الصفحة الرئيسية
الإنجاب والتربية
- 16 كانون2/يناير 2014
- الزيارات: 2351
يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً} – النساء – 1 -. تشير هذه الآية بوضوحٍ إلى أنّ الهدف من الزواج هو "الإنجاب" الضّامن الأساس لاستمرار الوجود الإنساني على هذه الأرض لتحقيق معنى الخلافة الإلهيّة مع كل جيلٍ من أجيال البشر. ولذا نجد أنّ كلّ من يتزوّج يضع نُصب عينيه في الدرجة الأولى أن يُرزق بأولاد، وإذا تبيّن للزوج أو للزوجة عدم القدرة على الإنجاب نرى أنّ هؤلاء يعمدون إلى الرجوع للأطباء المختصّين من أجل علاج هذا المرض، بل قد نجد أحياناً أنّ بعض المتزوجين قد يصلون إلى حالة الإنفصال في العلاقة بينهما نتيجة هذا الأمر، وذلك لأنّ كلّ إنسانٍ رجلاً كان أو إمرأة لديه عاطفةً قويّةً تجاه مشاعر الأبوّة أو الأمومة المزروعة في عمق النّفس الإنسانيّة ويرى في تحقّق هذا العنوان تحقّقاً لذاته واستمراراً لوجوده، ولأنّ وجود الأبناء يعطي للحياة الزوجيّة معنىً آخر وتوجّهاً آخر يزيل الرّتابة والجمود اللذين قد يسيطران عليها مع عدم وجودهم، مُضافاً إلى الأزمات النّفسية والعصبيّة التي يعيشها المتزوّجون غير القادرين على الإنجاب،
ولذا نجد أنّ المصابين بمرض العقم يلجأون في أحيانٍ كثيرةٍ إلى تبنّي أطفالٍ ليحققوا هذا الأمر وليشبعوا حاجتهم إلى عواطف الأبوّة والأمومة ولو عن هذا الطريق الذي لا يمكنه أن يحلّ محلّ الأبوّة أو الأمومة الحقيقيّة بشكلٍ كاملٍ، إلاّ أنّ غير القادرين على الإنجاب يرون في التبنّي تسليةً لهم وتعزيةً وتعويضاً عمّا فاتهم من القدرة على إنجاب الأبناء. من هنا نجد أنّ الإسلام عندما شجّع أتباعه على الزواج أكّد عليهم إختيار المرأة الولود القادرة على الإنجاب، لأنّ الإسلام يريد من خلال الزواج بناء الأسرة المسلمة، ومن خلال بناء الأسرة المسلمة يريد المجتمع المسلم الذي لا يمكن أن يتحقّق بدون سلوك هذا الأسلوب. لذا نجد في الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) التأكيد على تحقيق هذا الأمر كما في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (تزوجوا فإنّي مُكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة، حتى أنّ السقط يقف محبنطئاً_ العظيم البطن المنتفخ _ على باب الجنة فيقال له: أُدخل، فيقول: ( لا أدخل حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)، وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) :(لما لقي يوسف (عليه السلام) أخاه قال: كيف استطعت أن تتزوّج بعدي؟ فقال: إنّ أبي أمرني، فقال: (عليه السلام): إن استطعت أن يكون لك ذريةً تثقل الأرض بالتسبيح فافعل). ومن هنا نجد أنّ الإسلام طلب من الرجل عندما يبحث عن امرأةٍ أن يكون بحثه عن المرأة التي إذا ولدت كان الأولاد أصحّاء غالباً ومن الذين يؤمل فيهم الخير والصّلاح كما في الأحاديث التّالية: 1 –( تزوّجوا في الحجر الصالح، لأنّ العرق دسّاس)، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). 2 –( تخيّروا لنطفكم فانكحوا الأكفّاء، وانكحوا إليهم) ،رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). 3 – (تخيروا لنطفكم فإنّ النساء يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهنّ)، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). 4 – (تخيّروا لنطفكم، وانتخبوا المناكح، وعليكم بذوات الأوراك، فإنّهنّ أنجب)، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولأجل ذلك نرى أنّ الإسلام نهى عن تزوّج المجنونة أو الحمقاء حتى ولو كانت ذات مالٍ وجمال، وذلك لأنّ المُتّصفة بأحد هذين الوصفين لا تؤمّن على التربية للأبناء فيما لو أنجبت، فيكون إنجابها ضياعاً للأولاد لأنّها غير قادرة على تربيتهم التربية الإسلاميّة المطلوبة، وسيكونون كمن هم بلا أمٍّ ترعى وتصون وتهتمّ ولذا ورد في الأحاديث عندنا: (إيّاكم وتزوّج الحمقاء، فإنّ صحبتها ضياع، وولدها ضباع)، وكذلك ورد ما يشابهه عن المجنونة التي هي أشدّ حالاً- من ناحية العقل- من الحمقاء. ومن هنا نرى أنّ الإسلام يريد للزواج أن يكون السّبيل الصّالح لإنجاب الأولاد المهيّئين للتربية على يد الأهل المؤهّلين أيضاً للتربية، ولذا طلب من كل باحثٍ عن زوجةٍ أو باحثةٍ عن زوجٍ التفتيش عن الشريك اللائق من ناحية الإنجاب ومن ناحية القدرة على التربية. ولا شك أنّ إنجاب الأبناء هو الذي يوجب على الأهل "الأب والأم" تربيتهم والإعتناء بهم من كلّ النّواحي النّفسيّة والإيمانيّة والماديّة، وهذه المسؤولية هي كبيرةٌ جداً وثقيلةٌ أيضاً، وعلى كلٍّ من الأب والأم تحمُّلها بكلّ صدقٍ وأمانةٍ وإخلاص، لأنّ الولد هو جزءٌ من أبويه وقطعةٌ منهما وله حقوقٌ عليهما إلى أن يصل إلى المرحلة التي يستطيع فيها الإستقلال بنفسه وهي "سنّ البلوغ والرشد" في الحدّ الأدنى. ولا بدّ للتربية الصّحيحة والناجحة من أن تكون قائمةً على أسس قويةٍ ومتينة، وهذه لا يمكن تحقيقها من دون الرجوع إلى الأحاديث الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين أعطونا الكثير من الطّرق والوسائل التي نستعين بها على تحقيق مثل تلك التربية التي نضمن معها بشكلٍ مقبولٍ براءة الذّمة تجاه الأبناء، ويمكن القول إنّ أهم عناصر تربية الأبناء هي التّالية: أولاً: حبّ الأبناء، إذ ممّا لا شك فيه أنّ كلّ أبٍ وكلّ أمٍّ يعيشون الحبّ لأبنائهم، لكن قد لا يُبرز الآباء ذلك الحبّ لهم، لذا فالمطلوب من وجهة نظر الإسلام أن يسعى كلٌّ من الأبوين لإظهار حبّه لأبنائه من خلال الحنوِّ عليهم واحتضانهم وتقبيلهم وما شابه، وقد ورد في حديثٍ أنّ رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " ما قبَّلت صبيّاً قط"، فلما ولَّى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "هذا رجل عندي أنه من أهل النار"، وكما في حديثٍ آخر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبَّل الحسن والحسين (عليهما السلام)، فقال الأقرع بن حابس: "إنّ لي عشرة من الأبناء ما قبَّلت واحداً منهم، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):" ما عليّ إن نزع الله الرحمة من قلبك، من لم يرحم صغيرنا ولم يعزّز كبيرنا فليس منا". ومظاهر حبّ الولد لا تقتصر على التقبيل فقط، بل هي أوسع من ذلك بكثير، لكنّ التقبيل يحمل دلالةً خاصّةً حيث يزيد من القرب والوصال بين الولد وبين أبويه، لذا ينبغي أن يحرص الآباء كلّما أمكن على تقبيل أولادهم وضمّهم إليهم لإشعارهم بذلك الحبّ الأبوي والعاطفة الجيّاشة في صدر الأم لولدها، وهذا ما يؤدّي إلى انعكاس ذلك ثقةً من الولد بأبويه واطمئناناً وركوناً إليهما أيضاً. ثانياً: التصابي مع الصبي، ومعنى هذا أنّ على الأبوين أن يُشعرا إبنهما بقربهما منه، وعندما يُنزل الأب نفسه إلى مرتبة ولده فيلاعبه ويمازحه ويلاطفه، وعندما تفعل الأم ذلك أيضاً، فهذا أيضاً يؤدّي إلى قوّة العلاقة ومتانتها واستحكامها في قلب كُلٍّ من الولد وأبويه، إذ لا بد أن يشعر الولد مع ذلك التّصابي بقربه من أبويه، ويشعر بسعادةٍ بالغةٍ لا توصف كما هو المشاهَد بالعيان عندما يلاعب الأب أبناءه أو عندما تفعل الأم ذلك، ولذا ورد في مجموعةٍ مهمةٍ من الأحاديث هذا الأمر، مثل: (من كان عنده صبي فليتصاب له)، أو (من كان له صبي فليتصاب له). وقد ورد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتصابى للإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) كما في الرواية عن جابر الأنصاري أنّه قال: (دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والحسن والحسين (عليهما السلام) على ظهره وهو يجثو لهما ويقول "نِعمَ الجمل جملكما، ونِعمَ العدلان أنتما). فإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من هو في موقعه الرساليِّ العظيم وهو من هو في قربه من الله تعالى يفعل هذا مع حفيديه، فالأحرى بالمؤمنين بهذا النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأهل بيته (عليهم السلام) أن يفعلوا هذا الفعل مع أولادهم وأحفادهم لما في هذا الفعل من سعادةٍ يشعر بها الطفل وشعور جميل يغمره أثناء هذا التصابي الذي يمارسه الأب من موقعه والأم من موقعها، ولا شكّ أنّ سعادة الأبناء وفرحهم تغمر قلوب الأهل بالرضا والسعادة أيضاً، لأنّ فرح الولد فرحٌ لأبويه وتعاسته تعاسةٌ لهما ايضاً. ثالثاً: العدل بين الأبناء، إنّ الكثير من المتزوّجين يُرزقون عادةً بالعديد من الأبناء ذكوراً أو إناثاً أو من الجنسين معاً، والإسلام في هذه الحالة يطالب الأبوين بالعدالة والمساواة في التعامل معهم، فلا يُفضّلون الذكر على الأنثى، ولا الذكر على الذكر، ولا الأنثى على الأنثى، لأنّ الجميع هم أبناء وفي مرتبةٍ واحدة، وهذا معناه أن يساوي الأهل في المعاملة بين الجميع لما في المساواة من العدالة أولاً ومن تقويةٍ لأواصر العلاقة بين الأبناء والآباء ثانياً، ولما في المساواة من إشاعةٍ لأجواء الثّقة والإطمئنان عند الجميع ثالثاً، والمساواة تؤدّي إلى تهيئة الأجواء لكي يستمع الأبناء جميعاً إلى إرشادات الأهل ونصائحهم وتربيتهم، لأنّ تفضيل بعض الأبناء على بعض قد يؤدّي إلى سلبياتٍ في العلاقة ما بين الأبناء أنفسهم، وما بين الأبناء غير المفضّلين مع آبائهم، ممّا يؤسّس لعلاقةٍ غير سليمةٍ وقد تؤدّي إلى فقدان الثّقة بين الطّرفين أو إلى خلافاتٍ فيما بين الأبناء. لذا ورد في الأحاديث العديد ممّا يؤكّد على العدالة حتّى في التّقبيل كما في الحديث التالي: (أبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً له ولدان فقبَّل أحدهما وترك الآخر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فهلا واسيت بينهما؟!)، أو كما في الحديث الآخر: (إتقوا الله واعدلوا في أولادكم)، أو (إنّ لهم عليك من الحقّ أن تعدل بينهم كما أنّ لك عليهم من الحقّ أن يبرّوك). وعلى افتراض عدم المساواة في المعاملة، فإنّ ذلك ينبغي أن يكون لصالح الفتاة، لأنّها بحاجةٍ أكثر إلى الحنان والعطف والرعاية من الصّبي، لا كما هو المتعارف عند الكثير من أوساطنا حيث يفضّلون الصّبي على البنت، مع أنّ الإسلام يحبّ العكس في هذا المجال كما في الحديث التالي: (ساووا بين أولادكم في العطيّة، فلو كنت مُفضّلاً أحداً لفضّلت النساء) وهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). رابعاً: الدلالة على ربهم وخالقهم، وهنا تكون المسؤوليّة الأكبر للأهل، وهي أولى من مسؤوليّة تربية الأبناء وتأمين إحتياجاتهم من المأكل والمشرب والملبس والمسكن والتّعليم وما سوى ذلك، لأنّ إهمال هذا الجانب الإيمانيّ من عناصر التربية تجعل الأولاد مهيّئين لدخول الفساد والإنحراف عن الصّراط المستقيم. لذا جعل الإسلام تربية الولد من الناحية الإيمانية بمعنى ربطه بخالقه وتعويده على فعل الطاعات والعبادات والأخذ بيده من هذه الجهة حقّاً أساسيّاً من حقوق الأبناء عند الآباء كما في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :(... وحق الولد على الوالد أن يحسِّن إسمه، ويحسِّن أدبه، ويعلّمه القرآن)، أو كما في الحديث الآخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :(أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن)، أو كما في حديثٍ آخر أيضاً: (علّموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعاً، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً، وفرّقوا بينهم في المضاجع). ولا شكّ أنّ تربية الأولاد على هذه الطّريقة السويّة تُبعدهم عن التأثُّر بالأجواء الفاسدة وعن الإنجرار وراء الدّعوات الباطلة، ولذا ورد في الأحاديث ما يشيرإلى ضرورة المبادرة إلى التّربية الصّحيحة وعدم ترك الأبناء بحجة أنّهم ما زالوا صغاراً أو غير قادرين على فهم مثل هذه الأمور، لأنّ تركهم سيجعلهم لقمةً سائغةً بيد الآخرين من المنحرفين وغيرهم ممّن تاهوا وضلّوا في هذه الدنيا، ومن تلك الأحاديث: (بادروا أولادكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة) ،أو :(علموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة). والأجر الإلهيّ للأبوين اللذين يُعلّمان أبناءهما على الإرتباط بالله منذ الصغر هو أجرٌ عظيمٌ وكبيرٌ كما ورد في الأحاديث من أنّ الجنّة هي ثواب الأبوين اللذين يُعلّمان ولدهما القرآن والدلالة على ربّه عز ّوجلّ، وهذا ليس على الله بكثير، لأنّ الأبوين عندما يلتزمان تربية أبنائهما التربية الصالحة فهما شريكان لهم في كل خير يفعلونه من جهة الأجر والثواب. وختاماً نسأل الله عزّ وجلّ أن يعين الآباء والأمهات على تحمُّل مسؤولية التربية الإسلامية الصّحيحة لأبنائهم، لأنّ مثل هذه التربية الصالحة هي التي تقطع دابر الفساد من حياة الأمّة الإسلامية. والحمد لله رب العالمين.