الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

البنك اللاربوي بين النظرية والتطبيق

sample imgage

مما لا شك فيه ان قناعنا كمسلمين بعقيدتنا وديننا أنه متضمن لكل التشريعات والنظم والقوانين التي تجعل من الحياة الإنسانية على ظهر هذا الكوكب نموذجاً مختصراً ومقرباً عن الحياة الآخرة في جانبها الإيجابي المضيء.

وهذا الكلام هو على نحو القاعدة الكلية والكبرى المسلّمة التي لا نقاش فيها ولا جدال، بل لا تشكيك في صحتها ومصادقيتها.

إلا أن ذلك لا يعني أن الحلول للمشكلات التي نواجهها هي حلول سحرية، خاصة في هذه العصور البعيدة عن زمن التشريع المباشر في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو الأئمة (عليهم السلام)، حيث كان الحلّ يأتي من خلال الآيات القرآنية المنزلة أو من خلال الروايات الواردة عن الأئمة(عليهم السلام).

ولا يعني كلامنا أن الحلول مستعصية أيضاً بل هي موجودة، إلا أنها مبثوثة ضمن ذلك التراث الضخم من الأحاديث المحتوية على قواعد كلية وموازين منضبطة تحدد الحكم الشرعي والسلوك العملي لكل مشكلة تواجهنا.

 

وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث عن البنك اللاربوي في المجتمعات البشرية فعلاً بحيث تكون متوافقة ومنسجمة مع العقيدة الإسلامية لتخرج أكثر تلك المعاملات المحكومة شرعاً بالحرمة لاتبنائها على قاعدة الربا المحرم، وتدخل في باب المعاملات المشروعة ولتنتج بالتالي أرباحاً مشروعة لا غبار عليها، باعتبار أن الهدف الأساس من إنشاء البنوك هو تحصيل الأرباح والمنافع قبل أي هدف آخر.

فالمراد من البنك اللاربوي هو أن يكون المشروع البديل للبنك الربوي خصوصاً في العالم الإسلامي فيما بين المسلمين أنفسهم حكومات وأفراداً لكي لا يبقوا مقهورين بصيغة البنك الربوي البعيد عن عقيدتهم وتراثهم ومرتكزاتهم.

وأولى المشكلات التي تواجهنا في تجارب البنك اللاربوي أنه شكل من أشكال النظام المالي الذي هو بدوره مفردة من مفردات النظام الاقتصادي الإسلامي العام، وهذا يعني أن البنك اللاربوي يحتاج لإنجاح تجربته إلى باقي مفردات النظام المالي ثم هو بحاجة إلى باقي مفردات النظام الاقتصادي العام مع أن هذا التكامل ليس موجوداً في معظم تجارب البنوك اللاربوية من خلال الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث يتكامل نظامها المالي العام مع باقي مفردات النظام الإسلامي العام في داخل إيران فقط، وما زالت الثغرة والمشكلة قائمة في التعامل مع الدول الأخرى كونها تتبنى النظام المصرفي العالمي القائم على قاعدة الربا المحرم.

وهذه المشكلة لا حلّ لها وفق الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة، إلا أن ذلك لا يعني أن تبقى معاملاتنا محكومة لذلك النظام المستورد، بل يجب علينا أن نؤسس لإحلال البنوك اللاربوية مع السعي الدائم لإيجاد الحلول للمشكلات سواء منها ما يتعلق بمرحلة ما قبل العمل أو في مراحل ما بعد البدء بالعمل.

إنطلاقاً من هذا كله طرح السيد الشهيد الصدر ثلاثة عناصر لا بد من توافرها لضمان نجاح البنك اللاربوي في ظل نظم غير قائمة على الشريعة الإسلامية وهي:

العنصر الأول: أن لا يكون البنك المقترح مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية

العنصر الثاني: أن يكون البنك قادراً على التحرك والنجاح في الجو المالي العام القائم على صيغة البنك الربوي، وأن لا تمنعه إسلاميته من القدرة على المنافسة في الأسواق المالية.

العنصر الثالث: أن يتمكن البنك اللاربوي مضافاً إلى تحقيق الأرباح أن ينجح في جذب الودائع وأن يقوم بدور مشابه لدور البنك الربوي في الحياة الاقتصادية العامة في مجال الإستثمار والخدمات.

أما السياسة المصرفية للبنك اللاربوي كما طرحها السيد الشهيد الصدر فإنها تتحدد ضمن الأصول التالية وهي:

الأصل الأول: الإتجاه إلى إبراز العنصر البشري العامل بوصفه مصدراً من مصادر الدخل والتقليل من الاعتماد على رأس المال كمصدر للدخل.

الأصل الثاني: الإتجاه إلى الاعتماد على روح الوساطة بين المودعين والمستثمرين، لا أن يكون البنك هو الطرف مع المودع من جهة ومع المستثمر من الجهة الأخرى.

الأصل الثالث: الإلتزام برسالية العقيدة الإسلامية لتقديم النموذج البديل الذي يسقط أمام مغريات الأرباح كما هو الحال في البنوك الربوية.

الأصل الرابع: البحث عن البدائل التي يستطيع من خلالها البنك اللاربوي تحقيق مصالح المودعين وتيسير أمور المستثمرين بعيداً عن أنظمة البنك الربوي.

وأمام نظام العمل الأساس للبنك اللاربوي فإنه يعمتد على صيغة عقد المضاربة المقرر بحدوده وشروطه وكيفيته، والمتقوم بكون رأس المال من شخص ويكون الإستثمار من شخص آخر مع الإتفاق قبل البدء فعلاً بالإستثمار على نسبة مئوية من الربح لكل منهما، وعلى أن تكون الخسارة على عاتق صاحب رأس المال دون العامل إلا في حالات معينة حيث يتم اشتراط ضمان الخسارة، ويكون دور البنك في هذه العملية هو دور الوسيط بين الطرفين بمواصفات معينة وشروط محددة تسمح للبنك بأن يقوم بهذا الدور ليحقق نوعاً من الدخل لحسابه من خلال الأرباح الحاصلة من عقود المضاربة بين المودعين والمستثمرين.

وبناءً لهذا النظام ينبغي أن يكون لدى البنك اللاربوي دراسة واقعية عن الوضع المالي والاقتصادي العام للبلد المنوي إنشاء البنك فيه، وتحديد أنواع الأعمال التجارية أو الصناعية أو المشاريع ذات الجدوى والمردود الجيد الذي يضمن بالتالي نوعاً من الإتزان في سير عمل البنك فلا يتعرض لهزات تجعل وضعه قلقاً و حرجاً ويصعب عليه الإستمرار.

وهذا النوع من العقود أي المضاربة هو البديل عن الصيغة المعمول بها والمتداولة في البنوك الربوية التي تعتمد على رأس المال الضخم المتولد من الإيداعات ذات الفوائد لأصحابها ليفرضها البنك بالتالي للأفراد والمؤسسات الإنتاجية بفوائد أكبر، مع أن أغلب هذه المعاملات محكومة بالحرمة لكونها من أوضح مصاريف الربا المنهي عنه في الشريعة نهياً مطلقاً، ويكفي نظرة سريعة في ما ورد قرآناً وسنة - حول تحريم الربا وأسباب ذلك التي نرى أكثرها بوضوح في عالم اليوم الذي يسيطر فيه رأس المال على مجمل الحركة المالية والتجارية والصناعية والإعلامية وغير ذلك.

وأما بلحاظ مجال الخدمات التي تؤديها البنوك من قبيل تحصيل الشيكات والسندات المالية والتحويلات وفتح الإعتمادات وبيع العملات، فهذه جميعاً يمكن للبنك اللاربوي أن يؤديها من دون عوائق كبيرة في هذا المجال بسبب وجود التخريجات الكثيرة فقهياً التي تبرر أرباح البنوك من أمثال هذه الخدمات، وأبرز التخريجات في هذا المجال كما قررها الفقهاء مستندة إلى عقود البيع أو الإجارة بتفاصيلها المحددة شرعاً.

هذا الكلام كله يبقى كما قدمنا في الكلام نظرياً لم يصطدم بواقع الحركة المالية المعاشة فعلاً، ولهذا فهذه المعالجات النظرية لا تكفي وحدها لتجاوز المشكلات التي سوف تصطدم بها صيغة البنك اللاربوي عندما يراد إعمالها فعلاً وإدخالها كمنافس لصيغة البنك الربوي المستندة إلى تجربة طويلة جداً أو سيطرت على حركة الأموال وما زالت إلى الآن هي الصيغة الأكثر رواجاً والأسرع ربحا للمودعين بالخصوص وللمستثمرين أيضاً.

ولا نشك لحظة أن صيغة البنك اللاربوي إلى الآن لم تصل إلى حدود المنافسة للصيغة الأخرى، ولهذا فإن مشكلاتها القانونية مع الأنظمة المالية العامة في الدول غير القائمة على التشريع الإسلامي لا تزال غير موجودة أو غير مثارة على الأقل، ولكننا لا نشك بأن هذه المشكلات سوف تثار عندما تتمكن صيغة البنك الربوي من التمدد وإثبات الفاعلية والقدرة على توفير الأرباح للمودعين ومصادر التمويل للمستثمرين، وهذا الكلام الذي يتضمن مثل هذا التحذير لا يراد منه الإتهام أكثر ما يراد منه الإشارة الى التباين الواضح بين البنك اللاربوي وأشكال الحكم المختلفة في العالم ولكن المتفقة على صيغة البنك الربوي جميعاً.

والمستفاد إلى الآن من صيغة البنك اللاربوي هو وجود الحلول الشرعية للكثير من أنواع المعاملات التي تجريها والمتفق عليها من الناحية الفقهية، لكن إلى جانب ذلك هناك أنواع أخرى من المعاملات المتعارفة في البنك الربوي لا يتمكن البنك اللاربوي من الدخول فيها لكونها ربوية مباشرة أو تنتهي إليه، وهناك أنواع من المعاملات التي ما زال الرأي الفقهي فيها مختلفاً تبعاً للاختلاف في تشخيص موضوعات وتفاصيل تلك المعاملات من قبيل بيع الشيك المؤجل بثمن معجل ينقص عن القيمة المالية للشيك ولكن لشخص ثالث لا علاقة له بالأصل في المعاملة بين الدائن والمدين، فهنا البعض يفتي بجواز هذا البيع والبعض يفتي بحرمته.

والذي نريد أن نقوله بوضوح أننا إلى ألان لم نتمكن من وضع الصيغة الأفضل للبنك اللاربوي في مجتمع قائمة معاملاته المالية على الربا بشكل أساس، وللوصول إلى تلك الصيغة التي تسمح للبنك اللاربوي بالإرتقاء الى المستوى اللائق به فلا بد أن تتعمق هذه التجرية، لأنه كلما امتد وقت التجربة الرائدة هذه خصوصاً في الأسواق المالية التي تأخذ فيها صيغة البنك الربوي مداها الأقصى فإن ذلك يسمح ببروز المشكلات المحتاجة إلى المعالجات النظرية فقهياً وأصولياً لمنع الضوابط التي تعين البنك اللاربوي من الحفاظ على شخصيته الإسلامية المتميزة.