الصفحة الرئيسية
ضرورة الفقه في حياة المسلم
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 4514
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم (كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدكم الموت، إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين). - البقرة 180 –
تتعرض هذه الآية الكريمة لمسألة مهمة من مسائل ديننا الإسلامي الحنيف وهي "الوصية" حيث توجب على المسلم السعي لكتابة وصيته قبل الموت تتضمن ما يريد هذا الإنسان أن يُفعَل من أجله بعد الموت، أو ما يريد إعطاءه للآخرين كذلك.
ولا شك أن الهدف الأساس من الوصية هو السعي لإبراء الذمة أمام الله أولاً، لأن الكثير من الناس قد يكونون ممن تركوا بعض واجباتهم الشرعية أثناء حياتهم من صلاة أو صيام أو حج أو حقوق شرعية أو غير ذلك كديون للناس عليه أو أمانات عنده لهم.
وبالجملة فالوصية مطلوبة من المسلم في كل الحالات لكي يضمن هذا الإنسان أن هناك من سوف يعمل على تنفيذها بعد موته حتى لا يبقى في ذمته حقوق لله تعالى أو للناس أيضاً.
وقد ورد التأكيد على العمل بالوصية وأن لا يموت المسلم من دون أن يترك وصية لمن بعده، ومن الأحاديث الدالة على ذلك:
1- ( الوصية حق على كل مسلم ). رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
2- ( المحروم من حُرِم الوصية ). رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
3- ( ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت ليلة إلا ووصيته تحت رأسه ). رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
وسبب التأكيد على الوصية كما نرى هو أن قضية الحياة والموت ليست بيد الإنسان لأنه مقهور للإرادة الإلهية التي لا راد لقضائها إذا وقع، كما قال الله عز وجل :(وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري بأي أرض تموت)، أو كما قال سبحانه وتعالى :(فإذا جاء أجلهم فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون)، وعليه فإذا وقعت مصيبة الموت بالمسلم من دون أن يكون قد أوصى وعليه حقوق لله أو للناس، فسوف يحاسب أمام الله أولاً عن تفريطه في حق الله، لأن الآخرين قد لا يعرفون ماذا على الميت غير الموصي من حقوق لله، وسوف يكون مطالباً بحقوق الناس الذين قد تضيع حقوقهم عند ورثته لأنهم قد لا يعلمون بها، خصوصاً مع عدم أدلة وإثباتات تضمن حقوقهم. ولذا ورد عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) قوله :( من مات على وصية مات على سبيل وسنة، ومات على تقى وشهادة، ومات مغفوراً له) والسبب هو أنه بوصيته لم يترك شيئاً مما يمكن أن يُطالب به يوم القيامة من ربه أو من الناس إلا وقد سجله لكي ينام في قبره ويُحاسب يوم القيامة وليس لأحد حق عليه.
مضافاً الى ذكر حقوق الله والناس لا بد أن يراعي الموصي وضع أرحامه وأقاربه الذين يرثون من أمواله المنقولة وغير المتقولة بنص القرآن الكريم كالأبناء والآباء والزوجة والأخوة والأجداد والأعمام والأخوال على الترتيب الشرعي المعروف في الفقه الإسلامي، فعليه أن لا يحرمهم من حقوقهم الثابتة، وأفضل أسلوب في الوصية في حق الأقارب والأهل أن يعتمد الموصي ما قرره الله في القرآن من حصص وأسهم في ميراث المتوفي وأن يعطي لكل واحد حقه كما ثبت في القرآن، فلا يفضّل فرداً على فرد، كولد على ولد آخر، أو أن يفضِّل البنين على البنات كما هو الشائع في بعض أوساط المسلمين، حيث يوصون للذكر بكل ميراثهم أو بأغلبه على حساب البنات لاعتبارات عرفية وإجتماعية كما في بعض المناطق حيث لا يورثون البنات لأنهن قد يتزوجن من غير أرحامهن مما يعني بالتالي أن جزءاً من مال المتوفي سوف يذهب الى خارج إطار الأقارب، فمثل هذه النظرة خاطئة جداً ولا تلتقي مع الشريعة الإسلامية في طريقة تعاملها مع الناس، حيث أن الجميع هم عبيد الله ومتساوون أمامه في الحقوق والواجبات، يضاف الى ذلك أن أسلوب حرمان الفتيات من الميراث سوف يؤدي الى نوع من الخلاف والشقاق والتباعد بين الأرحام والأقارب، وهذا أيضاً بعيد عن ذوق الشريعة الإسلامية التي تريد من الناس أن يتزايد التلاحم والتقارب وأن تشيع المودة بينهم لصالح الجميع.
من هنا نقول إن كل من يوصي فليعمل على إعطاء الحقوق من ماله بالوصية بعد الموت كما حكى القرآن وقسَّم الميراث بين الأرحام أو غيرهم فهذا أفضل، كما أنه يؤدي الى أن يترحم الوارثون جميعاً على ذلك الموصي الميت الذي لم يحرم أحداً من حقه الشرعي، ولذا ورد النهي عن الحيف "الظلم" في الوصية بحق من لهم نصيب من الميراث، ومن الروايات الدالة على ذلك المعنى:
1- ( الإضرار بالوصية من الكبائر ) – رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
2- ( الحيف في الوصية من الكبائر) – رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
3- ( قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل توفى وأوصى بماله كله أو أكثره، فقال له: الوصية تُرَدُّ الى المعروف غير المنكر، فمن ظلم نفسه وأتى في وصيته المنكر والحيف فإنها ترد الى معروف، ويترك لأهل الميراث ميراثهم ) – الإمام الباقر(عليه السلام) .
نعم لا بد من الإشارة الى أن الإسلام ترك للموصي جزءاً من أمواله ليتصرف فيها عن نفسه أو عن غيره بعد موته وهو "ثلث امواله" والسبب في ذلك هو ما قلناه من أن المسلم قد يكون قد ترك بعض واجباته تجاه ربه أو عليه حقوق تجاه الناس، فسمح الإسلام لأتباعه التصرف في ثلث أموالهم بعد الموت لكي ينفذ المطالَب بتنفيذ الوصية ما أوصى به الموصي الميت من أجل تدارك ما فاته القيام به حال حياته تجاه ربه والناس، لأن الإسلام لا يريد للناس أن يدخلوا النار من خلال عدم السماح لهم بالتصرف في بعض مالهم لمصلحتهم بعد الموت إذا كان عليهم ما يطالَبون به يوم القيامة، فالله رحيم بعباده ولا يريد لهم إلا الخير ودخول الجنة ليتنعموا بها لأنه خلقها من أجلهم ليعيشوا فيها حياة كلها سعادة وهناء نتيجة التزامهم في الدنيا، فهذا الثلث إذن هو من قبيل منح المقصِّر حال الدنيا فرصة التدارك ولو بعد الموت حتى لا يبقى عليه شيء يكون حجة عليه عند ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولذا جاء في الحديث ( إن الله عز وجل أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم )- رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) .
وأفضل الوصية هي أن يكون الإنسان وصياً على نفسه حال حياته بمعنى أن يسعى المسلم لإبراء ذمته من حقوق الله والناس حال كونه حيَّاً طالما هو مستطيع لذلك، لأن الذي يماطل ويمهل ثم يدركه الموت قد لا يكون من يأتي بعده ممن يقدِّرون هذه المسائل فيهملها ويكون العقاب على الموصي الذي قصَّر في حق نفسه حال حياته، ولذا جاء في الروايات عن هذا ما يلي:
1- ( يا ابن آدم كن وصي نفسك في مالك، واعمل فيه ما تؤثر أن يُعمل فيه من بعدك) – أمير المؤمنين (عليه السلام).
2- عن عنبسة العابد: قال : (قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): أوصني؟ قال (عليه السلام): أعدَّ جهازك، وقدِّم زادك، وكن وصي نفسك، لا تقل لغيرك يبعث إليك ما يصلحك).
ومن الأمور المهمة في باب الوصية هي ان المسلم قبل أن يبدأبذكر حقوق الله والناس وغير ذلك، أن يحسن كتابة وصيته كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك، بمعنى أن يبدأ المسلم وصيته بالإقرار بواحدانية الله عز وجل وبالنبوة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبالإمامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأبنائه (عليهم السلام) والاعتراف بالمعاد والأنبياء(عليهم السلام) وبأن الجنة حق والنار حق وكل المسائل الإعتقادية التي تؤكد إسلام المسلم وتمسكه بهذا الدين الحنيف، وأن يطلب من الله الرحمة لنفسه والمغفرة لذنوبه وأن يجنبه حر النار، وأن يسكنه الفسيح من جنانه، وأن يرزقه شفاعة حبيبه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وآله الطاهرين عليهم السلام أجمعين.
وهذا النوع من كتابة الوصية هو الذي قال عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) للإمام علي (عليه السلام) ( تعلَّمها أنت وعلِّمها أهل بيتك وشيعتك، قال (عليهم السلام): وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): علَّمنيها جبرائيل ).
ولا شك أن الوصية ينبغي أن تكون مورد الإهتمام الدائم للمسلم لأن الكثير من المتغيرات قد تحصل بعد كتابة الوصية كما لو كان عليه واجبات لله فقضاها حال حياته فيمكن عندئذٍ إلغاؤها من الوصية، أو زادت له ديون عند الناس أو زادت ديون للناس عليه أو قلَّت الأمانات أو زادت أو ما شابه ذلك، فعلى المسلم دائماً أن يلاحظ هذه الأمور في وصيته فيزيد فيها أو يَنقُص منها وفق الموارد والظروف، حتى لا يكون هناك ظلم لا في حق نفسه ولا في حق غيره من الأهل أو الناس الاخرين وما شابه.
بعد هذا، لا بد من ذكر بعض الإستفتاءات الموجهة الى سماحة القائد الإمام الخامنئي "دام ظله":
س – 761 – هل الوصية واجبة بحيث يأثم الإنسان بتركها؟
ج – لو كانت عنده ودائع أو أمانات للآخرين، أو كان عليه حقوق للناس أو لله تعالى ولم يتمكن من أدائها حال حياته، وجب عليه الإيصاء بها، وإلا فلا تجب الوصية.
س – 808 – أوصى رجل بجميع أمواله المنقولة وغير المنقولة لإبنه، وحرم بذلك ست بنات له من الإرث، فهل تكون هذه الوصية نافذة؟ وإذا لم تكن نافذة فكيف يتم التقسيم بين البنات الست وابن واحد؟
ج – لا مانع من صحة الوصية المذكورة في الجملة، لكنها تنفذ في مقدار ثلث مجموع التركة فقط، وتبقى في الزائد على الثلث موقوفة على إجازة جميع الورثة فإن امتنعت البنات من اجازتها كان لكل واحدة منهن من ثلثي التركة نصيبها من الإرث، وعلى هذا تُقسَّم تركة الأب الى أربعة وعشرين قسماً، يكون سهم الإبن من ذلك من باب الثلث الموصى به 8/24 ونصيبه من إرث الثلثين الباقيين هو 4/24 ويكون لهم كل واحدة من البنات 2 /24 ، وبعبارة أخرى يكون نصف مجموع التركة متعلقاً بالإبن، ويقسَّم النصف الآخر على البنات الست.
والحمد لله رب العالمين.