أحكام المنافع العامة
- المجموعة: مقالات فقهية
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 3368
ومما لا شك فيه أيضاً أن للحياة الإجتماعية قسماً آخر من الإحتياجات التي تعود منفعتها الى جميع أفراد المجتمع ولا تختص بفئة دون أخرى، بل هي للجميع بحيث يأخذ كل فرد حاجته منها التي تؤدي الفرض الذي يريده منها وهذه الإحتياجات هي التي نسميها بـ "المنافع العامة" أو "المصالح المشتركة".
ونتيجة لتطور الحياة الإجتماعية وتطور الإنتاج العلمي والصناعي والتقني دخلت عناوين تفصيلية تحت العنوان الكبير وهو المنافع العامة بحيث استعانت دائرة هذا العنوان ليشمل الكثير من التفاصيل التي لم تكن معهودة في العصور السابقة كما سوف نبين لاحقاً.
وهذه المنافع العامة غالباً ما تقوم الدولة بتأمينها لكل فرد من أفراد المجتمع قد يصعب عليه تأمين هذه المنافع بمفرده لها تحتاج إلى الوقت والجهد، والى الإمكانات المالية الضخمة، وغالبية الأفراد غير مؤهلة لذلك، أو قد يقوم بتأمين هذه المنافع جهات غير الدولة كالشركات الكبرى أو المتمولين الكبار بالتنسيق مع الدولة في هذا المجال لتأمين هذه المنافع لسائر أبناء المجتمع.
ومن الواضح أن أفراد المجتمع عندما يأخذ كل واحد منهم حاجته من تلك المنافع لا بد ان يدفع ثمن ما يستهلكه منها الضمان استمرار انتفاعه منها، إن تأمين منفعة عامة للمجتمع تحتاج إلى صرف موارد مالية ضخمة عادة، وتحتاج إلى موظفين لإدارتها وصيانتها لتبقى صالحة لتزويد الناس بنتائجها الذي هو مورد حاجة الناس.
والمنافع العامة عنوان يشمل كل ما تحتاجه الناس ولا يقدر كل فرد على حده على تأمينه ويشمل في عصرنا الماء والكهرباء والطرقات والمدارس والمستشفيات والمنتزهات العامة ووسائل الاتصال والمواصلات وما أشبه ذلك.
وميزة هذه المنافع أنها القاسم المشترك بين كل شعوب العالم مهما كان نوع النظام الذي يحكمهم، فسواء كان النظام إسلامياً أو غير إسلامي، وسواء كان عادلاً أو لم يكن عادلاً، وسواء كان ملكياً أو غير ملكي، وديكتاتورياً كان أو غير ديكتاتوري، فإن الناس في أي نظام من هذه الأنظمة هي بحاجة إلى هذه المنافع العامة لأنها صارت جزءاً لا يتجزأ من احتياجاتها اليومية التي لا تقدر على الاستغناء عنها، وإن هناك خللاً كبيراً سوف يحصل على حياة أي فرد لا يكون مستفيداً ومنتفعاً منها بمقدار حاجته.
ولا بد من الإشارة هنا قبل بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالمنافع العامة من توضيح نقطة هامة جداً هي محل التباس وفهم خاطئ عند الكثير من الناس وهي "أن مال الدولة حلال" والتوضيح هو الآتي (إن هذه المقولة كانت موجودة عندما كان الحاكم في بلادنا الإسلامية يحكم على انه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنه ينوب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في إدارة أمور المسلمين، وبما أن هذا الأمر من منظارنا العقائدي ليس صحيحاً لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) نصّ على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأبنائه من بعده، فكنا نعتبر أن منصب الخلافة لم يكن شرعياً من جانب السلطات والحكام الذي تسلّموا قيادة المجتمع الإسلامي، خصوصاً بعد انتهاء عصر الخلفاء الأربعة حيث تم اغتصاب الخلافة وتحويلها إلى ملك دنيوي ومنصب وراثي لا أصل له في العقيدة الإسلامية، لأن الحاكم من المفترض فيه أن يكون متصفاً بالمواصفات التي اشترطها الإسلام في الحاكم وجلّهم إن لم يكن كلهم كانوا فاقدين لتلك المواصفات والشروط الشرعية، ومن هنا كنا نعتبرهم غاصبين للسلطة من أهلها أو المؤهلين لها، وأن حكمهم للمسلمين فاقد للشرعية وبراءة الذمة أمام الله والأمة ومن هنا كان عدم دفع الضرائب لهم عند القدرة على الامتناع هو لمنع أولئك الحكام من تثبيت ملكهم وحكمهم لأن المطلوب هو إضعاف سلطتهم لا تقويتها.
أما اليوم الذي يحكم في كل دول عالمنا الإسلامي لا يمارس الحكم على أنه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خصوصاً بعد تقسيم العالم هذا إلى دول وكيانات متعددة، فصار لكل دولة إسلامية وجودها المستقل وشخصيتها المختلفة ونظامها التي تتميز به عن سائر الدول حتى الإسلامية منها، ومن هنا صارت كل دولة مالكة لمواردها ومسيطرة عليها، ولا تحكم بنظام الخلافة الإسلامية العام كالذي كان يجمع دول عالمنا قبل هذا التقسيم الحديث إلى دول وكيانات متعددة.
ونزيد هنا فنقول إن مقولة ) :مال الدولة حلال) لا يشمل من أول الأمر المنافع العامة التي لا ربط لها بنوعية النظام، بل يشمل الأمور الأخرى كالضرائب التي كانت تفرض على الناس آنذاك من غير وجه حق، ومن دون مبررات شرعية تجيز للحاكم فرضها، وإنما كان الحاكم يأخذها ظلماً وعدواناً من الناس بالقهر والغلبة وقوة السلطة في مقابل ضعف الناس وعدم قدراتهم على المواجهة، وهذا المال الذي كانت تأخذه الدولة غصباً هو الذي كان يسميه فقهاؤنا "مجهول المالك" لأنه بعد أخذ الدولة له من الناس يختلط ببعضه البعض ولا تعود هناك قدرة على تمييزه لإرجاعه إلى أصحابه لو وقع بيد غير الحاكم الذي أخذ ذلك المال من الناس، وهذا المال هو الذي كانت الناس ترجع في أمره إلى الحاكم الشرعي المؤهّل لأخذ الإذن منه في التصرف فيه بما يجعل ذمة المتصرف بريئة عند الله عز وجل، وأما لو عُلم يقيناً أن قسماً من هذا المال قد تم أخذه من إنسان معين وتمت معرفته فهذا المال يجب إرجاعه إليه لأن المال شُخّص وصاحبه معروف كذلك ولا يكون من مجهول المالك.
بعد توضيح كل ذلك نقول: إن الحكم الشرعي للمنافع العامة هو أن لا تجوز سرقتها ولا يجوز التعدي عليها ولا يجوز الانتفاع منها إلا بإذن أصحابها، سواء كان صاحبها هو الدولة أو غير الدولة كالشركات أو غيرها من المتمولين، ومن يعتدي عليها بغير وجه حق هو ضامن لتلك المنفعة أو المنافع بمقدار ما استفاد منها، ويجب دفع الثمن إلى الدولة أو إلى الشركة المالكة للمنفعة.
وللتوضيح أكثر نقول إن الإستفادة من المنافع العامة بغير الطرق المشروعة ومن غير دفع الثمن سيؤدي في نهاية الأمر إلى تعطيل المنفعة عن كل الناس، لأن المنفعة العامة محتاجة في عصرنا إلى الكثير من النفقات، فإذا لم ندفع ثمن ما نستفيد منه من تلك المنافع فهذا سيؤدي إلى تقليص المنفعة العامة شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى مرحلة لا تعود قادرة على الاستمرار لفقدها الموارد المالية التي كان من المفترض أخذها من المستفيدين من المنافع العامة، وهذا الأمر غير جائز قطعاً، إنه اعتداء على مصالح الناس قبل أن يكون اعتداءً على مصالح الدولة، لأن المنافع العامة هي ملك للناس لا للدولة، وإن كانت إدارتها بيد الدولة أو غيرها من الجهات التي تعيّنها لإدارتها كالشركات الكبرى أو المتمولين أصحاب الرساميل المالية الضخمة.
بعد كل هذا نرجع إلى الأحكام الشرعية المرتبطة بهذه المنافع، ونختار بعض الإستفتاءات لسماحة ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي "دام ظله" الواردة في هذا المجال
س- 909-: هل يجوز شراء الطحين المدعوم من الدولة من أصحاب الأفران والمخابز؟
الجواب: ما لم يكن الخباز مجازاً من الدولة في بيع الطحين لا يجوز له بيعه ولا للناس شراؤه منه.
س -923-: اشتهر فيما بين أهل منطقتنا أن الدولة التي ليست إسلامية وتحاول توجيه الأذى إلى شعبها المسلم ولا سيما إذا كانت تعرف بين بعض الناس وغيرهم في التعامل معهم لا يجب دفع أجور الماء والكهرباء إليها، فهل يجوز لنا الامتناع عن تسديد فاتورة الماء والكهرباء؟
الجواب: لا يجوز ذلك، بل يجب على كل من استفاد من الماء والكهرباء من مشروع المياه والكهرباء الحكومي دفع أجورها إلى الدولة وإن كانت غير إسلامية.
س – 892-: هل يجب رعاية حقوق الدولة في الأملاك العامة وحقوق المُلاَّك في الأملاك الخاصة في البلاد الكفر؟ وهل تجوز الاستفادة من الإمكانيات الموجودة في المراكز التعليمية في غير الموارد التي تجيزها المقررات القانونية لتلك المراكز؟
الجواب: لا فرق في وجوب مراعاة احترام مال الغير وفي حرمة التصرف فيه بغير إذنه بين أملاك الأشخاص وبين أموال الدولة مسلمة كانت أو غير مسلمة، ولا بين أن يكون ذلك في بلاد الكفر أو في البلاد الإسلامية، ولا بين كون المالك مسلماً أو كافراً، وبشكل عام تكون الاستفادة والتصرف غير الجائز شرعاً في أموال وأملاك الغير غصباً وحراماً وموجباً لضمان.
والحمد لله رب العالمين.