تأثير الثورة الحسينية في الثقافة الإسلامية
- المجموعة: مقالات سيرة
- تاريخ النشر
- اسرة التحرير
- الزيارات: 2557
ولا شكّ أنّ احتلال الثورة الحسينية لهذه الموقعية المميزة لم يكن وليد الصدفة، أو وليد التفاعل مع هذا الحدث بنحوٍ مجرد عن التوجيه والتنظيم، بل كان كلّ ذلك نتيجة جهود مكثّفة قادها الأئمة (عليهم السلام) أولاً، ثمّ من بعدهم العلماء الأبرار الذين قادوا مسيرة أتباع أهل البيت عبر العصور.
والسبب في هذا الإهتمام غير العادي بثورة الحسين (عليه السلام) هو أنّ الهدف منها لم يكن هدفاً عادياً أيضاً، وإنّما كان هدفاً كبيراً يتجاوز بتأثيراته العصر الذي حدثت فيه، ذلك الهدف هو "الإصلاح" الذي أوضحه الإمام (عليه السلام) بقوله عند خروجه للثورة فقال: (ألا وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...).
وبالرجوع إلى المصادر التاريخية التي تتحدث عن عاشوراء نجد أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) هو أول من شجَّع على نمط إحياء ذكرى كربلاء، حيث نجد أنّ الإمام (عليه السلام) عند رجوعه من رحلة الأسر من الشام إلى المدينة المنورة، وقف قبل المدينة بمسافة وأرسل أحد الشعراء ينعي الحسين (عليه السلام) فيها، فخرج جميع أهلها لاستقبال الإمام ونساء أهل البيت (عليهم السلام) ليتشكل من الجميع ما يشبه أول مظهرٍ من مظاهر الإهتمام بمقتل الحسين (عليه السلام).
وكذلك فعل كلّ الأئمة (عليهم السلام) ذلك، فكانوا عندما يأتي الأول من المحرم من كلّ عام يقيمون مراسم الحداد ويسمحون للشعراء بالدخول عليهم وإلقاء قصائد الرثاء بالإمام الحسين (عليه السلام) ومنوّهين بتضحياته وجهاده في سبيل الإسلام.
وكذلك عندما ننظر إلى كثرة الأحاديث والنصوص الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) وعن طريقة تصرّفهم مع عاشوراء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) نجد التأكيد الشديد والواضح على ضرورة الإهتمام بها والتركيز على إقامتها والإعتبار بها، فمن الروايات ما يدلّ على أهمية البكاء على مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) ومقدار الثواب المترتّب على ذلك، ومن الروايات ما يدلّ على أهمية زيارة الإمام (عليه السلام) مع ما فيها من المشقة والتعب وأنّ زيارته تعادل أجر من حج إلى بيت الله الحرام أضعافاً مضاعفة، ومن الروايات ما يدلّ على جواز اتّخاذ تربة الحسين (عليه السلام) للسجود لله عزّ وجلّ في الصلاة، ومنها ما يدلّ على جواز الأكل بمقدارٍ قليل مع أدعية خاصة لتربة الحسين (عليه السلام) طلباً للشفاء والصحة.
إنّ كلّ تلك الطوائف المتعدّدة من الروايات ليست لمجرّد إحياء الذكرى فقط، وإنّما لتتحوّل عاشوراء في واقع حياة المسلمين إلى جزءٍ من حياتهم اليومية وشؤونهم واهتماماتهم، ولتكون عاشوراء على الدوام عاملاً من العوامل المحفّزة والمستنهضة للهمم والمقوّية للعزائم في مواجهة الأوضاع الصعبة والحالات الضاغطة التي تريد السيطرة على إرادة الإنسان وحريته واستقلالية قراره.
والسؤال المهم هنا هو: (هل استطاعت ثورة الحسين (عليه السلام) أن تصل في تأثيرها إلى المستوى المتناسب مع حجم الإهتمام بها من جانب الأئمة (عليهم السلام) والعلماء عبر العصور؟).
لا شكّ عند المتأمّل في مسيرة الإسلام بعد عاشوراء وجود الكثير من الظواهر التي ما كانت لتوجد بين المسلمين لولا وجود تلك الثورة الرائدة، وأول ظاهرة حصلت بعد عاشوراء كانت الثورات المتلاحقة التي قام بها الكثيرون من أتباع الإمام الحسين (عليه السلام) وأنصاره، بل إنّ بعض تلك الثورات قد قادها أبناء من نسل الحسين (عليه السلام) كزيد بن علي ويحيى بن زيد، ولا شكّ أنّ تلك الثورات قد أدّت دورها أيضاً في ازدياد الوضوح والوعي عند المسلمين لممارسات الحكّام الظلمة، ولهذا فقد تمكَّن العباسيون بحملهم لشعارات الثأر للحسين (عليه السلام) من قاتليه أن ينتصروا على الدولة الأموية وينهوا حكمها.
ومن الظواهر الملفتة التي أنتجتها عاشوراء أنّها كانت الملهم للكثير من الشعراء البارزين في العصور المختلفة على إنشادها شعراً رائعاً صار حديث الناس في عموم البلدان الإسلامية، ويمكن للمرء أن يتخيّل ذلك الكم الهائل من الشعر الذي قيل في كربلاء بحيث لو جمعناه لبلغ حجمه عشرات المجلدات إن لم يكن بالمئات، وهذا الأسلوب لم يكن الأئمة (عليهم السلام) بعيدين عن التوجيه نحوه، بل نجد في بعض النصوص الواردة عنهم: (من قال فينا بيتاً من الشعر دخل الجنة) نظراً لما للشعر في المفهوم الإسلامي والعرف العام من التأثير، ومن الطبيعي جداً أنّ الحثّ على إنشاد الشعر بالحسين (عليه السلام) لم يكن لتخليد الذكرى فقط، بل لتوجيه الناس نحو قضية الحق المضيَّع الذي يتداوله الحكام والمتسلّطون على رقاب المسلمين من غير وجه حق في ذلك، وليكون الشعر باباً من أبواب فتح آفاق المعرفة والوعي عند الناس.
ومن الظواهر المهمة أيضاً الزيارات المتكرّرة بنحوٍ دوري لمرقد الإمام الحسين (عليه السلام) ومراقد الأئمة (عليهم السلام) عموماً وفي مناسبات متعدّدة كلّ عام كيوم عرفة والأربعين والنصف من شعبان وغيرها، حيث يتوافد الكثير من أبناء الإسلام إلى تلك المراقد المطهرة للزيارة والتبرّك، وهذا الأسلوب مهم أيضاً في إيجاد جوٍ من العلاقة الإنفعالية والروحية والوجدانية مع صاحب المرقد، مع ما يستتبعه كلّ ذلك من تأثّر فكري بتلك الشخصية القيادية التي بذلت الجهد والدم في سبيل المبادىء والقيم، ولهذا عندما نقرأ مضامين زيارات الحسين (عليه السلام) بالخصوص نجد فيها سيلاً من التعاليم والمفاهيم والمضامين العقائدية والفكرية والإيمانية والأخلاقية التي تنغرس في نفس الزائر غرساً يتفاعل مع مكنونات نفسه وعقله، وهذا الأمر بالذات هو أحد أهم مقاصد التواصل بالزيارة مع الحسين (عليه السلام).
ومن الظواهر الملفتة أيضاً مجالس العزاء العامة التي يمكن اعتبارها من أبرز الظواهر التي أنتجتها عاشوراء الحسين (عليه السلام) في واقع حياتنا، فهذه المجالس التي تجلب الحضور إليها بمجرد الإعلان عنها هي التعبير عن التغلغل الذي أثّرته كربلاء في وجداننا الشعبي، وهذه المجالس أضحت في حياتنا كالمدرسة التي ندخلها لنتعلم فيها ونتزوّد بسلاح العلم والمعرفة بالإسلام وأحكامه ومفاهيمه، وهي الوسيلة لوضيح الواقع الذي يعيش فيه المسلمون سلباً كان أو إيجاباً، فهذه المجالس صارت في بعض جوانبها أشبه بحلقات التوعية الفكرية والإجتماعية والسياسية التي تعين الناس على التمييز بين الأمور في واقعها المعاش لتعرف بالتالي كيف تتعامل مع القضايا والأحداث.
ومن الظواهر أيضاً ما يعيشه المسلمون في أيام عاشوراء من تفاعل مع الذكرى، بحيث عندما يَهِلُّ هلال محرم من كلّ عام تلبس مدننا وقرانا وأحياؤنا وبيوتنا ثوب الحداد المتّشح بالسواد كتعبيرٍ عن الإنفعال والتفاعل مع تلك القضية المركزية من خلال عاشوراء الحسين (عليه السلام)، فهذا المنظر الحزين كما يعبّر عن مؤاساتنا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته بمصابهم بالحسين (عليه السلام) يعبّر أيضاً عن نصرة الحق السليب وعن الإستعداد للدفاع عن الإسلام بوجه كلّ الظالمين والمستبدين، وعن أنّ هذا الدين سيبقى هناك من يحمل لواءه مهما جهد المتآمرون في التكالب عليه لإقصائه عن ممارسة أيّ دورٍ إيجابي وبنَّاء في حياة الأمة الإسلامية.
إنّ هذه الظواهر جميعاً ليست إلّا غيضاً من فيض ممّا أنتجته عاشوراء وأثَّرت في مسيرة الأمة الإسلامية عبر التاريخ وإلى الآن وستبقى هذه الثورة الملهم الأساس للثوار الأحرار والمجاهدين الصادقين المدافعين عن العزة والكرامة والشرف في مواجهة الباطل مهما امتدّ وطال، وصار الحسين (عليه السلام) الرمز الأكبر للجهاد والإستشهاد والكلّ يردّد: (يا ليتنا كنّا معك سيدي فنفوز فوزاً عظيماً).
وبتلك الثقافة العاشورائية ألهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كلّ مشاعر أتباعهم وأحاسيسهم عبر العصور، وجعلوهم يعيشون كربلاء كأنّها حصلت في عصرهم لا في عصرها الخاص بها، وكلّما مرّ الوقت على عاشوراء كلّما تعمّقت في الشعور والوجدان، وتجذّرت في النفوس والعقول.
لذلك كلّه يمكننا أن نعتبر أنّ كربلاء الحسين (عليه السلام) التي حمل أمانتها الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ومن بعدهم العلماء الأبرار رضوان الله عليهم هي أمانة في أعناقنا في هذا الزمن أيضاً، وكما دافع عنها كلّ السابقين بتفانٍ وإخلاص ينبغي لنا أن ندافع عنها نحن أيضاً بالغالي والنفيس، خاصة وأنّها هي التي تزوّدنا اليوم بالقوة المعنوية والطاقة الإيمانية والروحية لمواجهة كلّ الواقع الفاسد والظالم الذي نعيش فيه ويريد أن يحطّم إراداتنا ويلغي وجودنا لصالح القوى الإستكبارية في العالم ولصالح جرثومة الفساد إسرائيل المجرمة التي تحتلّ الأرض وتدنّس المقدّسات وتنتهك الحرمات وتفتك بمدننا وقرانا قصفاً وتقتل شيوخنا وأطفالنا ونساءنا ظلماً وعدواناً، تماماً كما كان يفعل يزيد الذي حصر الخيارات أمام الحسين (عليه السلام) بين السِّلة والذلّة، وكان الجواب التاريخي للعصور كلّها (هيهات منّا الذلّة).
إنّ هذا الجواب الخالد هو السلاح الحسيني الكربلائي الذي يتسلّح به الشباب المجاهد المؤمن الذي يواجه اليوم أقسى حملة يقودها كلّ الذين لا يريدون الخير للإسلام والأمة الإسلامية ويحقّقون بهذا الجواب – الشعار – الإنجازات التي عجز عنها الكثيرون قبلهم في مواجهة الصلف والتعنّت الإسرائيليين، وهذا السلاح هو المؤمَّل منه أن يضع الأمة على الطريق الصحيح إذا أرادت أن تستعيد حريتها واستقلالية قرارها، وأن تحرّر أراضيها السليبة وإنسانها المستعبد.
من هذا كلّه يجب أن تبقى ثقافة عاشوراء وذكرى كربلاء مؤثّرة بنحو الدوام والإستمرار من خلال الإصرار على إحيائها وعلى اعتبارها جزءاً من حياتنا تعيش معنا وترفدنا بكلّ أسباب القوة والإيمان لنبقى قادرين على مواصلة السير في خط الجهاد الحسيني حتى تحقيق النصر أو الشهادة.
والحمد لله ربّ العالمين.