-
المجموعة: مقالات سيرة
-
تاريخ النشر
-
اسرة التحرير
-
الزيارات: 2497
لم تأخذ أيّة ثورة في التاريخ الإنساني العام، والتاريخ الإلهي بشكلٍ خاص المقدار الواسع من الإهتمام والعناية كما هو الحال مع ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) المحفوظة بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة منها، والتي أصبحت بفضل هذا التركيز في حفظها جزءاً لا يتجزّأ من وجدان الناس الذين اهتمّوا بتلك الثورة ولا زالوا يحيون ذكراها إلى يومنا هذا مع بداية كلّ عامٍ هجري جديد.
والسؤال الأساس الذي يطرح نفسه هو :(لماذا هذا الإصرار على إحياء عاشوراء الحسين (عليه السلام) وما الغاية المتوخاة من ذلك؟).
وللإجابة على هذا السؤال قد يحتاج الإنسان للعودة إلى التاريخ لكي يدرس الظروف والمعطيات والوقائع التي أدّت إلى حصول تلك الثورة، ولكن بنحوٍ إجمالي يمكن القول إنّ السبب لحدوث النهضة الحسينية هو "انحراف الأمة عن الصراط المستقيم" و"تحوّل الحكم الإسلامي من أداة لإيصال الناس إلى الله وتحقيق العدالة إلى حكمٍ ملكي متوارث لا مكان لله فيه".
وبما أنّ هذين السببين "انحراف الأمة وتحوّل الحكم لا زالا موجودين وبقوة في الساحة المعاشة، فهذا يعني أنّ كربلاء لا زالت موجودة أيضاً بكلّ شعاراتها وأهدافها ومبرّراتها لأنّها النقيض عن كلّ ذلك.
وهذا وحده كافٍ لتبرير سبب بقاء تلك الثورة حية في الواقع المعاش لأنّها صرخة التعبير عن رفض الطغيان واستنكار استغلال موارد الأمة في الوجهة الخطأ والأهداف الخطأ البعيدة عن وجهة وأهداف الأمة والحكم في الإسلام.
وأمّا الأهداف المتوخاة من إحياء عاشوراء بنحوٍ مفصَّل فيمكننا أن نحدّدها على النحو التالي:
أولاً: تعويد الناس على روحية الرفض للواقع المنحرف، إذ بدون وجود قدوة مارست الرفض لا يمكن للناس أن ترفض عندما تجد أنّ الواقع أقوى منها وقد يميل إلى الإستسلام والخضوع له وتعتاد على الإنصياع ممّا يقتل في النفوس كلّ معاني الرفض والإباء والثورة ضدّ الإنحراف.
ثانياً: استنهاض الهمم ومحاولة تغيير الواقع نحو الملائمة مع ما يستلزمه الخط الإسلامي للحياة، وهذا يتحقّق من خلال رفض التعاون مع الظالم وتزويده بأسباب القوة والبقاء، وهذا بالتالي يقوي الأمل بقرب الخلاص عندما تصبح الأمة ذات همّة عالية أبية تجبر الظالم على الإنصياع لأمرها والرضوخ لشروطها وتوجّهاتها والتخلّص منه ومن شروره وآثامه وإفساده.
ثالثاً: الإعتبار، لأنّ عاشوراء حفلت بمظاهر من القسوة والوحشية والإجرام إلى درجةٍ لم توفر حتى الأطفال الرُضَّع من القتل، مع ما حدث في كربلاء من تشويه وتمثيل عنيف بجثث الشهداء وقطع رؤوسهم وأطرافهم والإنتقال بها من بلدٍ إلى بلد بطريقةٍ تتنافى مع إنسانية الإنسان وما يرمز إليه من قيم ومبادىء إلهية سامية.
وهذا كلّه يستنفر في الإنسان كلّ معاني الخير والفضيلة ويدفع به إلى الثورة ضدّ مثل ذلك الحاكم المنحرف الظالم الذي يستبيح كلّ المحرّمات والحرمات من أجل أن يحفظ حكمه ولو على حساب إزهاق الأرواح وتدمير حياة المجتمع والأمة.
وعندما نلقي نظرة على الواقع الذي نعيش اليوم نجد أنّ هذه الأهداف المتوخاة من الإحياء لعاشوراء متجسّدة وحقيقية عند من يؤمنون بالطريقة الحسينية الكربلائية في إدارة أمور الصراع مع الكفر من جهة والنفاق من جهةٍ أخرى، بينما الذين لا يؤمنون بتلك الطريقة يخبطون خبط عشواء في إدارة ذلك الصراع ويحارون كيف يتعاملون معه وبأيّ أسلوب.
إنّ من أهم مميزات ثورة الحسين (عليه السلام) أنّها حدّدت مساراً للتعاطي مع الظلم والإنحراف لا محيص عن العمل بموجبه من أجل الوصول إلى المبتغى والمأمول وقد أثبت هذا المسار صدقيته في مواجهة الكثير من الحالات الشاذة والصعبة، وها نحن اليوم نرى الآثار الإيجابية له في مواجهة الكيان الغاصب إسرائيل، حيث استطاعت المقاومة الإسلامية المنطلقة على هدي ذلك المسار من إيقاع الهزيمة للمرة الأولى بذلك الكيان عبر خمسين سنة من الصراع، وختمت المقاومة بذلك باباً عريضاً للأمل بمستقبلٍ مشرق لا أثر فيه للاحتلال البغيض لقدس المسلمين وفلسطين الأمة الإسلامية.
لهذا كلّه نقول إنّ الأمة كلّها مدعوّة اليوم وقبل الغد إلى التمسّك بالمسار الحسيني في مواجهة الأخطار التي تواجهها، وهذا المسار وحده هو الكفيل بإنتاج روحية الرفض وروحية الإباء الحسيني القادرة على وقف هذا الإنحدار الذي تسير فيه الأمة، والقادرة على إعادة القرار الحر المستقل وإيقاف نهب الثروات والخيرات.
والحمد لله ربّ العالمين .