الخميس, 05 12 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

التخطيط النبوي لإعداد القيادة البديلة

sample imgage

قال تعالى في محكم كتابه: (إن الدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).

لا شك أن الدين الإسلامي هو خاتم الأديان الإلهية السماوية. وهو المسيرة الباقية الحاملة لكل الإرث الإلهي من الرسالات السابقة ، وهو المؤهل للاستمرار في السير مع الحياة الإنسانية ، لتنظمها من حيث العلاقات بين الأفراد وربهم من جهة ، وبين الأفراد أنفسهم من جهة أخرى ، ولتزويدها بكل ما تحتاج إليه من أنظمة وتشريعات حسب تطورالأوضاع في ظل الحركة الدائمة للإنسان في هذه الحياة الدنيا.

 

ولا ريب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أرسله الله سبحانه مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، هو الذي عبد الطريق لإيصال الرسالة ، وجاهد في سبيلها حتى ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله ( ما أوذي نبي قط مثل ما أوذيت ) ، ومع هذا صبر على كل ذلك الأذى ، وتحمل كل الآلام ، إلى أن وفقه الله عزوجل وبتسديد منه إلى تأسيس أول مجتمع إسلامي قائم على حكم الله.

وبما أن الدولة الإسلامية الوليدة مرشح لها البقاء والاستمرار في الحياة ، كونها الدولة التي تحمل الشرعية الإلهية ، والمحققة للأهداف المطلوبة منها ، فلم يكن من المعقول أن يتهاون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) في إعداد القيادة البديلة عنه في حال رحيله عن هذه الدنيا لأن التهاون وعدم التعاطي مع هذه المسألة المهمة والحساسة من منطلق المسؤولية يعني الخطر الفعلي والحقيقي على استمرارية بقاء الإنجازات التي سعى رسول الله (صلى الله عيله وآله وسلم) لتحقيقها ، والتي تحمّل الرعيل الاول من المسلمين الكثير من البلايا في سبيل الوصول إليها.

والمنصب القيادي الأول للدولة والأمة الإسلاميتين نختلف من حيث المواصفات والوظيفة عن دور هذا المنصب عند غير المسلمين ، باعتبار أن الإسلام يوازن بين الدنيا والآخرة في حياة المسلمين، ويريد من المؤمنين به مراعاة هذا التوازن في حياتهم سواء كانوا في مواقع القيادة أو لم يكونوا، ولهذا كان الالتزام بالإسلام مطلوباً من الجميع كمية ومحكومية حاكماً و محكوماً ، لأن التكليف شامل للجميع بلا استثناء لأحد.

ومما لا اختلاف فيه أن الالتزام بالإسلام يقتضي التعرف عليه من كل الجوانب المتعلقة بالمسيرة الإنسانية وعلى مستوى الأبعاد كافة دنيوياً ودينياً لتحقيق التوازن وتفعيله وتعميقه في النفوس ، لأن هذا النحو من الفهم للإسلام وتطبيقه هو المقياس للتفاضل بين المسلمين إنطلاقاً من الميزان الإسلامي الأساس في هذا المجال وهو (التقوى) كما تقول الآية القرآنية: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).

من هنا، فإن القيادة البديلة التي سعى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) لتأمينها ، كان لا بد أن تحمل أقرب المواصفات إليه كونها الاستمرار الطبيعي والبديل المناسب له (صلى الله عليه وآله وسلم ) في قيادة الأمة وتحمل مسؤوليات التبليغ والدفاع عن الإسلام ، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمثل القيادة الصالحة بأبرز صورها وأعلى نماذجها سلوكاً والتزاماً وتطبيقاً ، ولا بد أن النبي (صلى اله عليه وآله وسلم) سوف يختار لأمته ورسالته القيادة التي يطمئن معها إلى حياة المسيرة وسلامتها من أي انحراف أو تبديل ، ومثل هذا البديل هو الذي تبحث عنه كل شعوب العالم ، عندما تجد أن قيادتها الفعلية قد رحلت عن هذه الدنيا ، أو أن زمان الرحيل قد دنا واقترب والآية القراآنية الكريمة: ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ، أمّن لا يهدى إلا أن يهدى، فما لكم كيف تحكمون) ، حيث نرى الاستنكار الإلهي لمن يختار القيادة التي لا تحسن القيام بواجبات هذا المنصب ، وتترك القيادة المؤهلة والحاملة للمواصفات المطلوبة ، فكيف بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو المؤمن الأول والمكلّف الأساس بالبحث عن القيادة التي تضمن الاستمرار للإسلام والحفاظ على كل ذلك التراث الإلهي ، المطلوب وجود الضمانة لبقائه في خط الحياة مؤثراً فاعلاً وقوياً .

لهذا فإننا نستغرب كلام البعض ممن ارتضوا لأنفسهم القول بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رحل عن هذه الدنيا تاركاً أمر خلافته للأمة لكي تختار من ترتضيه لقيادتها ، فإن مثل هذا الكلام مردود جملة وتفصيلاً ، خاصة إذا التفتنا إلى أن دولة الإسلام كانت في أوائل عهدها ، وكان جمهور المسلمين أيضاً في طور تعلم الإسلام والالتزام به ، وهذا ما لا يعطي الضمانة الأكيدة بحسن الاختيار عند الأمة فيما لو ترك أمر انتخاب القيادة إليها.

من هنا نقول إن الرأي المذكور مستبعد جداً بملاحظة الظروف الموضوعية القائمة ، وبلحاظ الشروط المطلوبة إسلامياً للقيادة ، لأن تلك الشروط تضيق دائرة الأفراد المؤهلين للمنصب من وجهة النظر الإسلامية وتحصرها جداً ، وتلك الشروط هي :

أولاً: المعرفة التامة بالإسلام والتفقه فيه .

ثانياُ : العدالة عبر الالتزام التام بتطبيق الإسلام على مستوى الفعل والقول والسلوك .

ثالثاً : الكفاءة في الإدارة والتنظيم لأمور الأمة في مختلف المجالات .

ولا شك أن هذه المواصفات كانت ملحوظة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في طورالبحث عن القيادة البديلة التي يضمن معها الحفاظ على الإنجازات والمكتسبات.

وهذه المواصفات رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) متجسدة في أمير المؤمنين (عليه السلام) علي بن أبي طالب ، الذي فتح الله قلبه على الإسلام منذ نعومة أظافره وحداثة سنه ، فعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على صقل تلك الشخصية وإعدادها الإعداد المناسب عبر الرعاية المستمرة والعناية المباشرة لتصبح مؤهلة لقيادة الأمة على نفس النهج النبوي والأسلوب المحمدي الأصيل.

وكلامنا هذا لا يعني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أهمل غير الإمام (عليه السلام) ممن قد يرى فيهم بعضاً من الأهلية والاستعداد ، بل اهتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بهؤلاء أيضاً، والسيرة تحدثنا عن الكثير من المهام والوظائف التي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) يكلف بها بعضاً من هؤلاء ، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يراقب التطور الحاصل عند كل واحد من أولئك على مستوى البناء الذاتي والإيماني له ، وعلى مستوى تنفيذ المهام الموكلة لكل منهم.

وعلى امتداد الفترة النبوية من عمر الإسلام ، كان أبرز شخصية لعبت دوراً عظيماً في تنامي حركة الاسلام ، وفي تحمل المسؤولية ، وفي عملية البناء الذاتي والمحتوى الرسالي الإيماني هو أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي أثبت الكفاءة والجدارة في كل الميادين التي تليق بحركة المسلم ، وكان لبروز تلك المواصفات القيادية في شخصية الإمام (عليه السلام) في ميادين المعرفة والالتزام بالإسلام والدفاع عن العقيدة ضد كل المشركين في المعارك والغزوات علامات واضحة على الإستحقاق الكبير لمنصب القيادة للأمة.

من هذا كله ، نجد أن المسألة عندما أصبحت واضحة بذلك الشكل كان لابد من إبراز ذلك للأمة من خلال مناسبة معينة ، يعلن فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القيادة التي يرى بها بديلاً عنه لأمته التي جاهد في سبيلها لإنقاذها من الردى والضلال.

ولهذا جاء الأمر الإلهي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد اكتمال مرحلة الإعداد لتبليغ الامة باسم تلك القيادة ، لتأسيس عملية الإنتقال للسلطة بصورة طبيعية ، وذلك في قوله تعالى: ( يا أيها النبي بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ، هذه الآية التي نزلت بعد رجوع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة النبوية المباركة ، وتمت عملية المبايعة في مكان معروف بين مكة والمدينة يدعى (غدير خم) حيث وقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوقف المسلمين واستدعى من كان قد سبقه منهم وقال لهم: ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) ، ثم بدأ المسلمون بمبايعته حتى كبار الصحابة منهم كأبي بكر وعمر الذي قال له: (( بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة )).

وقبول المسلمين لتلك المبايعة ، كشف عن أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد استحق ذلك لتفانيه في خدمة الإسلام والمسلمين ، ولم تكن القضية نابعة من القرابة أو المصاهرة لأن موازين الإسلام في التفاضل بين الناس لا تخضع لموازين القرابة أو غيرها من هذه الأمور المجردة عن البعد الإسلامي ، لأن ابتعادها يفقدها كل قيمة معنوية يمكن أن تكون لتلك الموازين لأن الإسلام بما يحمله من الأبعاد الأخروية مضافاً إلى الأبعاد الدنيوية لا يتماشى مع تلك الطريقة لأنها غير مضمونة من حيث النتائج المطلوبة إلهياً من الإسلام كعقيدة ونظام.

وحتى يضمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سلامة عملية الانتقال في السلطة إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عند مرضه الذي رحل بعده إلى ربه راضياً مرضياً ، جهز جيشاً بقيادة (أسامة بن زيد ) وهو لم يبلغ العشرين من العمر ، وجعل تحت أمرته وجوه الصحابة وكبارهم كأبي بكر وعمر وعثمان ، في جيش كان يعتبر من أكبر الجيوش عدداً وعدة طوال عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة ، إلا أن بعض النفوس المريضة التي كانت ترى نفسها أكبر من أسامة تباطأت وتثاقلت في تنفيذ أمر النبي بالانضواء تحت قيادة أسامة.

ويمكننا القول أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد من خلال جيش أسامة أمرين بشكل أساسي هما :

الأمر الأول : مدى تجاوب كبار الصحابة مع تأمير أسامة عليهم بسبب حداثة سنه ، لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) المبايع لمنصب الخلافة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) كان حديث السن بالنسبة إلى أكابر قريش وشيوخها ، فمن تعاملهم مع أسامة يمكن استكشاف كيف سيتعاملون مع الخليفة المرتقب.

الأمر الثاني : إفراغ المدينة من كل الشخصيات التي قد تكون ممن تعيش الطموح في الوصول إلى ذلك المنصب ، خاصة وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد اشتد عليه المرض وبدت الأمارات الواضحة والدلائل الظاهرة للموت ، ولهذا يوجد في السيرة النبوية ما يدل على رجوع البعض من وجوه الصحابة من مكان تعسكر الجيش في " الجرف" قرب المدينة.

وهذان الأمران عندما نقرنهما مع بقاء أمير المؤمنين (عليه السلام) في المدينة دون إرساله مع جيش أسامة، يتضح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخطط وشرع في تنفيذ مخطط انتقال السلطة في أسرع وقت بعد رحيله وضمن أجواء هادئة نسبياً، بحيث إنه عند عودة ذلك الجيش الذي سيطول غيابه لفترة أكثر مما تحتاجه عملية انتقال السلطة ، فلن يجرؤ أحد على التوثب لاستلام الخلافة بدلاَ من القيادة المعينة لها وهو أمير المؤمنين (عليه السلام). إلا أنه وللأسف ، لم تسمح بعض الفئات التي كانت تتحين الفرصة للتوثب على الخلافة، ولهذا بمجرد أن رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الدنيا بعد أن علم أن الذين أراد تفريغ المدينة منهم لم يلتحقوا بالجيش، أراد أن يكتب لأمته الوصية التي تيسر انتقال الحق بشكل صريح جداً ولا غبار عليه انتفض البعض ليقول " إن النبي ليهجر" والعياذ بالله، لإنقاص القيمة المادية والمعنوية لما أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوصي به، وهذا ما دفع برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صرف النظر عن طلب الكتف والدواة الذين كان قد طلبهما قبل ذلك الكلام المؤذي والجارح.

لقد كان الإصرار من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كبيراً كبر الإسلام وعظيماً عظم الرسالة، لأن التخطيط ذاك كان لأمر مهم لا يقل تاثيراً في مسيرة الأمة وحياتها على نفس العقيدة التي بها أنجى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته وأنقذها من الشرك والضلال وسار بها إلى الصراط المستقيم .

لهذا فإن هذا الأسلوب في التخطيط المنظم والمدروس هو الذي ينبغي للسالكين طريق الإسلام أن يتبعوه حتى تكون أعمالهم مؤدّية للأغراض المطلوبة منهم والأهداف التي يسعون إلى تحقيقها في واقعهم ويطمئنون لإيجادها .

نسأل الله أن يهدينا بالإسلام وأن يحشرنا مع النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته الطاهرين وأن يعفو عنا ويتوب علينا بشفاعتهم .