, لأن المطلوب أولاً هو إثبات حجية رأي الفقيه من الكتاب أو السنة, ثم ثانياً يمكن الأخذ بحجية قوله, لكن لا يوجد دليل على ذلك, بل الدليل على عدم الحجية موجود من قبيل (من عمل برأيه فقد هلك).

وأما الأصل العام الآخر وهو "المصالح المرسلة", فالمصلحة هي في الأصل جلب منفعة أو دفع مضرة, والمقصود من المصلحة هنا "الحفاظ على مقاصد الشرع الخمسة المعروفة وهي "دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم", وأما الإرسال فقد حصل اختلاف في أن المراد منه هو عدم الاستناد إلى أي أصل كلي أو جزئي, أو الاستناد إلى النصوص العامة الكلية الواردة في الشريعة.

ومن هنا يمكننا القول إن المصالح المرسلة هي عبارة عن ضرورة المحافظة على الكليات الأساسية التي تقوم عليها معايش العباد, وتدخل ضمن الأمور التدبيرية للناس, ويمكن الجمع بين المذاهب بالعمل بالمصالح المرسلة كونها غير محددة أو مقيدة بنصوص خاصة من خلال القول بأن وظيفة الدولة الإسلامية بالأساس العمل من خلال ولاية الحاكم الإسلامي بالشروط المأخوذة فيه على الحفاظ على تلك المقاصد الشرعية المتعلقة بحياة العباد كما يتضح ذلك من الأمثلة المذكورة في المصالح المرسلة مثل إقامة الحدود والقصاص على كل الجناة والمخالفين والمبتدعين, ويمكن إدخال قضايا السلم والحرب في المصالح المرسلة أيضاً, وكل ما هو مورد حاجة للمجتمع الإسلامي, وعلى هذا فيكون الاختلاف في المصالح المرسلة لفظياً, لأن الشارع الإسلامي المقدس لم يهمل قطعاً مقاصده في حياة الناس, بل هي في أعلى مراتب الحفظ ومن أهم واجبات النظام الإسلامي, لكن على أن يخرج العلاج عن إطار القواعد العامة والأصول المعتبرة في الشريعة الإسلامية, وهو ما يسمى بالرجوع إلى العمومات الفوقانية التي تتجاوز الأحداث الصغيرة والتفاصيل التي يمكن استنباط أدلتها من الأصول العامة والقواعد الأخرى المقررة في علمي الفقه والأصول.

وأما سد الذرائع وفتحها, فما يتضح من تعريف الذريعة بأنها (ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء), وما يتضح من الأمثلة التي ساقوها, مثل الوسائل التي تفضي إلى المفسدة, كالزنا المفضي إلى اختلاط المياه, أو السكر المفضي إلى مفسدة السكر, أو الوسائل المباحة التي قصد فاعلها التوصل إلى الحرام, كالبيع المفضي إلى حصول الربا كالبيع الربوي, وهكذا باقي الوسائل التي ذُكِرَت.

والذي يبدو أن عدّ سد الذرائع وفتحها أصل رأسه مما يمكن النقاش فيه, لأن الوسائل التي توصل الى أحدها تعتبر أن غالبية موارده إن لم نقل جميعها,إما أن تدخل ضمن مباحث مقدمة الواجب أو الحرام لأن الوسائل توصل الى أحدهما وهي بذلك تأخذ حكمه وجوباً أو تحريماً -لا عقاباً- على الخلاف في هذه النقطة, أو أنها من أنواع الإستفادات من الملازمات اللفظية للأدلة الدالة على الأحكام الوجوبية أو التحريمية, وهذا هو رأي المذهب الجعفري في هذا المجال, ومن هنا نستكشف أن الاختلاف في هذا الأصل لفظي وليس بحقيقي, نعم يبقى الخلاف في عدِّه أصلاً أو مندكاً تحت الأصول الأخرى الشرعية أو العقلية.

وأما العرف, فإن كان بمعنى السيرة العقلائية فهذه لها شرط عند المذهب الجعفري للحجية -أولاً- أن تكون السيرة غالبة عند الناس بما هم عقلاء وهي سيرة مستمرة -ثانياً- أن لا يرد النهي عنها في الشريعة المقدسة أو لا تكون مشمولة لما يستفاد منه النهي, وإن كان بمعنى -السيرة المتشرعية- فهذه لا بد أن تكون مشتقاة من الشارع لأن السيرة المتشرعية تكشف عن سبق وجود الدليل على تلك السيرة كونها من العرف المتشرع الملتزم بأحكام الإسلام, وإن كان العرف بمعنى "تحديد معاني الألفاظ الواردة في الشريعة الإسلامية لأن المخاطب بها والأعرف بمدلولاتها كالموضوعات المستنبطة, فالوظيفة من العرف هنا هي تنقيح الموضوعات لترتيب الأحكام على ضوء ذلك التحديد العرفي كتحديد معاني الغناء والبيع والصعيد وغير ذلك مما ورد في الأدلة ولم يحدد الشارع معناه, وترك أمر ذلك إلى العرف العام.

وهنا يتبين أيضاً أن العرف ليس مرفوضاً عند المذاهب, بل هو معتبر, وإنما الخلاف في كيفية إعتباره, وهذه النقطة بالذات يمكن الاتفاق حولهابنحو من الأنحاء.

بعد هذا كله نقول: مما سبق يتضح جلياً وبما لا يحتاج بعد ذلك إلى كثرة إستدلال أن إمكانيات التقارب الأصولي والفقهي بين المذاهب الإسلامية كبيرة جداً, بحيث يمكن لمجموعات من فقهاء المذاهب أن يسعوا إلى الدراسة والبحث والتدقيق في كل التراث الفقهي والأصولي وهو تراث ضخم وغني ومشبع بالأدلة والاراء والإجتهادات, وتنقيح الأصول العامة بشكل يمكن أن يجعلها أصولاً عامة للشريعة كلها, وليس أصولاً عامة متعددة عند كل مذهب كما هو السائد حالياً, وهذا سوف يوفر بالتأكيد مجالات معرفية واسعة لكل مذهب من المذاهب, وبهذا تغتني المذاهب كلها من خيرات وبركات علمي الأصول والفقه.

ولا شك أن هذه المهمة ليست سهلة باعتبار أنها تحتاج إلى الأناة والصبر, والقفز فوق الخلافات التاريخية و الانفعالات المذهبية المتراكمة والحجر المذهبي الذي حجّر على المسلمين في السابق وحصرهم ضمن أطرهم الخاصة فقط.

لكن بالنظر إلى النتائج الكبرى المترتبة على هذا التقارب, فهذا يمكن أن يكون محفزاً قوياً للبدء بهذا الواجب المهم والجليل في ان معاً.

ويمكن بالتالي الإستفادة من كل التطور الحاصل في العالم الأن على المستويات الأكاديمية والمنهجية والمعرفية في تذليل الكثير من الصعوبات التي كانت تعترض مثل هذا العمل في السابق وتجعله مستحيلاً عملياً.

 

والحمد لله رب العالمين 


"التعليقات المنشورة لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع، كما ولا يتحمّل الموقع

أي أعباء معنوية أو مادية إطلاقاً من جراء التعليقات المنشورة"


أضف تعليقاً


كود امني
تحديث