الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

القلة والكثرة في القرآن الكريم

sample imgage

قبل الدخول في هذا البحث لا بد من التوقف عند معنى هذين المفهومين "القلة" "والكثرة" من الناحية اللغوية, ثم ندخل في محاولة تطبيق معناهما على الموارد التي استعمل فيها القرآن هذين اللفظين , ولنخلص بالتالي إلى تحديد الطريقة الإسلامية على المستويين النظري والعملي وهما "العمدة في هذا المجال".

"الكم الضئيل": فالقلة تعني عدم الكفاية في اي مجال من المجالات بينما الكثرة تعني وجود الكفاية وما يزيد في أي مجال أيضاً كالمال أو القوة أو العدد, وليس لهذين اللفظين غير هذا المعنى في اللغة، وكل الاستعمالات التي وردا فيها هي من نوع التطبيق لمعناهما على المصاديق النوعية المتعددة في الواقع الخارجي.

وبالرجوع إلى الآيات القرآنية نجد أن موارد الاستعمال متعددة من حيث مصاديق هذين اللفظين, وبعملية استقرائية يمكننا تحديد موارد كثيرة:

 

أولاً: على المستوى الإيماني: قال الله تعالى: ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) و (إن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون)

ثانياً: على المستوى الجهادي: قال الله تعالى: ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً).

ثالثاً: على المستوى العددي: قال الله تعالى: ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر)

رابعاً: على المستوى المالي:قال الله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) وبالتأمل في هذة الآيات القرآنية يتوضح لنا بشكل إجمالي أن تقويم النظرة الإسلامية لمعنى الكثرة هو " تقويم سلبي" وهذا راجع إلى جملة من المفاسد التي تترتب على كل مصداق من تلك المصاديق لمعنى الكثرة, وهذه المفاسد هي:

1-الانحراف عن الصراط المستقيم: وذلك لأن شيوع الاعتقاد المنحرف قد يصل إلى الحد الذي يطغى فيه المعتقد الفاسد على الفكرة الإلهية المودعة في عمق النفس البشرية فلا تعود قادرة على التحرر والخلاص من أسر ذلك المعتقد المنحرف.

2-رفض الاستماع لدعوة الحق: وهذا نتيجة طبيعية باعتبار أن الإنسان عندما يؤمن بعقيدة فاسدة وتمر على تلك العقيدة قرون وأجيال سوف يؤدي كل ذلك إلى الميل والركود لها مما يجعل الإنسان في حالة رفض لدعوة الحق التى تريد هدايته وإرشاده, وقد عبر الله تعالى عن هذا في القرآن: ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون).

3-حرب أهل الحق: وهذا يترتب أيضاً على الإيمان بالعقيدة المنحرفة التى يتوهم مقتنعوها بصحتها هرباً من دعوة الحق وأهلها عندما لا يتمكنون من مواجهتها بقوة الدليل والبرهان, وهذا ما نجده في تاريخ الرسالات السماوية عموماً عندما كانت تواجه بالرفض تارة والحرب ضد الحق تارة أخرى, كما قال الله تعالى عن نبيه موسى (عليه السلام): ( وأوصينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون, فأرسل فرعون في المدائن حاشرين, أن هؤلاء لشرذمة قليلون, وإنهم لنا لغائظون, وإنا لجميع حاذرون)

ثانياُ: على المستوى الجهادي:

1-تغييب المدد الإلهي:وذلك لأن الكثرة العددية في حالة الحرب إذا كانت في مواجهة قلة من حيث العدة قد تجعل الإنسان غافلا عن الدوافع المعنوية والروحية في الكثير من الحالات إذا كان منطلقاً في الجهاد من موقع كونه مؤمناً في الحياة الدنيا.

2-الإستناد إلى القوة العددية: وذلك لأن الكثرة هنا قد تجعل الإنسان متكلاً على العناصر البشرية العددية التى يتواجد معها فيعيش حالة من الركود في القوة إلى الغير وكذلك يفعل الآخرون مما يسبب في النهاية ضعفاً ووهناً من الجميع لا تدرك نتيجته إلا بعد انجلاء غبار المعركة ووقوع الخسارة في الكثير من الأحيان, وهذا ما أخبر الله تعالى عنه عن معركة حنين التى ذكرنا آياتها فيما سبق , حيث ركن المسلمون إلى قوتهم الذاتية فانهزموا أمام جيش المشركين وكاد أن يقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لولا ثبات بعض المجاهدين الذين لم ينسوا هدف القتال وبقوا على إرتباطهم بالقدرة الإلهية.

ثالثاً: على المستوى العددي:

1-إهمال القيمة المعنوية للإنسان: وذلك لأن الكثرة في العدد عندما تتحقق يترتب عليها الكثير من الإهمال لقيمة الإنسان كمخلوق مميز وله مكانة رائدة بين المخلوقات, وهذا مما ينتج حالة من التهاون بالحقوق الإنسانية في الكثير من المجالات نتيجة شيوع تلك النظرة الخاطئة وذلك التقويم السلبي للقيمة الإنسانية, وهذا ما نجده عند غالبية المجتمعات غير الإسلامية.

2-تصنيف الناس طبقات: وذلك لأن الكثرة عندما تكون منطلقة بعيداً عن الإيمان بالله, فهذا مما يؤدي إلى نوع من تصنيف البشر على أسس تعتمدها الناس فيما بينها إلى طبقات اجتماعية معينة تارة بحسب اللون أو العرق أو القومية أو الموقع الإجتماعي المبني على مميزات وضعية ككثير من ألوان التصنيفات التي كانت موجودة قديماً عند الشعوب, وهي متحققه في عصرنا الحاضر كتقسيم العالم إلى العالم المستكبر والعالم المستضعف وما يترتب من موقعية ودور ووظيفة في إدارة شوؤن المجتمعات بناء على هذا التقسيم أو التصنيف.

رابعاً: على المستوى المالي:

الاستقواء والطغيان: وهذه المفسدة كثيراً ما تحققت قديماً وهي حاصلة حالياً لأن الكثرة في المال عندما تتجرد عن الإيمان بالله عزوجل تصبح وسيلة للاستقواء والطغيان والاستعباد, كما تصبح وسيلة لإشعال الحروب والتسلط والاستكبار كنتيجة لغرور المال وأصحاب الثروة.

2-الإبتعاد عن الخط الإلهي: وذلك لأن هذا المال عندما يكثر في يد إنسان ما ويتمكن به من تأمين كل ما يريد من نعيم واحتياجات متنوعة في الحياة الدنيا, فقد يشعر مثلاً بأنه غني عن الإيمان والارتباط بالقدرة الإلهية أو أنه يستخف بأمر مثل هذا الاعتقاد ولا يقيم له وزناً في حياته, بل ينطلق مع ماله ليحقق به شهواته ونزواته وكل رغباته بأي طريق كان.

وهذه بعض المفاسد التي تترتب على كل مستوى من مستويات الكثرة التي ذكرنا, ولكن هناك سبب رئيسي يجمع بين كل تلك المفاسد هو"عدم الإيمان بالله سبحانه وتعالى أوعدم الالتفات إلى دخالة هذا السبب في تنظيم الكثرة وتوازنها على مستوى الحركة في الحياة الدنيا, ومن هنا تنتج كل تلك المفاسد التي ذكرناها ولا ندعي انحصارها بما قلنا, وهذا يعني أن نظرة الإسلام إلى الكثرة هي نظرة عدم الإحترام وعدم التقديس.

وأما القلة فإن الموارد المستقرأة في القرآن الكريم هي التالية:

أولاً: على المستوى الإيماني: قال الله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل)،

و(العصر * إن الإنسان لفي خسر *إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، و( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) و( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين).

ثانياً: على المستوى الجهادي:قال الله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)، و(إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).

ثالثاُ: على المستوى المعنوي: قال الله تعالى: ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) و( اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).

رابعاً:على المستوى المالي: قال الله تعالى: ( ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)، و( ولتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).

وبالتدقيق في هذه المصاديق لمعنى القلة نجد المدح والتقدير الإلهي على كل المستويات المذكورة , وهذا عائد إلى سبب أساس أيضاً هو أن الإيمان بالله عز وجل كان المصدر الأساس لكل أولئك الذين امتدحهم الله ووعدهم بالرحمة والمغفرة والنصر والغلبة والهيمنة على كل الأمور.

من كل ما سبق , نصل إلى النتيجة التي نتوخاها وهي أن الكثرة بما هي كثرة ليست هي المقياس للحقيقة في المجالات الإيمانية وليست هي سبب الغلبة في المجالات العسكرية وليست هي الوسيلة لإعطاء الإنسان قيمته المعنوية أو منزلته الاجتماعية وليست الكثرة في المال هي الطريق الموصل لتحقيق الأهداف الإلهية في الكثير من الحالات وإن كان كل ذلك لا يمنع من أن تكون الكثرة في بعض الأحيان على تلك المستويات محققة للأهداف الإلهية إذا توافرت فيها الشروط الموضوعية وفق النظرية الإسلامية الإلهية كما يعبر ذلك سبحانه عمن يملكون الكثرة من المال وينفقونه في سبيل الله تحصيناً للمجتمع ورفعاً للمستوى الاجتماعي للفقراء لتحقيق مجتمع العدل والكفاية الاجتماعيين كما يقول تعالى: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) و( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون).

ونفهم في المقابل أن القلة وقعت مورد المدح الإلهي خاصة في المستوى الإيماني والجهادي لأنها التعبير الصادق عن رفض الانجرار وراء الأكثرية التي توهمت أن كثرتها تجعلها محقة فيما عليه هي من الاعتقاد أو أنها طريق النصر.

والقلة في هذين المستويين بالخصوص وهما اللذان تبيّن عبر التاريخ بأنهما رافقا الأنبياء والأولياء وكانوا المشاعل المضيئة التي انتصرت على كل الانحراف والحصار الذي كانت تمارسه الأكثرية وتحملت بسبب إيمانها كل أنواع البلاء وتحملت مسؤولية الجهاد المقدس في سبيل حماية إيمانها وارتباطها بالله فخلدها الله عز وجل كنماذج أمام البشرية لتهتدي بها حتى لا تنحرف مثل الأكثرية الضالة عبر العصور, فالقلة هي التي تريد الإرتباط بالله والدفاع عن أنتمائها إليه مهما كانت العراقيل والصعاب التي تقف بوجهها.

ومن أبرز الأمثلة في ظرفنا الراهن الذي تعيش على هذا الصراع بين الأقلية المؤمنة والأكثرية المنحرفة في المستويات الإيمانية والجهادية والمالية والمعنوية هو ما نشهده من الجهاد الذي يقوم به أبطال الإسلام الأصولي من خلال المقاومة الإسلامية في لبنان والانتفاضة المباركة للشعب الفلسطيني المسلم والحركات الإسلامية التي تقف أمام قوة التسلط الإستكباري الأمريكي وأمام الغطرسة الصهيونية المتمادية في الإجرام والقتل والإبعاد والانتهاك لكرامة الأمة الأسلامية.

هذه القلة التي ترفض الاعتراف بما يراد للأمة أن تصل إليه من الرضوخ الكامل لإرادة الشيطان الأكبر أمريكا هي التي تحارب اليوم باعتبار أنها خارجة عن المسار العام للأمة كما تحاول وسائل الإعلام المرتبطة بالدوائر الاستكبارية وكذلك الأنظمة العميلة الإيحاء بذلك لتبرر استسلامها ومن ثم اعترافها بالكيان الصهيوني.

إلا أن هذة القلة المؤمنة والمجاهدة لله لن ترضخ لمثل هذة الدعايات المغرضة, ولن تتخلى عن إيمانها وارتباطها بالله ولا عن سلاح مقاومتها وعنوان عزتها إلى أن يتم بعث الروح الجهادية والمعنوية عند كل أبناء هذة الأمة التي تختزن الكثير من الإرادة والقدرة ولكنها غافلة عن ذلك بسبب ضغط الانحراف الذي يسعى هؤلاء المجاهدون القليلو العدة والعدد في رفعه عن كاهل الأمة شيئاً فشيئأ حتى تصبح هذة القلة روح الأمة وحتى تتحول الأمة كلها وترتقي إلى مستوى هذه القلة, وهذا الأمل الذي نجده يكبر يوماً بعد يوم بعون الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.