الجمعة, 22 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الصفحة الرئيسية

غربة الأنبياء

sample imgage

قال الله تعالى في محكم كتابه: ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبيّاً إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً ، يا أبت لا تعبد الشيطان إنّ الشيطان كان للرحمن عصياً ) .

تتعرض هذه الآيات لبيان بعض من قصة خليل الله إبراهيم (عليه السلام) مع أبيه ، حيث تبدأ بوصف إبراهيم (عليه السلام) بالصدّيق الذي يعني من يبالغ في الصدق أو أنه كان كثير الانحياز للحق ويصدقه بقوله وفعله ، و" النبي " الذي يعني من عنده نبأ الغيب بوحي من الله أو النبوة بمعنى الرفعة لعلو قدره.

ثم تنتقل الآيات لتحدثنا عن الكلام الذي قاله إبراهيم (عليه السلام) لأبيه في معرض توجيهه نحو فساد العقيدة التي هو عليها ، مستنكراً عليه أولاً أنه كيف يعبد إلهاً لا يسمع ولا يبصر ولا يستطيع أن يقدم للإنسان أية مصلحة ولا يدفع عنه أية مفسدة ، مع أن من يكون في موقع الربوبية عليه أن يكون قادراً على ذلك، ومن جهة أخرى الرب هو من تخضع له الناس، والخضوع فعل يحتاج إلى من يشعر به من جهة المخضوع له والأصنام لجمادها وعدم كونها عاقلة لا يمكنها أن تتفاعل مع من تخضع لها ، وهذان الأمران أنفع دليل على فساد عبادة الأصنام .

 

بعد هذا ينتقل إبراهيم (عليه السلام) إلى بيان الحق فيقول بأنه قد جاءني من العلم ما أتمكن به من الوصول إلى الحقيقة لهذا الكون ، وما عليك إلا أن تسلك وتتبع طريقي الذي لا ضلال فيه للسالكين ، ولا تلتفت إلى أي طريق آخر لأنه عبارة عن سلوك خط الشيطان وهو الذي أنت عليه فعلاً ، مع أن الشيطان منحرف عن الصراط ومبتعد عن الهدى ووظيفته هي إضلال البشرية وإبعادها لأنه لا يريد أن يرى الناس أفضل منه من خلال التزامهم بخط الله والسير في طريقه .

من خلال الجو الذي توحي به هذه الآيات نستنبط أمرين مهمين لا بد من الالتفات إليهما:

الأمر الأول: وضوح الرؤيا والهدف والمسار عند إبراهيم (عليه السلام) بما استقر عليه قلبه من الإيمان نتيجة العلم الذي جاءه وهو الدلائل البيّنة والواضحة على وجود الله والإيمان به ، ثم الإيحاء إليه بالنبوة كتتويج لذلك.

الامر الثاني: الغربة التي كان يعيشها إبراهيم (عليه السلام) والمعاناة التي كان يتكبدها والتي تتضح من استنكاره على مخاطبه للطريقة التي هو عليها وقومه المليئة بكل ما يفرح قلب الشيطان ويوصله إلى هدفه .

وهذان الأمران والثاني منهما بالخصوص هو الذي لخص الكلام فيه ، إذ إن الوضوح يلعب دوراً في عملية تحريك الإنسان نحو السعي والعمل لإبراز ذلك في محيطه ومجتمعه ، فقد يلقى التجاوب تارة والصد والمنع أخرى ، والتجاوب قد يؤدي كما هو الملاحظ غالباً إلى تفعيل الحركة أكثر ، بينما الصد قد يلعب دوراً سلبياً في الغالب ، فيقعد الإنسان حينها عن الدعوة والهداية إلى ما يؤمن به .

وما نريد أن نصل إليه أن المؤمن عندما ينطلق من وضوح الرؤيا والهدف وتحديد المسار الصحيح لا ينبغي عليه أن يعيش حالات اليأس والخضوع للواقع القائم ، كما أنه ليس عليه أن يعيش حالات الاغترار عندما يرى طريقه سالكاً في أوساط الناس والمجتمع ، وعليه أن يبقى ملتزماً بكل ما هو عليه ودراسة أفضل السبل والوسائل للوصول إلى الأسلوب الأنجح لتحقيق أهدافه ، لكن من دون أن يكون كل ذلك وسيلة للتراضي أو التراجع ، لأن المطلوب هو امتثال التكليف الإلهي بالعمل ، أما التوفيق وعدمه فمرتبط بالعديد من القضايا التي قد لا يملك الإنسان سبل حلها بسرعة.

ولهذا نجد أن أكثرية الأنبياء (عليهم السلام) عاشوا الغربة مع أممهم وشعوبهم نتيجة الانحرافات وعدم استماع أولئك إليهم ، إلا أن كل ذلك لم يؤدّ بهم للرضوخ أو الهروب من تحمل مسؤولية أنفسهم ومسؤولية التبليغ للناس ، وأبلغ وصف لذلك هو ما قاله القرآن عن نوح (عليه السلام) :( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ).

من هذا كله نقول إن المرتبطين بالله عز وجل الملتزمين بخطه ونهجه ، عليهم أن يعيشوا وضوح الرؤيا والأهداف ، وعليهم أن يمارسوا فعل تبليغ الدعوة والاستنكار على كل مظاهر الانحراف في محاولات متعددة ومتكررة من أجل الوصول إلى المأمول ، وإن حال الغربة التي يعيشونها بين شعوب تخالفهم في الرأي والتوجه ينبغي أن لا تسقطهم ، والضغوطات بمختلف أنواعها ينبغي أن لا ترهبهم ، لأنها لن تكون أشد من نار إبراهيم (عليه السلام) التي تحولت بقوة الله وتوكل عبده عليه إلى بر وسلام واطمئنان ، و تكون فترة الجهاد أطول من الفترة التي قضاها نوح (عليه السلام) مع قومه .

نسأل الله الثبات في خطه والعمل من أجل إعلاء كلمته والنجاة يوم القيامة بين يديه إنه سميع مجيب.