الأحد, 24 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

مواقف من كربلاء - موقف الحر ين يزيد الرياحي

sample imgage

كثيرةٌ هي الأمور التي قد يغيّر الإنسان موقفه منها، فتارة من التأييد إلى المعارضة، وأخرى من المعارضة إلى التأييد، وهذا قد يكون ناتجاً عن عوامل ودوافع ذاتية ونفسية، وقد يكون ناتجاً عن عوامل ودوافع موضوعية، والقضايا التي يبدّل الإنسان موقفه منها قد تكون من القضايا الكبيرة، وقد تكون من القضايا الصغيرة، وأخرى قد تكون من القضايا المبدئية أو من القضايا الهامشية، وطوراً يكون تبديل الموقف مؤدياً إلى جملة التزامات تترتّب على ذلك التبديل ممّا توقع الإنسان نوعاً ما في موضع الخطر على النفس أو الموقع والمنصب أو السمعة والشهرة أو على من يحيط به، وتارة يكون مؤدياً إلى تحصيل مجموعة من المنافع والفوائد الدنيوية الفانية، إنّ كلّ هذه الأمور والتفاصيل تحصل في حياة الناس بشكلٍ يومي ومستمر تبعاً للتنوّع والإختلاف في الآراء الراجع إلى التفاوت في الإدراكات العقلية والإيمانية عند البشر.

 

وبالنظر إلى كربلاء، تلك المعركة الفاصلة التي رسمت الحدود النهائية بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، نرى أنّ العديد من رجالاتها سواء ممّن كانوا في الصف الحسيني أو في الصف المعادي قد بدّلوا مواقعهم أثناء المعركة أو في الطريق إليها أو قبلها بقليل، ممّا حوَّل وجهة سير المعركة وأدى إلى تغييرٍ كبير على مستوى مصير بعض الأفراد.

ومن أولئك الأفراد كان "الحر بن يزيد الرياحي" الذي تخبرنا به السيرة الحسينية أنّه كان قائداً من قادة الجيش الأموي، وكان مكلّفاً بمهمة صعبة ضدّ الإمام الحسين (عليه السلام) وهي (منعه من الرجوع إلى المدينة وقطع الطريق عليه من الوصول إلى الكوفة)، وقد نفّذ الحر تلك المهمة خدمةً لأميره عبيد الله بن زياد، وجرجر بالإمام الحسين (عليه السلام) في أثناء الطريق إلى أن وصلوا جميعاً إلى كربلاء، أرض تلك المعركة القصيرة في زمانها والكبيرة في آثارها ونتائجها.

ولعلّ الحر في موقفه الذي اتّخذه إلى جانب الجيش الأموي كان معتقداً أنّ المسألة لن تصل إلى الحد الذي يتجرّأ فيه أولئك على سفك دم الإمام الحسين (عليه السلام) وقتله إرضاء لشهوة السلطة والملك عند يزيد الفاسق والفاجر، ومحاورته مع عمر بن سعد عندما سأله الحر: (أمقاتل أنت هذا الرجل؟ فأجابه "إي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي، قال الحر: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال عمر: لو كان الأمر إليّ لقبلت لكن أميرك أبى ذلك).

هذا الحوار وكأنّه لعب دوراً كبيراً في نفس الحر، فهو قد جرجر بالإمام (عليه السلام)، لكنّه ما تصوّر أن تصل الأمور إلى الحد الذي يصبح فيه شريكاً في قتل الإمام (عليه السلام)، إلّا أنّه عندما وجد أنّ القضية ستبلغ ذلك الحد كما أخبره عمر بن سعد، وجد نفسه في صراعٍ وتنازع رهيبين، بين أن يكتب في التاريخ أنّه قاتل للإمام (عليه السلام)، وبين أن يُسجِّل فيه أنّه شهيد مع الحسين (عليه السلام)، ولا شكّ أنّ وقوفه إلى جانب الجيش الأموي كان يسهِّل عليه أيضاً اختياره جانب البقاء معهم فيحفظ حياته ونفسه وينال قسماً من الحظوة عند الأمير عبيد الله بن زياد، إلّا أنّ الحر تأمّل في القضية أكثر، فهناك الجنة ونعيمها، وهناك الأنبياء والأئمة وهناك الصالحون والأولياء والشهداء، وكلّ هؤلاء يتنعمّون في جنان الخلد، وأيّ عاقلٍ يترك صحبة أولئك البشر الكاملين من أجل الحفاظ على حياة هي في النهاية ستعود إلى خالقها عبر خروجها من هذه الدنيا طائعة أو مكرهة على ذلك.

بعد كلّ تلك الوقفة مع النفس لمراجعة الحسابات الدقيقة بين الربح والخسارة في أيّ موقفٍ محتمل، اتّخذ الحر قراره النهائي، لأنّه رأى أنّه لا ينتمي إلى ذلك الجيش الزاحف لقتل الإمام (عليه السلام) من موقع الهزيمة النفسية أمام الطغيان الأموي والحقد الجاهلي المعتمل في نفوس الحاكمين الذين ساقوا الناس إلى معركةٍ ضدّ أكرم خلق الله في عصره، وبقية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمته، ولاحظ من كان بجانبه من الجيش الأموي اضطرابه وقلقه ذاك عندما كان يحادث نفسه ويخيّرها، فقال له عندما رأى من الحر الإرتجاف والخوف: "لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟" فقال له الحر حينئذٍ بلهجة الواثق المطمئن الذي سيطر على كلّ عوامل الضعف والهزيمة في نفسه أمام الدنيا ومغرياتها وأمام وسوسات الشيطان اللعين: (إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو أُحْرِقت).

قال تلك الكلمة الفصل، وانطلق نحو الإمام الحسين (عليه السلام) منكّساً رمحه قالباً قوسه مطأطأً رأسَه حياءً من الإمام (عليه السلام) بسبب ما فعله به أثناء الطريق، وقال رافعاً صوته: (اللهم إليك أنيب فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك! يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة؟).

ولم يكن هذا الموقف من الحر فقط، مع أنّه الموقف الأهم الذي يدلّل على أنّ الإنسان مهما تقاذفته الأهواء والشهوات، فإنّ في النفس من البقايا الخيّرة الصافية ما تعين الإنسان المؤمن على اتّخاذ الموقف المشرّف والرسالي إذا التفت إلى نفسه ولم يتركها في مهبّ الشهوات ورياح الملذات والرغبات، بل نجد أنّ الحر أخذ المبادرة، لتوجيه الخطاب إلى أفراد ذلك الجيش لعلّ كلامه يلعب دوراً في إنقاذ البعض ممّن دفعهم الخوف من الموت والقتل أو السجن والتعذيب من الأمويين إلى اتّخاذ الموقف الذي فيه هلاكهم في الدنيا والآخرة.

وهكذا يستطيع المؤمن الرسالي الذي إذا أخطأ في اتّخاذ موقف معين أن يتدارك نفسه ويعود إلى موضعه الصحيح والموقف الرسالي الذي ينبغي أن يكون عليه، ويضرب عرض الحائط المبرّرات غير الواقعية من موقع مؤمناً ملتزماً التي اضطرته إلى أن يأخذ الموقف المنحرف الموافق للخط المعادي.

ومع تلك العودة الميمونة التي تحرّرت فيها نفس الحر من أسر الدنيا والموقف المؤيّد لها، انطلق إلى ميدان المعركة بكلّ شوق وحنين ورغبة إلى منازلة القوم الظالمين لأنفسهم من خلال قبولهم بأن يرضخوا لسلطة الحاكم الظالم الجائر ليتلاعب بمصيرهم كيفما شاء وأراد، ولم يقبل لنفسه أن يخرج من الميدان إلّا وقد شارفت نفسه على الخروج من جسده، ووصل إلى الإمام (عليه السلام) وفيه بقية رمق من حياة، فوقف الحسين (عليه السلام) عنده وقال: "أنت الحر كما سمّتك أمك، وأنت الحر في الدنيا والآخرة"، وقد رثاه البعض من أصحاب الحسين (عليه السلام) شعراً حيث قال: (لنعم الحر حر بني رياح صبور عند مشتبك الرباح ونعم الحر إذ فادى حسيناً

وجاد بنفسه عند الصياح).

وبذلك دخل التاريخ من بابه الواسع كنموذج للمؤمن الرسالي الذي يحدّد الموقف الصحيح ويقف عنده فلا يتجاوزه، وإن كان قد صدر منه الخطأ في بعض المراحل نتيجة تصوّرات أو مبرّرات نفسية وواقعية آثر فيها السلامة الموهومة، وتحوّل الحر بكلّ ذلك إلى رمزٍ كبير من رموز الثورة الحسينية الخالدة، وله موقعيته المميّزة فيها إلى جانب الرجالات الكبار والآخرين من أصحاب الإمام (عليه السلام) الذين قرن أئمتنا (عليهم السلام) أسماءهم باسم الإمام الحسين (عليه السلام)، بالكلام المعروف في زيارتهم :(السلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه) أو (السلام عليكم يا أنصار الله وأحبّاءه) أو (السلام عليكم يا أنصار دين الله).

والسلام على الحر يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يُبعَث حياً، لنكون إلى جوار الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) معهم في ظلّ رحمة الله الواسعة وفيضه اللامتناهي الذي أعدّه للمؤمنين الصالحين من عباده.

-الشيخ محمد توفيق المقداد-