السبت, 23 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الإجتهاد في خطّ الإمام "قده"

sample imgage

من الواضح لكلّ من قرأ فكر الإمام الخميني "قده" كُلاًّ أو بعضاً أنّ هناك الكثير من التطبيقات الفقهية على مستوى الفتاوى والأحكام من التي أصدرها الإمام "قده" تختلف مع ما كان عليه المسار الفقهي التقليدي، وهذا لا شكّ يعود إلى نمطٍ اتّخذه الإمام في تعامله مع أحكام الشريعة حيث لم ينظر إليها على أنّها مجرّد أحكام تعرض لعمل المكلَّف بما هو فرد فقط، بل كان هناك تطوّر عنده في الرؤية بالنظر إلى شمولية الفقه الإسلامي لكلّ نواحي الحياة بكلّ أبعادها، أيّ على مستوى المسلم كفرد وعلى مستوى المسلمين كأمّة.

 

ومن هنا يمكن القول إنّ الإمام "قده" قد طوَّر من مفهوم الإجتهاد المعروف عند الشيعة بأنّه "بذل الجهد والوسع من أجل استنباط الحكم الشرعي من مصادره التشريعية المقرّرة" إلى ما هو أوسع مدى وأشمل مساحة من مجرّد هذا التعريف الذي يقصر الإجتهاد بعملية النظر في الأدلّة واستيضاح معاني مفرداتها ومعالجة أوضاع الأسانيد وحالات التعارض وما أشبه ذلك، إلى كون الإجتهاد عملية متطوّرة أكثر يدخل فيها عنصرا الزمان والمكان والإحاطة التامّة بمجريات العصر ومتغيّراته حتّى تكون الأحكام الصادرة عن المجتهد قادرة على محاكاة روح العصر وقابلة لأن تعالج كلّ مشاكل المسلمين في ظلّ عالمٍ متطوّر كثير التغيّرات، ولهذا نرى أنّ الإمام "قده" يرى أنّ من مقوّمات الإجتهاد وشروطه الأساسية في هذا الزمن التطلّع والإحاطة بالمسائل السياسية والإقتصادية والإجتماعية، طبعاً لا بمعنى أن يكون المجتهد تام الخبرة التخصّصية في هذا المجال، وإنّما بالقدرة على استيعاب كلّ هذا التطوّر من خلال فهم الركائز الأساسية التي تقوم عليها وتبتني كلّ تلك المفردات الراجعة إلى تلك المسائل، ولهذا يقول "قده" في هذا المجال: (فالزمان والمكان يعتبران عنصرين أساسيين في الإجتهاد، فالمسألة التي لها حكمٌ في السابق قد تأخذ حكماً جديداً في إطار العلاقة السياسية أو الإجتماعية والإقتصادية للحكم، ... وعلى المجتهد أن يلمّ بقضايا عصره، ولا يمكن للشعب وللعوام وللشباب أن يقبل في مرجعه ومجتهده أن يقول إنّني لا أبدي رأياً من القضايا السياسية، ومن خصوصيات المجتهد الجامع معرفة أساليب التعامل مع الحيل والتحريف الموجود في الثقافة الحاكمة على العالم).

بل نجد أنّ الإمام "قده" في بعض ما ورد عنه ينفي الإجتهاد كملكة عند من لا إطّلاع لديه على واقع العصر الذي يعيش فيه والتطوّرات الحاصلة ضمنه ويقول في هذا المجال: (من يعيش بعيداً عن أمور العصر وأحداثه، ولا يملك القدرة على اتّخاذ القرار في الأمور التي يحتاجها المجتمع، لا يحقّ له التصدّي وإعطاء الفتوى في الشؤون السياسية والإجتماعية، حتّى لو كان الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات، وبسبب عدم معرفته بالموضوعات، فإنّ فتاواه ليست حجّة على الآخرين، بل عليه أن يقلّد هو الآخرين فيها).

إنّ هذا الحكم القاطع من الإمام "قده" يوحي بالفكرة عن الإجتهاد المطلوب عنده، وهو الذي يستطيع أن يواكب حركة الأمّة، فلا يتأخّر عنها في تطوّره حتّى لا يسبقه العصر، ليصبح المجتهد واستنباطاته في واد، والعصر في وادٍ آخر لا ربط له به إلاّ من حيث التعايش المادي دون المحتوى الفكري والروحي والعملي.

فالإجتهاد على هذا هو: (دمج النظرية الإسلامية بالواقع التطبيقي الموافق لروح العصر، بما ينسجم مع الأهداف الإلهية، فيعطي الشرعية للتطوّر غير المخالف لذوق الشريعة، ويصحّح ما يمكن تصحيحه، ويبطل ما لا ينسجم، وبهذا يكون الإجتهاد جزءاً من حركة المجتمع والأفراد لا ينفصل عنها).

ونظراً لاتّساع دائرة المعارف الإنسانية في هذا الزمن، وتطوّر الأفق الفكري والمعرفي عند الإنسان، واتّضاح الكثير من غوامض المسائل التي لم تكن واضحة كما هي اليوم، فحري أنّ الإمام "قده" يعتبر أنّ المجتهد لم يعد قادراً بنفسه على الإحاطة بكلّ ما له دخلٌ في توضيح الموضوعات لجعلها جاهزة للإستنباط الأقرب إلى الواقع، ولهذا كان يرى ضرورة الإعتماد على أهل الخبرة والمتخصّصين في تشخيص كلّ الموضوعات الخارجية، وأنّ عمل هؤلاء ضروريٌّ ومهمّ جداً في جعل الحكم أقرب ما يمكن إلى روح العصر، من هنا نرى أنّ الإمام "قده" في موضوع بعض أنواع السمك المنتج للكافيار والذي كان مورد شبهة من جهة تضمّنه للفَلْس، قال :(فيما يخصّ هذا السمك، فإنّ رأي المتخصّصين المعتمدين معتبر عندنا ويجري العمل على أساسه).

من هنا رأينا في التجربة العملية للإمام "قده" أنّه كان لديه عددٌ من المستشارين في مختلف الشؤون ليزوّدوه دائماً بالمعطيات والوقائع وآخر المستجدّات كي يبقى على تواصلٍ مستمر مع كلّ التطوّرات، حتّى إذا ما احتاج إلى الإفتاء أو إصدار الحكم كان على إلمام بالموضوع محلّ البحث، كون الموضوعات من جهة تحديدها تلعب دوراًَ كبيراً في تشخيص الحكم وتوجيهه، بل الموضوع هو بمثابة العلّة لمعلولها.

إلاّ أنّ الإمام "قده" مع هذه التوسعة في معنى الإجتهاد عنده، يؤكّد على ضرورة الحفاظ على الإجتهاد بمعنى الدقّة والتوسعة والتفصيل في عملية الإستنباط، وأن لا تخرج الطريقة المتّبعة في الإستنباط عن "الفقه الجواهري" كما يسمّيه نسبة إلى كتاب "جواهر الكلام" نظراً لأنّ هذه الطريقة الواسعة والمفصّلة تغني المجتهد في البحث بما تتضمّن من العمق والشمولية أثناء مراحل البحث عن الحكم تطبيقاً للمعنى الأساس للإجتهاد وهو "بذل الجهد والوسع" فهذا المعنى ينبغي أن يبقى قائماً ومستمرّاً بهذا النحو، لا أن يتحوّل الإجتهاد إلى مسألة سطحية لا عمق فيها ولا تدبّر.

والحمد لله ربّ العالمين