الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الانقلاب على العقبين

sample imgage

قال الله تعالى في محكم كتابه :{وما محمدٌ إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} آل عمران (144). تتحدث هذه الآية الكريمة عن أولئك الذين يؤمنون ما دام النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) موجوداً، فإذا ما مات أو قتل انقلبوا على أعقابهم ظنّاً منهم بأنّ ما جاء به سوف يذهب معه وينتهي، وكأنّهم كانوا يعتبرون أنّ وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الضمانة، فبعد رحيله لا ضمانة للإستمرار، فيفضّلون العودة إلى ما كانوا عليه توهُّماً منهم بأنّهم إن لم يفعلوا ذلك ستكون العواقب عليهم وخيمةً ومؤلمة، لأنّها في خيالاتهم سوف تكون على حسابهم وحساب مصالحهم وشؤونهم لا غير.

 

والسبب في نزول هذه الآية هو التالي: (في معركة أُحد وبعد أن حمي وطيس المعركة انطلقت بعض الدعايات المُغرضة لتقول بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قُتل، ممّا أدّى إلى انسلال الكثير من المسلمين من أرض المعركة هرباً من القتل على يد جيش قريش، بل إنّ البعض صار يفكّر بإرسال رسلٍ إلى قادة المشركين ليأخذوا لهم الأمان).

وهذا إن دلّ على شيءٍ فهو يدلّ على أنّ البعض ممّن يلتزمون خطّ الإيمان لا يكون التزامهم عن قناعةٍ ثابتة وراسخة، وإنّما يكون تبعاً لبعض الأغراض والمصالح والمنافع التي قد يتصوّرون الحصول عليها، فإذا دقّت ساعة الحقيقة ووصلت الأمور إلى الحدّ الذي لا بدّ فيه من اتّخاذ الموقف الجريء والواضح يتخاذلون وينسحبون.

هؤلاء تجيبهم الآية الكريمة بأنّ الدين هو دين الله وليس دين محمد، وليس محمد إلاّ رسولٌ أرسله الله لتبليغ دينه وإيصال رسالته للناس، وليس له دورٌ أكثر من هذا، حتّى يكون موته أو قتله سبباً في انتهاء الدين وانقطاع فاعليته عن الهداية والإرشاد، لأنّ ربّ محمدٍ باقٍ وكذلك دينه باقٍ ببقائه، وليس مرتبطاً ببقاء محمد، لأنّ مصير الإنسان أن يموت مهما علا شأنه وارتفعت مرتبته، لأنّه لن يخرج عن ثوب العبودية والطاعة لله عزّ وجلّ.

من هنا نقول بأنّ المسار العادي للأحداث والمجريات ليس هو الذي يكشف عن جوهر الإنسان ومعدنه الحقيقي، لأنّ هذا المسار لا يتضمّن اتّخاذ المواقف الجريئة والبطولية، وإنّما هو المسار الخادع الذي قد يزايد فيه بعض المتلبّسين بثوب الإيمان على المؤمنين الحقيقيين الرساليين، بل وقد يتفوّق هؤلاء في التفنّن في استعمال أساليب ووسائل تؤدّي بهم أحياناً للوصول إلى مراتب ومراكز متقدّمة في مسيرةٍ ما أو مجتمعٍ ما طالما أنّ القضية لا تحتاج إلى أكثر من المزايدات عبر الكلام المنمّق والإستدلال الموجّه وبعض الأفعال التي تزيد من حضورهم وبروزهم.

فمثلاً ورد عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام) الحديث القائل: (من قال فينا بيتاً من الشعر دخل الجنة)، فهل يعني هذا القول بأنّ مطلق قائل بيتٍ من الشعر يستحقّ دخول الجنة؟ أو أنّ هذا الكلام يُراد به البيت من الشعر الذي تتعرّض من خلاله الحياة للخطر أو الضرر كالقتل أو السجن أو التعذيب وغير ذلك من أنواع البلاء؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ الإحتمال الثاني هو الحقيقة والواقع، لأنّه يكشف عن موقفٍ عقائدي رسالي يتحمّل فيه القائل مسؤوليته عن ذلك، بينما قد نجد أشخاصاً يكتبون الدواوين والقصائد الطوال إلاّ أنّهم عندما يتعرّضون للخطر يمدحون السلاطين والملوك ليأمنوا جانبهم ويحفظوا حياتهم ويتبرّأون ممّا قالوه عن الحق وأهله.

لهذا نجد أنّ الآية الكريمة تحذّر أولئك الذين يرتدّون عن الإيمان إلى الكفر عبر انقلابهم على أعقابهم بأنّهم لن يضرّوا الله شيئاً، باعتبار أنّ كونهم من المؤمنين كان لصالحهم ومنفعتهم، فارتدادهم لن يعود بالضرر إلاّ عليهم لأنّهم باعوا الآجل بالعاجل، واستبدلوا ما عند الله من الخير والنعيم المقيم بسلامةٍ مزيّفة لن تدوم سوى ما تبقّى من العمر في الحياة الدنيا الفانية.

بينما نجد في المقابل أنّ الله يمتدح أولئك الذين يصمدون عند الشدائد، فلا ينهزمون أو يجبنون ولا يستسلمون أو يرضخون، وإنّما هم على استعدادٍ تام وجهوزيةٍ كاملة للبقاء مع خطّ الإيمان ومع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته وبعد مماته، من دون أن يربطوا إيمانهم بوجود شخصه المبارك (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّهم آمنوا بالله، وتيقنوا أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الوسيلة للوصول إلى الحقّ المطلق والإيمان والإرتباط به، فدور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند هؤلاء هو دور المبلِّغ والمرشد والموجِّه، وعليهم بعد أن بُلِّغوا ووجّهوا أن يكملوا سيرهم مع الله ولو مات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو قتل، كما قال في معركة أحد "أنس بن النضر" الذي أجاب المنهزمين عندما أخبروه بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ استقبل القوم "قريش" فقاتل حتى قتل).

والشكر الذي تذكره الآية هو إظهار نعمة الإيمان من الذين لم ينقلبوا لأنّهم عرفوا أنّ الإيمان نعمة عظيمة لا يمكن التخلّي عنها أو المساومة عليها لأنّها باب النجاة للإنسان يوم القيامة، وتقتضي من الإنسان أن يطيع الله طاعة لا معصية فيها ولا تردّد في التزام مضامينها العملية والسلوكية.

لذلك نرى شبابنا المجاهدين المسلمين هم من الشاكرين لله بجهادهم ووقوفهم عند حدود طاعة الله، فلا ينقلبون على أعقابهم لمجرّد أنّ الظروف تسوء وتصبح صعبة، بل يثبتون ليعبِّروا عن عظيم شكرهم لله على نعمة الإيمان ليفوزوا بإحدى الحسينيين إمّا القتل وإمّا النصر.

والحمد لله ربّ العالمين