الهجرة النبوية المباركة
- المجموعة: مقالات سيرة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2636
وقد أثبت ذلك المجتمع الحديث النشأة جدارته بحمل الإسلام من خلال ميدان الاختبار الأول الذي خاضه في معركة "بدر" ، حيث انتصر المسلمون بطريقة جعلتهم يصبحون أحد مركزي القوة في الجزيرة العربية بالإضافة إلى "قريش" المركز الآخر .
ولا ريب أن الثقة التي اكتسبها المسلمون نتجت عن القيادة الحكيمة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، الذي كان يتطلع إلى إنشاء ذلك المجتمع النموذجي ، ليصبح مجال الطريقة في إيصال الفكرة يمكن أن تسرّع الخطى نحو الهدف الأكبر الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسعى إليه وهو إسقاط قريش رمز المجتمع المتجذر في عقول الناس وقلوبهم .
لهذا نجد أن الخطوات التفصيلية التي خطاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة كانت تسعى لإظهار الفوارق الأساسية الكبرى بين الإسلام والجاهلية ، ومن أبرز الخطوات كانت خطوة "المؤاخاة" التي ترمز إلى الطعن بالفوارق الاجتماعية المقررة في عرف الجاهلية ، التي كانت تقسم الناس بحسب الانتماء العرقي أو الثروة أو القوة وماشاكل ذلك ، بينما المؤاخاة تنطلق من الحالة الإيمانية التي يتوحد فيها الجميع على قاعدة سواء، منها يكون منشأ التكريم والتمايز ، لكن من دون الإنتقاص من قيمة الإنسان فيما يفيه يعنيه هذا المخلوق ويرمز إليه من مجموع القيم والفضائل والأخلاق ، وبذلك رفع الإسلام من منزلة بلال الحبشي وطعن بأبي لهب وهو عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلا بسلمان إلى المنزلة التي يجعله فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل بيته وحط من قيمة أبي جهل وهو القريب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) نسباً .
وخلاصة الكلام أن الإسلام عندما رفع من مقام إنسانية الإنسان وتعامل معه إنطلاقاً من ذلك ، وأعطاه الفرصة ليتحرر من كل القيود التي كانت تعيق حركته ، بدأت تتجلى علائم الرفض للنظام الجاهلي – إن كان يمكن تسميته بنظام -، ولهذا لم تكد تمر السنة الثامنة من الهجرة النبوية المباركة إلا ومكة قد سقطت وهوى معها كل ذلك الخط من أسلوب الحياة ، وإذا بمكة تتحول إلى قبلة عالم التوحيد بعد إزالة كل مظاهر عبادة الأوثان والإصنام.
من هنا ينبغي أن يكون تعاملنا مع هذه الذكرى العظيمة في العالم المعاصر الذي نعيش فيه – وتمر الأمة الإسلامية خلاله بفترة صعبة جداً من مراحل تاريخها في مواجهة الخط الحديث للحياة الذي تتزعمه أمريكا وتدعو إليه ، والذي لا يختلف في الجوهر كثيراً عن الخط الجاهلي – تعاملاً منطلقاً من أسلوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو زرع الثقة في نفوس المسلمين بصحة وأحقية الأسلوب الإسلامي الخالي من كل التعقيدات التنظيمية الإجتماعية الوضعية التي نعتبرها منشأ كل الآلام والمصائب والمآسي التي يمر بها الإنسان في هذا العصر ، الذي تحول فيه كل شيئ إلى سلعة قابلة للتداول في السوق التجارية بيعاً وشراء ، حتى أن الإنسان بكل ما يعنيه صار شيئاً من تلك الأشياء ، ولم يعد هو المخلوق المبدع والمفكر بنظر القوى الكبرى في العالم إلا اذا كان منتمياً إلى أسلوبهم ونمطهم للحياة.
إن هذا الخط الجاهلي الجديد هو الذي أنتج مأساة فلسطين قبل ما يقرب من نصف قرن ، وهو الذي أنتج التبعية على كل المستويات ، كما هو الواقع في عالمنا الإسلامي ، حيث تخضع الانظمة الحاكمة في بلادنا لسيطرة القوى العالمية وبالتحديد "أمريكا" وهو الذي أنتج المآسي الكبرى كالتي يعيشها شعب البوسنة والهرسك، ، أو الصومال ، أو أفغانستان ، وغيرها من الشعوب الإسلامية والمستضعفة في العالم .
إن منطلق تحرير هذا الواقع المؤلم الذي نمر فيه هو أن نعيد الثقة بالخط الإسلامي للحياة ، ونحن في هذا الأمر لا ننطلق من الفراغ ، بل من الإسلام الذي يمتلك القابلية التامة للنهوض بنا، وأمامنا التجربة الرائدة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي نجح بالإسلام في تحويل الواقع في عصره من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الرحمن ، مع أن الفارق بين العصرين هو لمصلحتنا كوننا نحاول الاقتداء بالنموذج النبوي ، بينما النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مبتكراً لهذا الأسلوب ، وموصلاً إياه إلى النتيجة المرضية التي توسعت محطمة في طريقها كل الأنماط الجاهلية، ومعيدة للإنسان حقه الإنساني الذي كانت قد أهدرته القوانين الناتجة عن النمط البعيد عن حقيقة الإنسان وجوهره.