قراءة في بيان الإمام الخميني
- المجموعة: مقالات مختلفة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2965
(النساء ـ آية ـ 100)
لا شك أن بيان إمام الأمة الإمام الخميني حفظه الله الذي وجهه إلى حجاج وضيوف بيت الله الحرام هو من أهم بيانات الإمام على مستوى السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، حيث تضمن الخطوط العريضة لمسألة الصراع مع قوى الإستكبار العالمي، ومعاناة الشعوب الإسلامية مع تلك القوى الكافرة وخاصة الشيطان الأكبر أمريكا، كما تضمن قصة جهاد الشعب الإيراني المسلم الذي وقف وحيداً فريداً في معركته المفروضة عليه من كل الجهات وفي كل الميادين، لتكون قضية جهاد ذلك الشعب نموذجاً لكل الشعوب المضطهدة والمستضعفة التي تحبس صرخاتها، وتلملم جراحاتها، وتعتصر أنينها خوفاً من بطش المستكبرين وجبروتهم، أولئك الذين يسيطرون على موارد الشعوب ويحرمونها من ثرواتها وخيراتها ليعيش إنسان العالم المسمى بـ "الثالث" فقيراً جائعاً عرياناً متخلفاً في مقابل الرفاهية والكماليات التي تزخر بها حياة الناس في عالم الإستكبار نتيجة الجشع والإسراف المتفشي في عالمهم.
هذا كله قد لا يثير استغرابنا نتيجة ما نعهده من مسيرة الجمهورية في عدم الرضوخ والتنازل أو المساومة على الجهود الجبارة والتضحيات العظيمة التي قدمها شعب الجمهورية للدفاع عن حريته ومصالحه في وجه كل مؤامرات وهجمات قوى الإستكبار العالمي الشرقية منها والغربية على حد سواء، والصمود الأسطوري، لتلك القيادة التاريخية التي لم يعهد العالم الحديث مثيلاً لها في الصمود والوقوف وعدم الخوف من التهديدات الدولية التي اجتمعت كلها اليوم ضد تلك القيادة وذلك الشعب الذي استحق الحياة عن جدارة، لأنه دفع ثمنها دماءً حمراء نقية أريقت في سبيل التحرر وإحقاق الحق لرده إلى أهله الذين هم أولى به من الآخرين.
لكن الذي أثار التساؤلات فعلاً هو (لماذا اختار الإمام الخميني حفظه الله تلك الآية القرآنية بالخصوص ليفتتح بها بيانه "الوثيقة التاريخية" للمسلمين وغيرهم من شعوب العالم المستضعف) ؟
تلك الآية التي قد يبدو وللوهلة الأولى وبالنظر غير الدقيق والفاحص أنه لا ارتباط لها بمضمون البيان، من أفكار وخطوط عامة جديرة بالبحث والإتباع.
لكن بعد المجزرة الدموية الرهيبة التي قام بها النظام السعودي عبر أجهزة الأمن والشرطة والحرس الوطني ضد الحجاج المسلمين الأبرياء الذي كانوا يشتركون في مسيرة "البراءة من المشركين" والكافرين وكل القوى الإستكبارية في العالم، ومسيرة إعلان صرخة المستضعفين المسلمين الذين يعانون الأمرّين من جبروت وشر تلك القوى، نقول بعد تلك المجزرة اتضح الأمر وانكشفت الصلة بين الآية المباركة ومضمون البيان، وكأن الإمام أراد أن يسير بالمسلمين نحو الجهاد ، يخوضه الإسلام المقاوم في كل مواقع تواجده، وذلك لأن صراع الإسلام ضد أمريكا وقوى الإستكبار الأخرى واضح لكل المسلمين ولا ينازع أحد في أحقية قتالنا لها وطردها من بلادنا وقطع كل أياديها المجرمة الملطخة بدماء الشعوب ظلماً وعدوانا، وأما معركة الإسلام ضد أدعياء الإسلام ورافعي رايته زوراً وبهتاناً، هؤلاء الذين هم رأس النفاق والذين يشكلون البعد الآخر للطرف المعادي للإسلام الحقيقي، هذا البعد قد لا تتضح حقيقة معركة الإسلام معهم لكونهم مسلمين بحسب الظاهر لأنهم يرفعون الإسلام شعاراً ليمارسوا من ورائه كل ألاعيبهم وخبثهم ضد الإسلام من الداخل من دون أن يثيروا الشبهات والشكوك في نفوس المسلمين البسطاء، كالنظام السعودي الذي يسيطر على الحرمين الشريفين، بل يدعي الحفاظ عليهما وأنه خادم لهما، كما يحاول ذلك النظام أن يروج ذلك اللقب وتلبسه إياه قد ألقته إليه ودلته عليه تلك القوى الإستكبارية التي تدير ذلك النظام وتحركه و على رأسها الشيطان الأكبر "أمريكا".
فالآية الكريمة إذن قد تضمنت معانٍ جليلة وكبيرة وتستحق الوقوف عندها، كونها تشكل الأساس لذلك البيان التاريخي وتلك المعاني هي التالية :
1- : الهجرة إلى الله ورسوله "أي العمل في سبيل الله ورسالته" .
2- : الموت من خلال الهجرة "الشهادة" .
3- : الأجر من الله عز وجل "الجنة ومنازل الشهداء فيها" .
هذه المعاني التي تضمنتها الآية، وردت بعد سياق آيات تتحدث عن رفض الإستضعاف، وتحاول أن تستنهض المستضعفين ليرفضوا واقعهم من خلال بث القوة والإرادة والعزيمة في نفوسهم حتى لا يستسلموا للواقع الفاسد الأقوى من قدراتهم وإمكانياتهم وتلك الآيات هي التالية : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، ألا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا، ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) 97 ـ 100 ـ النساء.
فجو هذه الآيات هي إدانة واستنكار من الله عز وجل، لعباده الذين عندما يكونون في موقع الضعف وعدم القدرة أمام المستكبرين فيستسلمون لذلك الواقع الضاغط، ولا يحاولون العمل والسعي من أجل تخليص أنفسهم وشعوبهم من تلك الحالة التي يؤكد الله على رفضها وعلى ضرورة قيام المستضعفين في المقابل لرفض غبار الذل والهوان عن أنفسهم.
وجو الآيات تنطبق بتمام مضامينها ومعانيها على واقع المسلمين اليوم، حيث نرى أنهم مستسلمون في أكثر مواقع حركتهم وميادين أعمالهم لإرادة قوى الإستكبار العالمي التي تسومهم سوء العذاب، فتصادر ثرواتهم وتمتص خيراتهم، وتنهب مواردهم، من دون أن يحركوا ساكناً في مواجهة الطغيان مع أن الله أحق أن يخشوه ويخافوه، وطمعاً في الحفاظ على الحياة الذليلة والحقيرة التي لا حرية فيها ولا شرف ولا كرامة بل فقر وجهل وتخلف واستضعاف، يحطم إرادة الحرية والثورة في نفوسهم، ويميت روح الجهاد في قلوبهم ليبقوا في مواقع الخوف من الموت عبر ذلك الإستخدام المخزي والذليل، ولهذا نرى بأن الله يعبر عن هؤلاء بأنهم ظالمون لأنفسهم إذ أنهم باستسلامهم يساعدون عدوهم القاهر لهم والمتسلط عليهم على استعبادهم وإذلالهم أكثر، وعلى زيادة سيطرته على إرادتهم وحرياتهم وقراراتهم، وهذا هو واقع حال كثير من الشعوب الإسلامية وأنظمتها التي تعيش الرعب والخوف من قوى الإستكبار العالمي، ولا يجرأون على اتخاذ المواقف المضادة تجاه أولئك الظالمين الذين يسعون لإطفاء نور الله في أرضه حفاظاً على مصاحهم وامتيازاتهم.
من كل هذه الأجواء الملبدة بالخضوع والذل والتحقير، يريد الله عز وجل أن يعبر عن ضرورة رفض المستضعفين لذلك الواقع الفاسد والمنحرف، وأن الخضوع لذلك فيه الإماتة للدين الحنيف وإحياء للبدع الضالة وحرف الناس عن الصراط المستقيم، وبعد ذلك إفساح المجال لمذاهب الباطل وقوى الباطل والضلال أن تكون هي الحاكمة والمسيطرة وهذا خلاف ما يريده الله عز وجل.
بعد عرض كل ذلك الإستضعاف الذي لا مبرر له بنظر الله عز وجل، ولا تكون عواقبه إلا مزيداً من القهر والظلم والإذلال، يبدأ الله بعرض ما يجب على المستضعفين أن يقوموا به في الحياة، وذلك ببيان أن من يقوم وينهض في سبيل الله ورسوله (ص) ليدفع عن أمته شر ذلك الواقع الفاسد المحيط بحياتهم، فإن عمله ذاك عمل مبارك وهو هجرة إلى الله ورسوله (ص) في أي موقع من مواقع الجهاد، وفي كل عمل أو حركة يقوم بها الإنسان المسلم على أي مستوى من المستويات لتوضيح حقيقة مجريات الأمور ولبث روح الجهاد والتضحية في جسد الأمة عبر إزالة وتزييف عوامل الخوف والرعب من قلوب المستضعفين الرازحة تحت سلطة المستكبرين الجبارين، وأن تلك الهجرة هي السبيل الأوحد للوصول إلى الواقع الذي يطمح إليه كل إنسان حر وعزيز، يريد أن يعيش الحياة كما يريد الله سبحانه، لا الحياة التي تفرضها عليه القوى الظلامية التي تريد أن تسخّر وجود الإنسان لمصالحها الذاتية ومنافعها الضيقة.
ومسيرة الحج كل عام في مكة المكرمة والمدينة المنورة في جوار الحرمين الشريفين، هي هجرة إلى الله ورسوله بل هي من أرقى أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيها إرشاد المسلمين ودرس لهم على أن ينفضوا عنهم غبار الذل، ويحرروا أنفسهم أولا ً على مستوى رفض الواقع المفروض عليهم ليشكل ذلك بداية المسيرة للتحرر على كل المستويات سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وغير ذلك، ليعيش المسلمون حياة القرآن والإسلام وليهنأوا بالحياة الحرة الكريمة.
ومسيرات البراءة من المشركين في موسم الحج كل عام، والتي كان من الواضح أنها تترك آثاراً واضحة على قسم من المسلمين في كل عام، كانت تشكل خطوة من خطوات رفض الواقع على الصعيد المعنوي والروحي لطرد حالة الإنهزام النفسي التي تعيشها الشعوب الإسلامية، ولتقتدي تلك الشعوب المسحوقة تحت ظلم أنظمتها العميلة للإستكبار العالمي، بالشعب الإيراني المسلم المقدام الذي رفض الواقع الذي يريد النظام وحماته فرضه عليه واستطاع أن يحقق المعجزة الكبرى في هذا العصر، ويعيد للإسلام هيبته ودوره ومكانته تحت سماء هذا العالم.
إذا كانت مثل تلك المسيرات هجرة إلى الله ورسوله وجهاد في سبيله، فمن الطبيعي أن حركة الجهاد تحتاج إلى تضحيات وبذل دماء في بعض مواقع العمل، فإن وقوع الموت على البعض في أمثال هذه الحركات الجهادية لا يمكن أن نعده خسارة، بل هو الإنتصار الأكبر على الذات وقمة التحرر من سلطة العباد الظالمين ليتحول الإنسان بالموت والشهادة إلى قمة العبودية المطلقة لله عز وجل، لأن الموت الواقع والذي لا مفر منه ما أروعه وأجمله عندما يكون في مواقع الجهاد والشرف والكرامة، فهو بذلك يكون قد استحق الخلود في جنان الخلد عند الله، ويكون دمه الطاهر حجة على الباقي من البشر، الذين من أجلهم استشهد وفي سبيلهم رضي بسفك دمه على يد أعداء الله.
فالشهادة التي يحصل عليها قسم من أولئك المهاجرين، لا شك سوف تقع في يد الله عز وجل، الذي لن يترك المجرمين الظالمين من مستكبرين وغيرهم بأن يفرحوا بقتلهم المجاهدين في سبيل الله، بل أن الله سوف يمكن لعباده المؤمنين الصابرين في مسيرة الجهاد، من أن يثأروا للدماء المهاجرة في سبيله، لأن تلك الدماء هي الثمن الذي ينبغي على المسلمين أن يدفعوه لينالوا حريتهم ويستعيدوا كرامتهم، لأن دفع الحياة هو ثمن الحياة، وعدم الرضا بدفعها يعني حياة الذل والعار، وهيهات أن يقبل المسلمون بالحياة الذليلة تحت رحمة أعداء الله والإنسانية، لأن المسلم عزيز بنص القرآن الكريم (إنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين) .
من ذلك كله يتبين أن ابتداء الإمام الخميني حفظه الله بيانه بتلك الآية المتضمنة لتلك المعاني الجليلة لا يبقى مجال للإستغراب، لأن حياة المسلم الحقيقي ينبغي أن تكون هجرة إلى الله ورسوله، وحركة مستمرة من أجل دفع قضية الإسلام إلى الأمام ليحتل موقعه الريادي والقيادي في حياة الأمم والشعوب، ولو فرضنا أن نصيب البعض من المجاهدين هو الشهادة في سبيله، فإن تلك الشهادة سوف تكون الدافع والحافز والشحنة المقوية للمسيرة الإسلامية للوصول إلى أهدافها الإلهية الإنسانية لرفع الفتنة والظلم من كل بقاع العالم.
الشيخ محمد المقداد.
"والحمد لله رب العالمين"