عملية تطوّر المعاملات المالية "الحلال منها والمحرَّم"
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2411
وهذا التطوّر نتج عن تسهيل عمليات البيع والشراء والتواصل بين البشر في مجالات المعرفة كافّة، إلاّ أنّ ما يعنينا من هذا الموضوع على أهميّته هو "البيع والشراء" عبر الإنترنت والمنتشر اليوم بكثرةٍ بسبب سهولة هذا الأمر وخلوّه من الكثير من الأمور الإداريّة التي كادت تعقِّد هذه العملية خصوصاً بين البلدان. والبيوعات التي تتمّ عبر الإنترنت هي على نحوين:
الأول-عمليات البيع والشراء العاديّة: حيث يقوم التجّار بالمراسلة مع شركاتٍ في مختلف بلاد العالم لشراء البضائع وتسويقها في بلدانهم ويدفعون الثمن عبر تحويلاتٍ بنكيّة أو ما شابه ذلك، وترسل الشركات البضائع المُشتراة إلى أصحابها، فهذه لا غبار عليها من الناحية الشرعية إذا لم تكن البضاعة المشتراة من النوع المحرّم كالخمور واللحوم غير المذكّاة وما على شاكلة ذلك.
الثاني- "عمليات البيع والشراء التي تقوم بها شركاتٌ ترافقها حملاتٌ دعائية واسعة جداً للترويج عن منتجاتها مع إغراء الناس بأرباحٍ وفيرة إن صار المشترون وسطاء في البيع لتلك المنتجات، وخصوصاً الطبقة الأولى ... التي تبدأ بالتعامل مع تلك الشركات، ثمّ يقوم هؤلاء بتأمين الزبائن للشركة ويتقاضون عمولاتٍ على كلّ زبونٍ ولو تعدّدت الطبقات إلى الرابعة أو الخامسة أو أكثر من ذلك.
وهذه الشركات تروّج لنفسها وتقول بأنّ منتجاتها مشروعة وتستحقّ الأسعار التي يدفعها الناس لشراء تلك السلع، وقد يكون البعض من هذه السلع يستحقّ القيمة التي تطرحها الشركات، وبعضها قد لا يستحقّ ذلك. لكن الذي يعنينا من هذه الشركات أمران أساسيان: - أحدهما – العمولات التي تدفعها الشركات البائعة للوسطاء الأوائل حيث أنّ هؤلاء يقبضون عمولات مع تأمين الزبائن من الطبقة الرابعة أو الخامسة مع أنّهم لا يباشرون أيّ عملٍ على الإطلاق، بل لمجرّد أنّهم من الطبقة الأولى التي أوصلت الشركة إلى الطبقة الرابعة وما بعدها فتعتبر أنّهم يستحقّون هذه العمولة، وهذا ممّا لا يجوز في شرعنا وأحكامنا الفقهيّة، لأنّ المشتري الأوّل عندما صار وسيطاً بين الشركة والمشتري الثاني هنا يستحقّ العمولة التي تدفعها الشركة، أمّا عندما يوفّر المشتري الثاني مشترياً ثالثاً فقد صار الثاني هو الوسيط بين الشركة والثالث فهو الذي يستحقّ العمولة أمّا الأوّل فلا علاقة له بالأمر بتاتاً لأنّه صار منقطعاً عن المعاملة تماماً وليس له أيّ دورٍ فيها وبالتالي فأخذه للعمولة هو أمرٌ غير جائزٍ لأنّ عنوان الوسيط غير متحقّق في شأنه في عملية البيع وقد لا يكون عالماً بها أصلاً، وأمّا الإدعاء الذي قد يقوم به البعض بأنّ المشتري الأول قد صار وكيلاً عن الشركة فهذه دعوى غير مسموعة و لا قيمة لها على الإطلاق لأنّ التوكيل يحتاج إلى طرفين "موجب: وهو "الشركة" و"قابل" وهو" المشتري الأول المدَّعي للوكالة ... وهذا الأمر غير متحقّق بأيّ نحوٍ من أنحاء التوكيل، والإدعاء بأنّ الشركة تدفع له من باب الهديّة لو افترضنا أنّ أحدهم ادعى غير ذلك عليه أو غير ذلك عليه إثبات هذا المعنى وإلاّ كان أخذه للمال محلّ شبهةٍ على الأقل، لأنّ هذه الشركات هدفها الربح المالي الذي هو "سمعة العصر" ، والشركات ليست في مورد توزيع أرباحها بشكل هدايا مجانيّة.
- ثانيهما – إنّ البيع في هذه الحالة وإن كان صحيحاً لوجود سلعة ولها سعر معيّن، إلاّ أنّ السلعة بحدّ ذاتها ليست هي المقصودة للمشتري، وإنّما المقصود أن يصبح وسيطاً يتلقّى الأرباح عن المشتري من الطبقات اللاحقة، فعقد البيع له داعٍ هنا، وليست الحاجة هي الهدف وهذا إن صحَّح البيع، إلاّ أنّه ليس من البيع المتعارف عليه عند العقلاء، لأنّ البيع العقلاني هو الذي يكون ناتجاً عن وجود
منافع تدفع الناس المال من أجل الحصول عليها للإستفادة منها في طعامها وشرابها وملبسها ومسكنها وعملها وما شابه ذلك، وبمعنى آخر تدفع الناس المال لشراء ما هو من حاجياتها الأساسية أو الكمالية ممّا له مساس والتصاق بمعيشتهم وطريقتهم في الحياة وهذا القصد منتفٍ هنا وليس له وجود.
ويتفرّع عن هذا الأمر الثاني في أنّ الكثير من السلع التي تروّج لها هذه الشركات عبر أسلوب ألـ "Marketing" واستغلال وسائل الإعلام بمختلف أنواعها من أجل ذلك يدفعون الأموال الطائلة للترويج لسلعها،ونجد أنّ أكثر تلك السلع لا يساوي حقيقةً قيمة المال المدفوع، لكنّ الدعاية المركزَّة والتي تغري الناس بالأرباح هي التي تجذبهم إلى شراء تلك السلع ولو لم يكونوا بحاجةٍ إليها أصلاً على أمل الوصول إلى تحقيق الأرباح التي ينشدونها، وهذا إذا درسناه من الناحية الاقتصادية والمالية للمجتمع سوف نجد أنّ هذه السلع المشتراة إذا أراد الذين اشتروها أن يبيعوها لن يتمكنوا من بيعها إلاّ بنفس الأسعار التي اشتروها بها نظراً لأنّ انتشار هذه السلع وصيرورة المعروض منها كثيراً يُفقدها الكثير من قيمتها السوقية نتيجة ازدياد العرض وقلّة الطلب، وهذا وإن لم يكن مُضرّاً بكلّ مشترٍ على حدة، إلاّ أنّه مضرٌّ باقتصاد البلد الذي يتمّ ترويج هذه السلع فيه، وللأسف فإنّ أغلب البلدان التي تتمّ فيها عمليات الترويج هي بلدان العالم الثالث، لأنّ بلدان العالم الأول كأمريكا وأوروبا قد تجاوزا هذه المرحلة ولم تعد هذه الشركات قادرة على تسويق بضائعها بين أوساط المستهلكين هناك لمعرفتهم بحقيقة هذه الشركات وأهدافها.
أمّا بلداننا فهي حديثة التجربة في ذلك، ونظراً للبطالة المتفشّية ونتيجةً لعدم قدرة دولنا على تأمين الضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل أو عن تأمين الوظائف لهم وحاجة الشباب خصوصاً إلى المال إمّا للعلم أو للعمل ولتأمين الرزق فإنّهم يجازفون بمدّخراتهم بوضعها في مثل هذه الشركات على أمل تحصيل أرباح، لكن ما يتوصّلون إليه بالنهاية هو سرابٌ ووهمٌ لا حقيقة فيه، ويكون المستفيد الأكبر هو تلك الشركات التي تمتصّ ثروات الناس وهذه بمعظمها مرتبطة بالدول الغنية والقويّة الممسكة بدفّة التجارة العالمية وتحتكر أدوات العلم والمعرفة والإنتاج العلمي والتقني والتكنولوجي ليبيعونا إياها بأسعارٍ عالية ومرتفعة، وأكبر دليلٍ على ذلك النظر في الأصناف التي تعرضها هذه الشركات حيث يبيعون العلم والفكر متجسّداً في أدواتٍ قد لا يتجاوز حجم موادها الأولية سعة جيبٍ صغير في قميصٍ أو بنطالٍ يلبسه الإنسان.
من هنا نجد أنّ هناك إجماعاً من فقهائنا ومراجعنا العظام المؤتمنين على أمور ديننا قد حرّموا التعامل مع أمثال هذه الشركات نظراً لمفاسدها وأخطارها على المستوى الفردي للنمو الذي بيّناه، وكذلك على المستوى العام للوطن والأمّة، لأنّ العملية في نظرهم هي سلبٌ ونهبٌ لثروات الأمّة وتخفيف أو تجفيف حجم مدّخرات الأفراد الذين يمكن أن يوظّفوا أموالهم في مشاريع داخل بلدهم من أجل تنمية الحركة التجاريّة والماليّة التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع معاً، لكن هذا ما يحتاج إلى وضع خططٍ وبرامج من جانب دولنا أو من طرف منظمات المجتمع المدني إلى جانب برامج توعية وإرشاد حول كيفية الإستثمار الجيّد للمال ومن الطرق المشروعة التي لا تتضمّن إشكالاتٍ وشبهاتٍ شرعيّة.
والحمد لله ربّ العالمين