الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

معركة بدر في القرآن

sample imgage

{ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة فاتقوا الله لعلّكم تشكرون * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين * وما جعله الله إلاّ بشرى لكم ولتطمئنّ قلوبكم به وما النصر إلاّ من عند الله العزيز الحكيم}، ( آل عمران) 123 ـ 126.

عندما نتحدّث عن موقعة بدر فنحن لا نتكلم عن معركة عادية جرت بين جيشين عاديين في ظروفٍ عادية وإنّما نتكلّم عن معركة استطاعت أن تلعب دوراً كبيراً في التاريخ وما زال أثرها مستمراً إلى الآن من خلال بقاء الشريعة التي من أجلها كانت بدر وغيرها من المعارك النابعة من البعد العقائدي الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي السماء، ذلك البعد هو العقيدة الإسلامية المباركة البديل عن العقائد الوثنية والصنمية التي تشكّل القاعدة الفكرية التي ينطلق منها الناس في بناء علاقاتهم الإجتماعية والسياسية وغيرها في ذلك العصر الجاهلي المنحرف الضال.

 

فمعركة بدر قد تجاوزت حدودها الزمانية والمكانية، لأنّها شكّلت منعطفاً كبيراً في مسار العقيدة الإسلامية الوليدة التي تجاهد لتأخذ دورها في قيادة البشرية نحو تصحيح الأوضاع الفكرية والعلمية المنحرفة، وذلك لأنّ معركة بدر أثبتت بما لا يقبل الشكّ أنّ الإسلام قادر على أن يقود أمور المجتمع في زمن الحرب كما هو قادر في زمن السلم، وأن يملك القابلية التامّة لاستيعاب كلّ ما تحتاجه الحياة الإجتماعية وتنظيمها بالنحو الذي يضمن تحقيق الأهداف المرسومة التي هي أهداف الله في أرضه التي أرادها أن تكون قائمة على النحو الذي يجعل منها النموذج العلمي والحقيقي للغاية الأصيلة للخلق والإبداع لهذا المخلوق الصغير في حجمه الكبير بقيمته الحضارية والإنسانية.

ولهذا فإنّ معركة بدر هي نهاية مرحلة وبداية جديدة من المراحل التي مرّت بها العقيدة باعتبار أنّها جذّرت التوجّهات الجديدة في حياة المجتمعات آنذاك وأعطت دفعاً قوياً لحركة الرسالة لم تشهده من قبل حيث كان من نتائجها المباشرة فتح الآفاق أمام العقيدة لتنطلق بحريّة وتدخل من دون قيود أو موانع إلى قلب الحركة في ذلك العصر، ولتستميل إليها الكثير ممّن كانوا يخافون من الدخول في التجربة الجديدة خوفاً من المستقبل وضماناً لحاضرهم الذي كانوا فيه، ولو لم يكن هذا هو السبب فلماذا لم تشهد حركة الدعوة قبل معركة بدر ذلك النشاط الواسع والشامل للكثير من الناس الذين لا شكّ أنّهم بأنفسهم كانوا موجودين ويرون ويسمعون الدعوات المتكرّرة من المؤمنين بالرسالة الوليدة ؟ ولماذا ذلك العدد الوفير الذي لم يدخل في الإسلام قبل بدر ؟ إنّ هذه التساؤلات لا يمكن الإجابة عليها إلاّ من خلال نتائج معركة بدر، التي أشاعت جواً من الشعور بالإطمئنان إلى قوّة وثبات العقيدة وقدرتها على التحدّي والصمود في وجه الآخرين الذين كانوا يكيدون لها ويتربّصون بها الدوائر للإنقضاض عليها وإسقاطها وإثبات عجزها وعدم استطاعتها على البروز والظهور محاولةً لإثبات أحقية ما كانت عليه أوضاع ذلك المجتمع من الجهة الأخرى لتبقى الأوضاع كما هي من دون تغيير وهذا كان يمكن أن يكون واقعاً لو افترضنا أنّ نتيجة المعركة لم تكن لصالح الدعوة الجديدة بأيّ حالٍ من الأحوال. من هنا كانت بدر هي محلّ الإختبار الأقسى والأشد الذي تعرّض له المؤمنون بالرسالة الجديدة وكانت تقع على عاتقهم وحدهم إثبات الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يحقّقها الإسلام لذلك المجتمع الجديد الذي أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسي قواعده وقوانينه على أساس التشريعات التي جاء بها من عند ربّه، ولهذا نرى من خلال الرجوع إلى المصادر التي تتكلم عن بدر، كم كان اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كبيراً وكبيراً جداً بتلك المعركة ونرى كم كان تدخّله في مجرياتها بدءاً من المشاورة لأصحابه لمعرفة نفسيّاتهم ومعنوياتهم ومدى استعدادهم للدفاع عن ما آمنوا به من الدين الجديد، وصولا ً إلى اهتمامه بكلّ تفاصيل المعركة شخصياً لمحاولة تهيئة المناخ الأفضل الذي يضمن نجاح تلك المعركة التي توقّف عليها مصير الدعوة آنذاك، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على مقدار الخطورة وعلى مدى أهمية النتائج التي ستفرزها المعركة سلباً على التجربة لصالح المشركين ومقولاتهم وإيجاباً لصالح المسلمين والعقيدة الجديدة.

وهكذا نجد أنّ الله سبحانه وتعالى قد تدخّل في مجريات المعركة من خلال إشاعة جو الإمداد الغيبي بجنوده غير المرئيين من الملائكة من أجل تقوية معنويات المسلمين الذين كانوا في موقع الأضعف من جهة العدّة والعدد في مقابل المشركين الذين كانوا حسب تقدير الروايات والمؤرّخين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين من الجهتين، وهذه النسبة تعطي للفئة العدوّة الثقة المطلقة بحسم المعركة لصالحها من كلّ الجهات، وهذا ما يقتضي أن يكون في مقابله ما يدفع الخوف وعدم الثقة الذي قد يشعر به الطرف الضعيف بقدراته وإمكاناته وعدده في مقابل ذلك، وقد لعب ذلك الإمداد الغيبي دوره المرسوم له في المعركة واستطاع أن يعطي المسلمين الشعور بالقوّة والثقة بنصر الله عزّ وجلّ وأن يشيع في نفوسهم الإطمئنان الكافي بأنّ الله لن يتخلّى عنهم وهذا ما دفع بهم إلى القتال بكامل قدراتهم النابعة من الإيمان والتسليم لله عزّ وجلّ، واستطاعوا بالتالي أن ينتصروا على عدوّهم الواقف أمامهم، بعد أن تجاوزوا حالة الإحباط النفسي أمام قوّة المشركين الذين كانوا يتصوّرون أنّ المعركة ستكون نزهة عابرة يتخلّصون بها من الدعوة الجديدة التي تشكّل خطراً على مجتمعهم وما يمثله من قيمٍ فاسدة ومنحرفة.

وبذلك دخلت الدعوة بعد معركة بدر مرحلة جديدة وعاش المسلمون شعور القوّة الكافية بقدرة عقيدتهم الجديدة على أن تمنحهم النصر الذي كانوا بحاجةٍ إليه ليثبتوا لغير المؤمنين بالإسلام أنّهم ما زالوا في الموقع الخاطئ والطرف البعيد عن الصراط المستقيم، واستطاعت معركة بدر بالتالي أن تزعزع كلّ القناعات التي كانت ما زالت موجودة عند المتردّدين من الناس أو عند الذين ما زالوا مؤمنين بالأصنام والأوثان، وتمكّنت من أن تجعلهم يعيدون النظر في واقعهم جيداً، ولهذا نرى أنّ بعد أنه انتهى تقييم بدر ونتائجها اتّسعت حركة الدعوة كثيراً وبدأت تشمل الكثير من الناس من كلّ الطبقات والقبائل والأفراد، حتى تمكّن المسلمون ومع حلول السنة الثامنة للهجرة المباركة إلى المدينة من العودة إلى مكة، موطن الرسالة الأصلي ظافرين منتصرين واستطاعوا إزالة آخر معقلٍ من معاقل الأصنام وثمّ تطهير البيت الحرام والكعبة الشريفة من كلّ الأوثان والرجس الذي كان ما زال معلّقاً على أستارها، وليعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هناك نهاية عصر الوثنية والجاهلية وبداية العصر الإسلامي وأشرقت الأرض بنور ربّها، وعادت المسيرة إلى وضعها الصحيح لتكون كلمة الله هي العليا في أرضه.

فما نستخلصه من بدرٍ كعبرة للمجاهدين في هذا العصر الذين ينطلقون من الإسلام الصحيح في مقابل كلّ الأوضاع الشاذّة والمنحرفة التي تسيطر على حركة العالم، هو أنّ على المؤمنين الرساليين أن يكونوا أقوياء الإرادة والثقة بعقيدتهم وأن لا يعيشوا حالات الخوف والإنهزام أمام الآخرين مهما ملكوا من العدّة والعدد، وليكن في خاطرهم ووجدانهم دائماً قصة بدر وحكايتها عند كلّ مفترق وحالة صعبة يمرّون بها، لأنّها قادرة على إشاعة أجواء القوّة والثقة في النفوس من خلال استلهام مغازيها ونتائجها التي نريد أن نشهد آثارها من خلال حركة المجاهدين البدريين في هذا الزمن الذي لا يفترق عن ذلك الزمن إلاّ من حيث الشكل والصورة الخارجية فقط إنّما المضمون الحقيقي ما زال قائماً وهو الصراع بين قضية الحقّ والباطل وبين قوّة الخير وقوّة الشر التي تتمثّل اليوم بكلّ القوى الإستكبارية التي تقف حجر عثرة أمام تطلّعات الشعوب وأمانيها في تحقيق الحياة الحرّة والكريمة.

الشيخ محمد توفيق المقداد

"والحمد لله ربّ العالمين"