الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الإسلام "إقناع لا إكراه"

sample imgage

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن السبب في إرسال خاتم الأنبياء محمد(صلى الله عليه وآله وسلم): { وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين}.

ولا شكّ أنّ الرحمة هي العطف والحنو والإشفاق على الإنسان والمحبّة من الخالق عزّ وجل للبشرية كافةً التي أراد لها ربّها الخير في الدنيا والآخرة.

ولا ريب أيضاً أنّ الرحمة تتنافى مع القسوة والشدّة والعنف والإجبار والإكراه، لأنّ هذه المعاني جميعاً لا تتناسب مع الرقّة والرأفة وكلّ المعاني المنسجمة مع "الرحمة".

 

والمراد من "الرحمة" في الآية الكريمة هنا هو (دلالة العبد على ربّه ليعبده بعد الإيمان به، لأنّ الله خلق الخلق من أجل أن يعيشوا في الحياة الدنيا مع الله كما أراد ولينتقلوا منها إلى الحياة الآخرة حيث الجنة والنعيم المقيم، ولذا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يخاطب عباده الذين أوغلوا في خطّ الإنحراف بقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً}.

من هنا نقول إنّ الله عندما بعث محمداً رسولاً وأنزل عليه القرآن الحامل لدينه وهو "الإسلام" إنّما أراد من خلال ذلك أن يكون الرسول الرحمة الإلهية المهداة من أجل إنقاذ البشرية من الكفر والإلحاد والشرور والأخذ بيدها لهدايتها إلى الصراط المستقيم وإلى الطريق السوي الذي أراده الله للناس وارتضاه لهم، ولذا جاء في آيةٍ أخرى عن بعثة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): {يا أيّها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}.

وهنا نرى في هذه الآية معاني الشهادة والتبشير والإنذار والدعوة تتنافى أيضاً مع العنف والإكراه وتتناسب مع الرحمة والخير والإحسان، ويتّضح معنى الرحمة أكثر من خلال قوله "سراجاً منيراً" حيث يُراد منه النور والضوء الذي يكشف عتمة الليل ليتلمس الإنسان موطئ قدمه فلا يقع في حفرة أو يصطدم بجدارٍ أو عائق ما فيؤذي نفسه وقد يؤذي غيره، فالإسلام هو تلك الرحمة وهو ذلك النور الذي يجلي الظلام ليحلّ محله النور الذي يستوطن العقول والقلوب وهو "نور الإيمان" الذي يجعل الإنسان مرتبطاً بخالقه ومؤمناً به، ولا شكّ أنّ النور هو رحمة مضادّة للظلام المساوي في الآية من حيث المعنى للكفر والإنحراف.

وقد توسّعنا في شرح معنى "الرحمة" لكي نقول إنّ الإسلام لا يريد للناس أن يؤمنوا به عن إجبارٍ وإكراه، لأنّ الإيمان بواسطتهما ليس إيماناً على النحو الذي أراده الله، بل هو نوعٌ من النفاق قد يمارسه البعض لأغراضٍ محدّدة، في الوقت الذي يريد الله من الإنسانية أن تؤمن بهذا الدين عن قناعة راسخة من خلال الأدلّة الوضحة والبراهين الجليّة الصحيحة، لأنّ الإيمان عن إقتناع يكون عادة أقوى ثباتاً في النفس وأكثر ارتكازاً في العقل والقلب، ويدفع بالإنسان نحو العمل الصالح الموافق للإيمان والمتناسب معه كمّاًً وكيفاً.

ومن هنا نجد أنّ القرآن الكريم يقول: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي...}، والإكراه هو (الإجبار والحمل على الفعل من غير رضى من الإنسان المُكره)، والرشد هو (إصابة وجه الأمر ومحجّة الطريق).

وهنا يقول السيد الطباطبائي"قده" في تفسير هذه الآية ما يلي: (لا إكراه في الدين، نفي الدين الإجباري، لأنّ الدين هو سلسلة من المعارف العلمية تتبعها أخرى عمليّة، ويجمعها جميعاً أنّها "اعتقادات"، والإعتقاد من الأمور القلبية التي لا إجبار فيها ولا إكراه، فإنّ الإكراه إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأمّا الإعتقاد فله علل وأسباب أخرى قلبية من نوع الإعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو أن تولّد المقدّمات غير العلمية تصديقاً علمياً.

وسبب عدم الإكراه في الدين هو أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوضح كلّ الأمور المهمة لكي تؤمن الناس به أو لا تؤمن، وقرّر الله نوع الجزاء في الآخرة لمن آمن ولمن لم يؤمن، وترك للإنسان حرية الإختيار، والدين الإسلامي لما كشف الله حقائقه وأوضح طريقه بالبيانات الإلهية الواضحة وشرحه بسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تبيّن أنّ الرشد هو في سلوك خطّ الدين ونهجه، وأنّ الغي هو في تركه والرغبة عنه، وعليه فلا داعي للإكراه بعد بيان كلّ الحقائق وبيان ما يترتّب على اختيار الإنسان).

وفي المجال التطبيقي لعدم إجبار الناس وإكراههم على اعتناق الإسلام كدين نجد الأمثلة الكثيرة في السنة النبوية والتاريخ الإسلامي العام، حيث نجد كيف تعامل نبي الإسلام وفقاً لمبادئ دينه مع غير المسلمين.

ففي آية المباهلة مع النصارى نجد أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) " عاملهم بالرحمة عندما رفضوا المباهلة معه وأقرّهم على دينهم ، وكذلك فعل مع اهل مكة الذين قاتلوه وكانوا مازالوا فيها كأبي سفيان وغيره من قادة قريش " ، ومع هذا قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :(إذهبوا فأنتم الطلقاء)،مع أنّهم لم يتركوا وسيلة لمحاربة الإسلام والرسول إلاّ واتّبعوها، ووصل بهم الأمر إلى التحالف مع اليهود في المدينة الذين كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عقد معهم صلحاً على أن لا يقاتلوا ضدّه مع أيّ فئةٍ أو جهة.

نعم حارب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يهود المدينة لأنّهم كما أوضحنا نقضوا العهود والمواثيق كما هي عادتهم وأمر بإخراجهم من المدينة المنورة وكانوا هم الذين حصدوا سوء فعالهم من خلال خيانتهم وغدرهم، ولو لم يخونوا لما قاتلهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تطبيقاً لعهده وميثاقه معهم ولقوله تعالى: {وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها}.

ومن الأمثلة الحضارية على رحمة المسلمين على أتباع الديانات الأخرى هو ما ذكره المؤرّخون المسلمون عن عهد الأمان الذي أعطاه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لأهل الكتاب عبر فتح القدس حيث جاء فيه: (هذا ما أعطى عمر لأهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملّتها أن لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا يُسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود).

وهكذا عاش أتباع الديانتين السماويتين "اليهودية والنصرانية" بين المسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بأمنٍ وسلام واطمئنان قروناً كثيرة ولم يجبر المسلمون لا المسيحيين ولا اليهود على اعتناق الإسلام إلاّ من ارتضاه هو بنفسه.

ومع أنّ العالم الإسلامي قد تعرّض في الماضي للحملات الصليبية التي امتدّت لما يقرب من قرنين من الزمن وارتكبت تلك الحملات المجازر بحقّ المسلمين فإنّ المسلمين بعد اندحار الصليبيين لم يتعرّضوا للمسيحيين في البلاد الإسلامية للأذى لأنّهم عملوا بالقول القرآني الكريم: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}.

وكذلك عندما انتصر الأسبان على المسلمين في الأندلس وطردوا المسلمين منها فقد طردوا معهم أيضاً اليهود الذين كانوا يعيشون مع المسلمين وبينهم وعاملوهم نفس المعاملة، وبقي اليهود في بلاد الإسلام إلى ما بعد تأسيس الكيان الغاصب في فلسطين فهاجر أغلب اليهود إليها من دون إجبارٍ أو إكراه، بل هم الذين اختاروا الهجرة، ولو بقوا في بلادنا لما تعرّض لهم أحد بالأذى لأنّهم ليسوا هم من احتلّ الأرض وشرّد الشعب الفلسطيني من أرضه.

من كلّ هذا العرض نقول إنّ الإسلام كدينٍ يرفض إجبار الناس على الإيمان بالإكراه والإجبار، ولم ينتشر الإسلام بالسيف والقوّة كما يحاول المغرضون أن يصوّروا هذا الدين ليشوّهوه في قلوب وعقول الغافلين من سائر البشر، ولذا دعا الله المسلمين إلى سلوك أسلوب الحوار والجدال بالتي هي أحسن مع كلّ أهل الأديان والمذاهب لكي يؤمنوا بالإسلام عن قناعة ذاتية، وقد قال الله في كتابه الكريم عن الحوار مع أهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}.

وكذلك قوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، وكذلك في قوله تعالى: {أدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة}.

من كلّ ذلك نقول إنّ وصف الإسلام بـ"الإرهاب" يتنافى مع قدسية هذا الدين الذي يدعو الناس للإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته ليعيش الإنسان الحياة الدنيا عبادة وخضوعاً وخشوعاً لله، ولينتقل بعدها إلى جنّة الخلد حيث النعيم الدائم المقيم.

لكن من سوء حظ الكثير من الأجيال الإنسانية أنّها ابتُليت بأهل الكفر والإلحاد والنفاق والإنحراف فشوّهوا لها حقيقة هذا الدين ووصموه بنعوتٍ وصفات هو بعيد عنها كلّ البُعد، وهذا تماماً ما كان يفعله المستكبرون عبر التاريخ كما يخبرنا القرآن عن العديد من الأنبياء(عليهم السلام) مع شعوبهم وأممهم.

والحمد لله ربّ العالمين