الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

مواقف من كربلاء "موقف علي الأكبر

sample imgage

إنّ خصوصية العمل الرسالي المقبول عند الله يتوقف عادة على جملة من العوامل المتداخلة مع بعضها البعض حين تجعله موصوفاً بذاك الوصف ومعنوناً بذاك العنوان، ومن تلك العوامل ما يكون من السهل على المرء الإلتزام به لأنّه لا يتطلّب منه بذل الأشياء العزيزة عنده والغالية لديه، كما لو تصدّق الغني المالك للمال الكثير ببعض الدراهم القليلة على الفقراء والمحتاجين، ومن تلك العوامل ما يكون من الصعب التخلّي عنه لاحتياج الإنسان في ذلك إلى الدوافع والحوافز الذاتية والخارجية التي تجعله يقدم على التخلّي من الموقع الإرادي الحر الذي يمتلك الإنسان فيه حرية اتخاذ القرار الإختياري، وهذا ما يستلزم أن يكون المرء عارفاً بما يقدم عليه من حيث الوقائع المقبل عليها والنتائج المترتبة عليها كذلك. فالشباب والفتوة من أروع فترات عمر الإنسان في هذه الدنيا، لأنّها التعبير الآخر عن اكتمال الإستعدادات النفسية والفكرية والجسدية لدخول من هم في هذه السن إلى معترك الحياة من بابها الواسع ليتمتعوا بما أنعم الله عليهم وبما سخّره لهم من كلّ ما يرغبون فيه من النِّعم

الدنيوية المتنوعة ما بين المأكل والمشرب والملبس والمناكح وغير ذلك كثير كما قال سبحانه :{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. والإنسان في هذه السن، حيث القابلية موجودة والقدرة متحقّقة، والإندفاع على أشدّه للإنغماس والإنخراط، في خضم الحياة بكلّ تفاصيلها ومجرياتها، قد يصعب على من هم في هذا السن الإقدام على التضحية والبذل وتقديم الأرواح، لأنّ الشاب قد ينظر إلى أنّ ذلك يمنعه من التمتّع بتلك السنوات التي لن تعود إذا لم يستفد منها في تحصيل النِّعم الدنيوية التي تتلاءم عادة مع تلك السن المتفتحة والمقبلة على الدنيا، كما نرى ذلك عند الشباب غير الملتزم والمنساق وراء الشهوات والملذات، اللاهث وراء هذه المتع الرخيصة خوفاً من مرور الوقت وضياعه بنظره فيما لو لم يستغلّه في تلك الأمور، إلّا أنّ هذه النظرة الخاطئة لدور الشباب هي التي توجد عادة عند غير الملتزمين بالخط الإلهي الرسالي، والغارقين من جهة أخرى بمستنقعات التيه والضلال والإنحراف، فنراهم يصرفون أعمارهم في العبث واللهو واللغو، فالمهم عندهم هو الإستمتاع بوقتهم ولو كان ذلك على حساب البحث عن الحقيقة والدور الإنساني في هذا العالم، وعن المصير والنتيجة لعالم ما بعد الموت الذي قد يغفل عنه الكثير ممّن هم في هذا السن بسبب الإلتفات الأكبر إلى الدنيا ونعيمها الزائل. وعلي الأكبر (عليه السلام) هو شاب يافع وفي أول ريعان الشباب وانفتاحه على الدنيا، ممتلىء بالحيوية والنشاط، ويمتلك القدرة الكافية للانخراط في الحياة الدنيوية بكلّ تفاصيلها، لكن من موقع كونه مؤمناً بالله سبحانه وتعالى، وملتزماً بأحكام الشريعة التي ملأت قلبه وعقله، فجعلته شاباً سوياً مستقيماً في سيرته وسلوكه، وتربّى في حجر الإمام الحسين (عليه السلام) سبط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنهل من علوم آل محمد ما كان عوناً له على معرفة الصراط المستقيم في هذه الدنيا، فلم يعش الشباب لذة وشهوة ولهثاً وراء الشهوات والمغريات، وإنّما عاشه التزاماً ووعياً وانفتاحاً على الله وعلى الحياة، فصار بذلك قدوة ونموذجاً للشاب المسلم المؤمن الرسالي الذي يعتبر أنّ الحياة هبة ونعمة إلهية على الإنسان أن يتعامل معها من موقع المسؤولية والأمانة التي ائتمنه الله عليها، ولهذا لم يكن شبابه ولم تكن فتوّته وعنفوانه مانعاً عنده من الإلتحاق بركب أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه لإصلاح الأمة الإسلامية وإنقاذها من الأخطار الكبيرة المحدقة بها نتيجة الحكم الظالم الجائر المتسلّط الذي كان بنو أمية يتسلّطون به على الأمة المقهورة المظلومة، وقد سار في ركب الجهاد لا بسبب أنّه ابن الحسين (عليه السلام)، وإنّما بصفته ثائراً يريد أن يجاهد في سبيل الله من أجل تحرير أمثاله من الشباب الذين لم يدركوا أبعاد المؤامرة الأموية ضدّ الإسلام كدين وضدّ المسلمين كأمة. وهكذا وصل علي بن الحسين (عليه السلام) إلى أرض الكرب والبلاء، أرض الإمتحان الإلهي للمؤمنين الصادقين، وخاصة منهم الشباب الذين ينظرون الدم المتساقط من أجساد الشهداء مع الحسين (عليه السلام)، ومع كلّ ذلك نرى علياً بن الحسين (عليه السلام) يندفع إلى ميدان القتال ضارباً عرض الحائط كلّ الوسوسات الشيطانية التي تريد إغواءه بالشهوات والملذات الدنيوية لكي ينسحب وينهزم، وكان قد سأل أباه أثناء الطريق إلى كربلاء "أو لسنا على الحق يا أبتاه؟ قال الإمام الحسين (عليه السلام): "بلى" ، قال علي بن الحسين (عليه السلام): إذن لا يهم أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا"، وقد لاحت أمامه فرصة لإنقاذ نفسه عندما بادر رجل من جيش الأمويين بالقول: "إنّ لك قرابة من أمير المؤمنين يزيد من جهة أمك، ونحن نريد أن نرعى الرحم فإن شئت آمنَّاك"، لكن نفس ذلك الشاب الولهة والعاشقة لله والمطيعة لإمامها وسيّدها الحسين (عليه السلام) والمستوعبة والواعية لدورها وهدفها في الدين والآخرة لم توهن تلك الدعوى إلى النجاة من الموت عزيمته ولم تضعف توجهه ولم تهزم قراره، فأجاب ذلك المنادي بقوله (عليه السلام): "إنّ قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحق أن ترعى"، ثمّ هجم على الجيش المعادي وهو يرتجز شعراً: (أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب البيت أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي أضرب بالسيف أحامي عن أبي ضرب غلام هاشمي قرشي). بتلك الروحية الإيمانية الصلبة، وبذاك الوعي الرسالي المنفتح، وبالعزم المحمدي العلوي الحسيني انطلق إلى أرض المعركة مجندلاً الأبطال وقاهراً الفرسان، لم ترعبه كثرتهم ولم يخف من قوة سيوفهم، وظلّ يقاتل إلى أن سقط شهيداً في الميدان ففاضت روحه الشريفة شهيداً في سبيل دين الله وعظمة الإسلام، فصار خالداً بخلود كربلاء والحسين (عليه السلام)، وكُتِب اسمه في ديوان الخالدين كرمزٍ من الرموز الإلهية الكبيرة التي كلّما مرّ الزمان عليها كلّما زادها تألّقاً ووهجاً نورانياً يهتدي به الثائرون في خط الجهاد، لأنّه صار من موقع فتوّته وعنفوان شبابه الحجة البالغة لله سبحانه على كلّ الشباب من أمثاله الذين لا يرقون إلى مقامه العالي حسباً ونسباً وعلماً ووعياً وإدراكاً ويقيناً. وبذلك اقترن اسمه بتلك المعركة الخالدة، فصار يذكر كلّما ذُكِرَ الحسين (عليه السلام) وليس بعد هذا الشرف شرف، ولا بعد تلك الكرامة كرامة. وها هم اليوم شباب المقاومة الإسلامية المجاهدون الأبطال ينطلقون إلى ساحات الجهاد والوغى والنزال ضدّ الطغيان الإسرائيلي والغطرسة الصهيونية وهم يحملون في قلوبهم وعقولهم وكلّ كياناتهم صورة ذلك الشاب الحسيني الذي يرون فيه التجسيد الكامل والمثل الأكمل للشاب المجاهد الذي يتخلّى عن الدنيا وزخرفها وزينتها عندما يكون الإسلام بحاجة إلى البذل والعطاء وتقديم الأرواح رخيصة في سبيل العقيدة. وهذه هي أفواج الشهداء من أولئك الشباب قد التحقوا بالركب الحسيني ليكونوا رفاق الرحمة الإلهية مع عليٍ بن الحسين (عليه السلام) في جنان الخلد الواسعة يتنعّمون بها كيف يشاؤون وحيث يشاؤون. فالسلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا للجهاد في سبيله، وللقتل شهداء تحت راية وليه الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء.