قوانين الدولة غير الإسلامية
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2317
ثانياً- مرحلة عدم الثقة: وهي الفترة التي بدأت منذ أن حكم معاوية باسم الخلافة الإسلاميّة وصولاً إلى نهاية مرحلة الخلافة العثمانية التي كانت آخر حكم المسلمين باسم الإسلام، مروراً طبعاً بالأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك وغيرهم، وسبب عدم الثقة أنّ هذه السلالات حكمت المسلمين باسم الإسلام من دون أن تطبّق هذا الدين تطبيقاً سليماً وواعياً ممّا خلق جوّاً من عدم الثّقة بين المسلمين وأنظمة الحكم هذه.
ثالثاً- مرحلة المقاطعة: وهي المرحلة التي بدأت مع تشكيل الدولة بمعناها الحديث وخصوصاً بعد انخراط الخلافة العثمانية وتقسيم الدولة الإسلامية إلى كياناتٍ منفصلة قومية ووطنية تالياً، وعلى نمط الدولة في الغرب، بحيث لم يعد الإسلام ولو ظاهراً هو نظام الحكم وإن بقي الإسلام في دساتير هذه الدول بأنّه مصدر التشريع إسماً وعنواناً وإن لم يكن كذلك بالفعل والواقع، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الحاكم في الدول الإسلامية لم يعد يحكم من موقع كونه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل من موقع كونه مُنتخباً من الشعب، أو من خلال حركةٍ إنقلابية قادته إلى استلام السلطة.
وابتداءً من المرحلة الثانية وهي "عدم الثقة" التي كان الأئمة (عليهم السلام) موجودين فيها، كانوا ينهون أتباعهم عن اللجوء إلى السلطات القائمة لتحصيل الحقوق باعتبار أنّ القائمين على الأمور هم غاصبون للسلطة والحكم، وبالتالي لا يجوز لهم تعيين قضاة وما شابه ذلك، وكان الأئمة (عليهم السلام) ينهون أتباعهم عن العمل مع أولئك الحكّام بسبب ظلمهم وجورهم، إلى أن رحل الإمام الثاني عشر "المهدي المنتظر" "عج" وغاب عن الأبصار، وبقيت هذه المرحلة مستمرّة، ممّا استدعى بالتالي موقفاً من الفقهاء والمجتهدين الذين آلت إليهم الأمور في زمن "الغيبة الكبرى".
وانطلاقاً من حياة الأئمة (عليهم السلام) الذين عايشوا جزءاً مهمّاً وطويلاً من المرحلة الثانية إشترع فقهاؤنا وبالإستفادة من النصوص التي تركها الأئمة (عليهم السلام) عدّة أحكامٍ تتعلّق بالسلطات الحاكمة باسم الإسلام وهي:
أولاً- إنّ السلطات الحاكمة ليست شرعية وبالتالي لا يجب متابعة أوامرها ونواهيها أو الإنصياع لها، لأنّ الحاكم الذي يدّعي الحكم باسم خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو غاصبٌ للسلطة ويحتلّ موقعاً ليس له وفق النظرة العقائدية للإمامة عندنا.
ثانياً- حرمة التوظيف لدى هؤلاء الحكّام، لأنّ ذلك تقوية لهم ودعم لسلطتهم، وعلى افتراض الإضطرار إلى التوظيف فذلك يتمّ عبر الإجازة الخاصّة من الإمام المعصوم (عليه السلام) زمن وجوده، أو من الفقهاء زمن غيبته، وإذا تحقّق التوظيف في بعض الحالات المحدّدة كالإضطرار أو التقيّة فيجب التخفيف ما أمكن من جماعة المؤمنين أو غير ذلك ممّا سطّره الفقهاء في رسائلهم العملية.
ثالثاً- استعمال أسلوب "التقية" في هذه المرحلة التي امتدّت قروناً طويلة للحفاظ على الحياة من جهة وعلى الوجود من جهةٍ أخرى، وقد نجح هذا الأسلوب الذي قال عنه الإمام الصادق (عليه السلام) :(التقيّة ديني ودين آبائي، من لا تقيّة له لا دين له).
"والتقيّة" هذه هي التي أجازت لأتباع الأئمة أن ينخرطوا في حياة المجتمع المسلم الذي كان يتعايش مع السلطات الحاكمة باسم الإسلام معتقداً بولايتها عليه وبأنّه لا يجوز له الإنقلاب عليها أو الثورة ضدها.
رابعاً- أنّ السلطات الحاكمة ليس لها سلطة أو ولاية شرعية على أموال المسلمين وممتلكاتهم، ممّا أدّى إلى بروز عنوانٍ فقهي هو "مجهول المالك" الذي طُبّق على أموال الدولة الحاكمة باسم خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ وضع يد الدولة على المال هو غصبٌ واعتداء لا يجوز لها فعله وإن اعتقد الفاعل وهو "الحاكم" الصحة، إلاّ أنّ اعتقاده لا يجعل فعله حلالاً، بل يبقى محكوماً بالحرمة، ولذا قال الفقهاء بأنّه لو أهدى الحاكم الظالم شيئاً لإنسانٍ مسلم وكان مأخوذاً قهراً بغير حق من صاحبه وكان صاحبه معروفاً وجب ردّه إليه ولا يجوز التصرّف به.
وبعد إنهاء المرحلة الثانية وبدء المرحلة الثالثة بقيت هذه الأحكام مستمرّة وإن كان استمرار بعضها لم يعد بنفس الدرجة التي كانت موجودة زمن المرحلة الثانية كالتقيّة، حيث لم يعد هناك من خوفٍ على الوجود، وإن بقي هناك نوعٌ من الخوف على النفس في بعض الحالات الخاصة والإستثنائية، يتعامل معه المكلّف بما يراه مناسباً وفق الحالة التي يواجهها.
ومع استمرار هذه المرحلة الثالثة بدأت الصورة تظهر بوضوحٍ أكثر وجلاءٍ أكبر، وتبيّن أنّ الحاكم في الدولة بشكلها الحديث لم يعد يحكم باسم أنّه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعد الإسلام هو الحاكم وانتفى معنى غصب السلطة الذي كان متحقّقاً زمن المرحلة الثانية، وهذا ما أدّى إلى بلورة أحكامٍ شرعية جديدة تتوافق مع المتغيّرات الجارية في العالم الإسلامي خصوصاً والعالم عموماً، ومن أبرز هذه المتغيّرات على مستوى الأحكام ما يلي:
أولاً- أنّ السلطات القائمة "جهاز الحكم والإدارة في الدولة" هو نائبٌ عن الشعب في إدارة أموره، وهناك نوعٌ من العقد الإجتماعي بين الدولة والشعب، يقوم فيه الشعب بواجبه تجاه الدولة من دفع الضرائب وتطبيق القوانين، وتقوم الدولة من جهتها بالوظائف المطلوبة منها تجاه شعبها وجماهيرها، وهذا ما يعني أنّ السلطات الحاكمة لم يعد ينطبق عليها عنوان "غصب السلطة".
ثانياً- جواز التوظيف في كلّ وظيفةٍ محلّلة لا ينطبق عليها أيّ عنوان محرّم في الإسلام، ومن هنا صدرت الفتاوى بجواز التوظيف في كلّ الوظائف ذات الطابع المدني كالتعليم والطبابة والزراعة والصناعة وما شابه ذلك، أمّا الوظائف غير المدنيّة فلا بدّ فيها من مراجعة الحاكم الشرعي من المنظور الفقهي الإمامي الإثني عشري لتحديد التكليف من هذه الجهة وفق الظروف والحاجات والحالات القائمة.
ثالثاً-إنّ الدولة بالمفهوم الحديث، وحيث انتفى عنها عنوان" غصب السلطة" صار لها الولاية على الأموال والضرائب والممتلكات التي يعود للدولة أمر التصرّف فيها كالمشاعات وما شابه ذلك، فلم يعد من الجائز أخذ أيّ شيء من أموال الدولة إلاّ وفق القوانين المقرّرة التي تسمح بذلك، إلاّ إذا كان يحتمل يقيناً أنّ الدولة قد أخذت من الناس أموالاً من دون وجه حق، فهنا يجوز للناس مراجعة الحاكم الشرعي من أجل استرداد ما أُخذ منها ولو كان بشكلٍ آخر و بطريقةٍ أخرى لا تؤدّي إلى الإخلال بالنظام العام لحياة الناس. كما لو فرضنا أنّ الدولة قد أخذت ضرائب من شعبها من دون أن تكون مقرّرة في أنظمةٍ وقوانين، أو زادت في أسعار الخدمات كالماء والكهرباء بشكلٍ مخالف للقوانين المرعيّة الإجراء وما هو قريب من ذلك.
ولهذا لم يعد عنوان "النظام غير الإسلامي" سبباً لمخالفة القوانين أو لأخذ مال الدولة بعنوان أنّه "مجهول المالك" أو للتهرّب من دفع الضرائب المتوجّبة على المسلم كونه مواطناً من مواطني الدولة، ولو كان في ظلّ نظامٍ لا يتطابق مع الموازين الإسلاميّة للحكم والإدارة، وإن بقي من الواجب على المسلم أن يطبّق الشريعة على نفسه كفردٍ في كلّ المجالات العبادية والإجتماعية والمالية والسياسية، لأنّ مجرد كون النظام غير إسلامي لا يبرّر للمسلم التخلّي عن شخصيّته الإسلامية الملتزمة دينيّاً وأخلاقيّاً.
ولتوضيح الأمر أكثر من خلال الفتاوى نذكر نماذج من الإستفتاءات الموجّهة إلى ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي "دام ظله" في هذا المجال الحيوي والمهم:
إستفتاء 923: اشتهر فيما بين أهل منطقتنا أنّ الدولة التي ليست إسلامية وتحاول توجيه الأذى إلى شعبها المسلم ولا سيما إذا كانت تفرّق بين أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وبين غيرهم في التعامل معهم لا يجب دفع أجور الماء والكهرباء إليها، فهل يجوز لنا تسديد فاتورة الماء والكهرباء إلى هذه الدولة؟
- جواب: لا يجوز ذلك، بل يجب على كلّ من استفاد من الماء والكهرباء من مشروع المياه والكهرباء الحكومي دفع أجورها إلى الدولة وإن كانت غير إسلامية.
إستفتاء 891: ما هو حكم أموال الدولة الإسلامية أو غير الإسلامية ممّا تكون تحت يد الدولة والحكومة أو تحت أيدي المعامل والمصانع والشركات والمؤسسات التابعة لها ؟وهل هي من الأموال المجهولة المالك أم أنّها تعتبر ملكاً للدولة؟
- جواب: أموال الدولة ولو كانت غير إسلامية تعتبر شرعاً ملكاً للدولة، ويتعامل معها معاملة معلوم المالك، ويتوقّف جواز التصرّف فيها على إذن المسؤول الذي بيده أمر التصرّف في هذه الأموال.
إستفتاء 892: هل تجب رعاية حقوق الدولة في الأملاك العامة وحقوق الملاّك في الأملاك الخاصة في بلاد الكفر؟ وهل تجوز الإستفادة من الإمكانيات الموجودة في المراكز التعليمية في غير الموارد التي تجيزها المقرّرات القانونية لتلك المراكز؟
- جواب: لا فرق في وجوب مراعاة احترام مال الغير وفي حرمة التصرّف فيه بغير إذن بين أملاك الأشخاص وبين أموال الدولة مسلمة كانت أو غير مسلمة، ولا بين أن يكون ذلك في بلاد الكفر أو في البلاد الإسلامية، ولا بين كون المالك مسلماً أو كافراً، وبشكلٍ عام تكون الإستفادة والتصرّف غير الجائز شرعاً في أموال وأملاك الغير غصباً وحراماً وموجباً للضمان.
والحمد لله رب العالمين