الصفحة الرئيسية
الإعلان التجاري في الإسلام حدوده وموارده
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 2872
من الواضح جداً في عالمنا اليوم أنّ الإعلانات التجارية أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من الحركة الإقتصادية العامّة التي تدخل في النسيج اليومي لحياة البشر، والميزانية المرصودة لهذا النوع من التجارة قد
صارت رقماً كبيراً لا يُستهان به من مجمل الحركة التجارية، كما أنّ الإعلان التجاري قد توسّع إطاره بحيث أنّ ترويج أيّة سلعة مهما كانت من جهة النوعية أو الجودة أو المصدر أو الكمية قد صار
مرتبطاً بالإعلان إلى الحدّ الذي لا يتمكّن أيّ تاجرٍ من التسويق لتجارته بدون سلوك هذه الوسيلة، كما أنّ كلّ شركات الإعلانات العالمية منها أو المحليّة توظّف إمكانات كبيرة على المستوى التقني
والفني والمالي والإعلامي وتستعين بدراساتٍ لعلماء النفس والإجتماع عن أفضل السبل وأكثرها تأثيراً في الناس وأسرعها ترويجاً للسلع.
وبالجملة فإنّ الإعلان التجاري قد صار من ضرورات السوق الإستهلاكيّة على امتداد رقعة الكرة الأرضية وأصبح ضرورة لا يُستغنى عنها لأنّه أضحى بمنزلة المرشد والدليل والكاشف عن كلّ
المنتوجات الجديدة في الأسواق الإستهلاكية سواء كان بعضها محلّ اهتمام سائر الناس أو فئاتٍ محدّدة منهم.
ومُضافاً إلى الفائدة الأساسية للإعلان التجاري وهو الترويج للسلع ذات الطابع الإستهلاكي العام أو الخاص هو كاشف عن نوعية الثقافة والحضارة التي تنتجه، ولذا نرى الإختلاف الكبير في
صنع الإعلانات بين أهل الثقافات، فالبعض من شركات الإعلانات لا تضع سقفاً معيّناً من الضوابط الأخلاقية أو السلوكية، فضلاً عن الضوابط الدينية والإجتماعية، وتجنح في إعلاناتها إلى الحدّ الذي
تشتغل فيه كلّ عناصر الإثارة والإغراء من جهة، أو تروّج لسلعٍ ذات أضرارٍ بالغة على الحياة الإجتماعية العامة كالمحرّمات من قبيل الخمر وسائر المشروبات الكحولية، أو تروّج للسلعة بطريقةٍ فيها
الكثير من الإسفاف والإبتذال وإظهار الأجيال الصغيرة منها والكبيرة على حدٍّ سواء بطريقةٍ تتنافى مع القيم الإنسانية بحيث يظهر الناس من خلال الإعلان وكأنّهم يعيشون الحياة لهواً ولعباً وعبثاً من
دون هدفٍ أو غاية يسعون إليها، وأنّ التحليل والإنفلات هو النمط الذي ينبغي للناس أن يعيشوه.
ونرى شركات إعلان أخرى تنطلق من مقاييس إجتماعية أو تنطلق من حالة تجذّر لعادات وتقاليد معيّنة لا تتجاوزها احتراماً لمشاعر الناس وعدم إهانة ما يقدّسه الناس من معتقدات وغير ذلك،
أو نرى شركات إعلان أخرى تنطلق في عملها من عقيدتها الدينية التي لها حدود وضوابط ومقاييس لا تسمح لها بالترويج لأمور محرّمة أو لقضايا تعتبر انتهاكاً للسلوك الإجتماعي والأخلاقي العام
وما شابه ذلك.
من هنا كان لا بدّ من التوقّف عند هذه المسألة لكي ننظر فيها ونرى ما هو الموقف الشرعي الإسلامي من الإعلان التجاري بذاته وبنفسه، ثمّ ما هي الضوابط الشرعية لهذا الإعلان من الجواز
والحرمة، ثمّ ما هي الحدود الإجتماعية التي ينبغي أن يتوقّف الإعلان عندها فلا يتجاوزها في عقيدة هادفة ومجتمع ملتزم هادف، ثمّ نتطرّق إلى ذكر نماذج تطبيقية عن الإعلانات التجارية لكي نحدّد
الضوابط عملياً ونوضح الآثار السلبية أو الإيجابية وفق المنظور الثقافي والفكري والأخلاقي.
قبل كلّ شيء لا بدّ من القول أنّ الإعلان التجاري بذاته ممّا لا مانع منه شرعاً وفق طرق الكسب المشروعة والمقرّرة في الإسلام، هو بنفسه عملٌ محترم له قيمة ذاتية وهذا ينتج بالتالي أنّ له قيمة
مالية، ويترتّب على ذلك جواز التكسّب من هذا العمل بلا حرجٍ أو إشكال، والمنشأ الأساس لحلية التكسّب بالإعلان التجاري هو وجود المنفعة المحلّلة المقصودة للناس والتي تتنافس للحصول عليها
لأغراض الترويج عن السلع وجذب المستهلكين لها، والمعاملة أي "العقد" الموقّع بين المعلِن والمروّج للسلعة صحيح من الناحية الشرعية ومُلزم للفريقين بمعنى أن يعمل كلّ منهما بمقتضى ما يُلزمه
العقد الواقع بينهما، فالمروّج للسلعة أو المنتج لها يدفع للمعلن القيمة المتّفق عليها، والمُعلن يصنع الإعلان بالمواصفات المتضمّنة في العقد، وتجري في معاملة الإعلان "أصالة اللزوم" في العقد ما لم
يحصل إخلال بالشروط والضوابط في مثل هذه المعاملة وفق القوانين المعمول بها أو العرف السائد بين أهل هذا النوع من النشاط المالي والتجاري.
بعد بيان أصل حلية التكسّب بالإعلان التجاري لا بدّ من بيان الضوابط الشرعية للإعلان من وجهة نظر الإسلام، والشروط هي التالية:
أولاً- الصدق: بمعنى أن يلتزم كلّ من المروّج للسلعة والمُعلِن عنها بالحديث عن واقع السلعة من حيث المواصفات والجودة وما يدخل في تركيبها حال الصنع ومن حيث بيان السعر الحقيقي للسلعة وغير
ذلك من التفاصيل التي لها دخالة في ترويج السلعة، وهذا الشرط لا بدّ منه وإلاّ لكان للمشتري فيما لو اشترى ثمّ وجد السلعة على خلاف المواصفات حقّ فسخ شراء السلعة واسترداد الثمن إذا انطبقت
الأسباب الشرعية المجوّزة للفسخ كالغبن أو العيب أو مخالفة الوصف وما شابه ذلك، فضلاً عن أنّ الكذب حرام بذاته في هذا المجال كما في غيره، وهذا ما نراه كثيراً من المروّجين والمعلنين الذين لا
شغل لهم سوى الترويج للسلعة بأيّة طريقة تجذب الناس وهذا ما يدفع بهم في مواضع متعدّدة إلى جعل الكذب وسيلة من الوسائل للترغيب والتسويق.
ثانياً- عدم كون السلعة محرّمة في الإسلام: في النظام العام للكسب في الإسلام هناك ضوابط تمنع المسلم من التكسّب بالأمور المحرّمة كالخمر والخنزير والغناء وما شابه ذلك، فكذلك لا يجوز التكسّب
بالإعلان الذي يُراد منه ترويج تلك المحرّمات، ويكون عقد الإعلان باطلاً وبالتالي يكون الكسب الناتج عنه غير مشروع وحراماً أيضاً، ويدخل في الكسب المحرّم هنا ما كان قابلاً لأن يكون حلالاً، إلاّ
أنّ شروط الحليّة لم تحصل كالإعلان عن اللحوم غير المذكّاة شرعاً والتي لا يجوز الترويج والإعلان عنها للأكل، وإن جاز الإعلان عنها فيما لو تحوّلت إلى غذاءٍ لغير الإنسان أو لاستعمالاتٍ أخرى لا
ربط لها بجهة التحريم الشرعية، ومن هذا القبيل أيضاً الإعلان عن حفلات الغناء أو الموسيقى في جانبهما التحريمي، بينما يجوز الإعلان عنهما في جانبهما المحلّل شرعاً، وكذلك لا يجوز التكسّب في
الإعلانات التجارية المرتكزة على استغلال المرأة والكشف عن مفاتنها الأنثوية وفق الجاري في العالم حالياً بطريقةٍ مهينة وشنيعة ومبتذلة تخرج المرأة من حالتها الإنسانية الراقية كأمٍ وزوجة إلى
حالةٍ من الإغراء الشهواني وإثارة الغرائز عند الإنسان، بل وصل الأمر باستغلال المرأة إلى الحدّ لو أريد الترويج لصنف من إطارات السيارات أن يتمّ وضع أنثى بجواره بطريقةٍ غير لائقة بمكانة المرأة
من أجل تسويقه، فمثل هذا التكسّب مُضافاً إلى أنّه حرام فيه دعوة صريحة إلى التحلّل من كلّ الضوابط الأخلاقية والسلوكية وتؤدّي إلى كوارث ومفاسد على مستوى الحياة الإجتماعية العامّة.
ثالثاً- الإعلانات الداخلة في عنوان إشاعة الفحشاء والمنكر: كمثل الإعلانات التي تستعمل تعابير قد لا تدخل في باب الحرمة الشرعية مباشرة، لكنّها تحمل إيحاءات تشير إلى نوعٍ من الميوعة
والإبتذال، لأنّ الإعلان لا ينبغي أن يقتصر على الترويج لا غير، بل ينبغي أن يراعي الجو الأخلاقي العام والسلوك الإجتماعي المتّزن حتى لا يتغلغل تأثير الإعلان من هذا القبيل في أوساط الناس
ويصبح نوعاً من التثقيف غير المباشر للناس يؤدّي بهم إلى أساليب في التعبير تتنافى مع الكرامة والأخلاق والعفّة والإنضباط، وكذلك الحال في الإعلان المشتمل على التعابير المثيرة للشهوات أو
الخارجة عن الآداب العامّة كالألفاظ "السوقية" ـ إن صحّ التعبير ـ الدارجة بين المتحلّلين وغير المنضبطين من الناس، ويدخل في هذا المجال الإعلان عن المسرحيات الماجنة مثلاً أو الأفلام من هذا النوع.
رابعاً- الحدود التي يقرّرها ولي الأمر: وهذا الشرط يتحقّق كما في حالات وجود نوعٍ من الحرب بين المسلمين وغيرهم أو في حالات التوتّر أو في حالات ما لو أرادت الدول غير الإسلامية ممارسة نوع
من التضبيق على المسلمين ودولهم فهنا يمكن لولي الأمر إصدار قرارات ولائية ملزمة تفيد مثلاً بتحريم شراء بضائع تلك الدول ومنتوجاتها ردّاً على اعتداءاتهم أو ما شابه ذلك، أو أنّ الولي رأى مصلحة
في منع الترويج لسلعةٍ بعد توضيح أبعادها له من خلال الخبراء وأهل الرأي خصوصاً في أبعادها السلبية، ففي مثل هذه الحالات الإستثنائية الطارئة التي قد تستثمر طويلاً أو بحسب الظروف
والأوضاع التي فرضت ذلك.
وإذا أردنا أن نعطي نماذج واقعية ممّا نراه سوف نجد الكثير الكثير ممّا يخالف هذه الضوابط والحدود والشروط التي ذكرناها، سواء في إعلانات الخمور والمسكرات أو المنتوجات الأخرى المحرّمة
شرعا، أو كما في الإعلانات عن الأزياء للألبسة العادية منها والداخلية والتي فيها الكثير من العري الفاضح والإستهتار بالقيم الإجتماعية والأخلاقية أو كما في الإعلانات الموصية بممارسة الأعمال
الجنسية أو الإعلانات المتضمّنة للغناء المحرّم أو فيها نوع من الموسيقى الصاخبة الماجنة المتعارفة عند أهل المجتمعات المنفلتة من الضوابط عموما، أو الإعلانات المتضمّنة حالات من الإختلاط في
موارده المحرّمة شرعا والداعية إلى الفسق والفجور وما شابه ذلك من التسكّع على شواطئ البحار وفي المنتزهات العامة بطريقةٍ منافية للذوق والحشمة.
وممّا لا يخفى أنّ هذه الأمثلة من الإعلانات المنحرفة تؤدّي جميعا إلى إنتاج نوعٍ جديد من الثقافة قد ينتج عنها انحرافٌ للمجتمع الملتزم عن مساره وإلقائه في متاهات يصعب الخروج منها، وتؤدّي
إلى ضياع أجيال الحاضر والمستقبل، وتجعل بين الناس وثقافتهم الأصلية حواجز وموانع لا يعودون قادرين منها على الرجوع إلى حالة الصفاء والنقاء والإنطلاق من أصالتهم كما نرى ذلك واضحا
وجليا عند الكثير من أبناء الأمّة الإسلامية المتأثّرين بهذه الأجواء والسائرين في ركابها على غير هدى أو بصيرة أو تعقّل.
ممّا سبق كلّه تبرز الحاجة الماسّة إلى إعادة إنتاج صياغة للإعلان التجاري تتوافق مع الأصالة وتجعل الإنسان قريبا من منطلقاته بل متّحدا معها، بحيث تنعكس في الإعلان الضوابط الشرعية، فلا
يعود الإعلان من حيث ما يعرضه في مكان، والناس في مكانٍ آخر بعيداً عن واقعهم، وهذا الأمر لا صعوبة فيه بذلك المستوى الذي قد نتوهّمه، وما عندنا من تجربة إلى الآن تثبت أنّنا قادرون على
صناعة الإعلان الملتزم بالضوابط الإجتماعية والأخلاقية من جهة، وبالشروط الشرعية من جهةٍ أخرى، ومن خلال استعمال أغلب ما يستعمله المعلنون لكن في النواحي الإيجابية التي لا تتضمّن السلبيات
الموجودة عند الآخرين الذين لا همّ إلاّ الربح المادي والكسب ولو من غير الطرق والوسائل المشروعة.
وبعبارةٍ مختصرة نقول: ( إنّ علينا أن نصنع الإعلان القادر على التعايش مع مجتمعنا وأمّتنا والمبرز للشخصية الإسلامية المتّزنة والمراعي للضوابط الشرعية والموازين الإجتماعية والمحافظ على عفّة
وحياء وكرامة الإنسان وخصوصاً المرأة والمؤدّي لغرض الترويج التسويقي للسلعة من دون الإنزلاق إلى الشهوة للكسب وتدمير حياة المجتمع).
والحمد لله ربّ العالمين