عقوبة المحارب في الإسلام
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 4575
قال الله تعالى في محكم كتابه (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم).
والبحث في هذا الحد من جهات هي: الجهة الأولى: "محاربة الله والرسول (ص) : ومعنى المحاربة من الحرب، وهو نقيض السلم وأصل الحرب هو السلب يقولون "حرب الرجل ماله أي سلبه إياه.
والمراد من المحاربة هو محاربة المسلمين بمعنى سلبهم مالهم ونهب ممتلكاتهم والتهجم على أعراضهم من خلال عصابات تقوم بهذه الأمور التي تزرع الرعب والخوف في أرجاء دولة الإسلام، ونسب الله هذه المحاربة إلى أنها موجهة ضده وضد رسوله (ص) لأن أمن المجتمع الإسلامي لا يمكن أن يستقيم وينتظم مع وجود هذه العصابات التي تعيث فساداً في بلاد المسلمين وتهدد نظام حياتهم وتسلبهم أمنهم وسلامتهم وتمنعهم من التحرك بحرية وسلام في أرجاء دولة الإسلام والمسلمين.
وليس المراد من المحاربة هنا هو هجوم الكفار على المسلمين، لأن الآية الثانية تقول (إلا الذين تابوا قبل أن تقدروا عليهم...) وهذا مؤشر إلى أن المحاربة مقصود فيها في هذه الآية هم الأفراد المنحرفون من أبناء الأمة الذين سولت لهم أنفسهم أن يقوموا بإخافة المسلمين ونشر الذعر والرعب بينهم من خلال الأفعال التي ذكرناها، وإلا لو كان المقصود هم الكفار من غير المسلمين فلا تكفي التوبة منهم، بل لا بد أن تقول الآية بأن عليهم أن يدخلوا في الإسلام أولاً ثم يتوبون ليقبل الله توبتهم.
والسبب في نزول هذه الآية هو أن قوماً من بين ضبّة قدموا على رسول الله (ص) وكانوا مرضى فقال لهم رسول الله (ص) (أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سرية) فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها، فلما برئوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل، فبلغ الخبر رسول الله (ص) فبعث إليهم علياً عليه السلام وهم في وادٍ قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريباً من أرض اليمن فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله (ص) ، وبسببهم نزلت هذه الآية وكان عقابهم هو الصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، لأنهم فعلوا ذلك بمن قتلوهم ممن كانوا مع إبل الصدقة.
وهذا المقصود من الآية هو ما ذكره الشيخ الصدوق قدس سره في كتاب الهداية (والمحارب يقتل أو يصلب أو تقطع يده ورجله من خلاف أو ينفى من الأرض كما قال الله عز وجل، وذلك مفوض إلى الإمام إن شاء صلب وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف وإن شاء نفاه من الأرض.
وكذلك قال الشيخ المفيد في كتاب "المقنعة" (أهل الدغارة أي..المحاربون.. إذا جردوا السلاح في دار الإسلام وأخذوا الأموال، كان الإمام مخيراً منهم: إن شاء قتلهم بالسيف، وإن شاء صلبهم حتى يموتوا، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن شاء نفاهم من المصر إلى غيره... أي نفاهم من البلد الذي هم فيه إلى بلد آخر من بلاد المسلمين مع شروط مذكورة في مواضعها من الفقه.
والمستفاد من كل ما ذكرنا أن المحارب هو قاطع الطريق الذي يخيف المسلمين ويسرق أموالهم وينهب ممتلكاتهم وقد يتعدى ذلك إلى التعدي على الأعراض والقتل أحياناً أخرى.
وقال الفقيه أبو صلاح الحلبي (وإن كانوا محاربين وهم الذين يخرجون من دار الأمن لقطع الطريق وإخافة السبيل والسعي في الأرض بالفساد، فعلى سلطان الإسلام أو من تصح دعوته "أي الحاكم الملتزم بأحكام الإسلام الحنيف" أن يدعوهم إلى الرجوع إلى دار الأمن ويخوفهم من الإقامة على المحاربة من تنفيذ أمر الله فيهم، فإن أنابوا ووضعوا السلاح ورجعوا إلى دار الأمن فلا سبيل عليهم، وفرضه أي واجب الحاكم المسلم إن كانوا في محاربتهم قتلوا أو لم يأخذوا مالاً أن يقتلهم، وإن ضموا إلى القتل أخذ المال صلبهم بعد القتل، وإن تفردوا بأخذ المال أن يقطعهم من خلاف، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً أن ينفيهم من الأرض بالحبس أو النفي من مصر إلى مصر).
ومن هذا النص الأخير نعرف لماذا جعلت الآية المباركة العقوبة مخيرة بين الأمور الأربعة الواردة فيها.
الجهة الثانية: وقد ورد الكثير من الروايات التي تشير إلى المحارب والحد المنصوص عليه في الآية ومن هذه الروايات نختار ما يلي:
الرواية الأولى: عن الإمام الباقر (ع) قال: (من شهر السلاح في مصر من الأمصار فعقر اقتص منه ونفي من ذلك البلد، ومن شهر السلاح في مصر من الأمصار وضرب وعقر وأخذ المال ولم يقتل فهو محارب فجزاؤه جزاء المحارب وأمره إلى الإمام، إن شاء قتله وصلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، قال : وإن ضرب وقتل وأخذ المال فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى للسرقة ثم يدفعه إلى أولياء المقتول فيتبعونه بالمال ثم يقتلونه فقال له أبو عبيدة أرأيت إن عفا عنه أولياء المقتول ؟ قال (ع) : إن عفوا كان على الإمام أن يقتله لأنه قد حارب وقتل وسرق).
الرواية الثانية: عن الإمام الباقر (ع) (قال: إذا دخل عليك رجل يريد أهلك ومالك فأبدره بالضربة إن استطعت فإن اللص محارب لله ولرسوله (ص) ، فما تبعك منه شيء فهو عليّ).
الرواية الثالثة: (عن أمير المؤمنين (ع) إذا دخل عليك اللص المحارب فاقتله فما أصابك فدمه في عنقي).
الرواية الرابعة: عن الإمام الباقر (ع) (عن أبيه الإمام زين العابدين (ع) إن الله يمقت العبد يدخل عليه في بيته فلا يقاتل ولا يحارب).
الجهة الثالثة: لو تاب المحارب قبل القبض عليه فتوبته مقبولة لكن عليه أن يتحمل نتائج أفعاله التي قام بها أثناء كونه محارباً فإن كان قتل شخصاً يقتص منه بالقتل، وإن سلب مالاً يرده إلى من سرقه منه، أو يدفعه إلى الحاكم الشرعي، ولا تسقط المترتبات من العقوبات عنه بمجرد التوبة، لأن التوبة مختصة بالله عز وجل ، ولا تشمل إسقاط حقوق الناس التي تبقى في ذمته، وقد ورد في الرواية وهي "صحيحة علي بن حسان حيث جاء فيها: (ثم استثنى الله عز وجل (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) يعني يتوبوا قبل أن يأخذهم الإمام).
وهناك تفاصيل كثيرة في الموضوع نذكر أهمها وهي التالية:
أولاً: أنه من كان حكمه الصلب يصلب ثلاثة أيام فقط ثم يدفن بعد تغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه كما في الرواية (أن رسول الله (ص) قال: لا تدعوا المصلوب بعد ثلاثة أيام حتى ينزل فيدفن) وكذلك في فعل أمير المؤمنين (ع) (أنه صلب رجلاً بالحيرة ثلاثة ايام ثم أنزله في اليوم الرابع فصلى عليه ودفنه).
ثانياً: أنه من كان حكمه النفي من بلده إلى بلد آخر من بلاد الإسلام ففي البلد المنفي عليه عليه أن يعيش منبوذاً، كما في الرواية عن الإمام الرضا (ع) (ينفى من المصر الذي هو فيه الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنه منفى، فلا تجالسوه، ولا تبايعوه، ولا تناكحوه، ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه، فيفعل به ذلك سنة، فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتى تتم السنة...).
فهذا بالإجمال حكم الإسلام في المحارب لله ورسوله (ص) وبهذا يختلف حكم الإسلام عن سائر أحكام القوانين الوضعية التي لا يمكن أن تكون رادعة وزاجرة كما في الإسلام، بالشكل الذي أوضحناه في هذا البحث ، لأن الأحكام الوضعية من نتائج الواقع المعاش وليس قانوناً شاملاً كالقانون الإلهي.
والحمد لله رب العالمين