الصفحة الرئيسية
التزكية والعلم عند الإمام الخميني"قده"
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 2211
قال الله تعالى :{ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها}.
يعتبر الإسلام أنّ الإنسان بما يمتلك من القابليات الفكرية والطاقات الروحية والإيمانية وبما تهيّأ له من الإمكانات المادية والمسخّرة، قادرٌ على أن يحوّل حركة الحياة في كثيرٍ من مجالاتها إلى نتاجٍ إيجابي يضفي على الحياة الإنسانية في أجوائها العامّة والخاصّة الأبعاد الإلهية التي أراد الله لها أن تكون متحقّقة بين البشر كأفرادٍ وجماعات وأمم كمقدمةٍ للإنصهار في المشروع الإلهي الذي يجعل من أولئك جميعاً كتلة واحدة متراصّة يقوم فيها كلّ ذي شأنٍ بما هو من شأنه لخدمة الجميع وصالحهم.
إلاّ أنّ البداية للوصول إلى الغاية من ذلك المشروع تنطلق من الفرد لأنّه الأساس في تكوّن المجتمعات وبصلاحه تصلح وبفساده تفسد ومن خلاله تتسرّب الأوصاف العامّة الخيّرة أو الشريرة إلى الحياة الإجتماعية العامّة بما يضطلع به من دورٍ مؤثّر كبير أو صغير.
لهذا شدّد الإسلام وأكّد على ضرورة أن يبدأ الفرد من نفسه، فيحاول أن يعتني الإعتناء الكافي بتنمية القابليات الفكرية وتغذية الطاقات الروحية والإيمانية، وهذه الخطوة لا بدّ منها بل لا غنى عنها لكلّ إنسانٍ يعدّ نفسه ليكون ذا دورٍ بنّاءٍ وإيجابي في المسيرة الإسلامية التي لا يمكن أن تتنامى إلاّ من خلال هؤلاء الذين يصرفون الكثير من أوقاتهم وأعمارهم في سبيل تحصين أنفسهم بالتعبئة الفكرية والرياضات الروحية ليكونوا أهلاً لأن يحملوا مسؤولية الأمانة الإلهية على مستوياتهم الشخصية وعلى مستوى الآخرين، وقد قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) معبّراً عن هذا التوجّه: (من أراد أن ينصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، فمعلّم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم).
وعملية البناء للفرد المسلم النموذجي لا بدّ أن تعمل على خطّين متوازيين في وقتٍ واحدٍ معاً وبالنسبة التي تنسجم في جعلهما القاعدة المتينة التي ينطلق منها الإنسان الملتزم في تعامله مع كلّ ما حوله ومن حوله.
فتلقّي العلم لا بدّ أن يتزامن مع تهذيب النفس وتزكيتها، لأنّ العلم وحده قد يوصل إلى الله، ولكن على طريقة العقل في الملاحظة والإستنتاج المجرّدة عن الروح والعاطفة.
وتهذيب النفس قد يوصل وحده إلى الله، ولكن من دون قاعدة متينة يرتكز إليها الإنسان ممّا قد يجعله بالتالي معرّضاً لأخطار متعدّدة قد لا ينجو منها ومن آثارها السلبية فيما لو عرضت عليه الشكوك والشبهات.
وقد أوضحت الشريعة الإسلامية تلك العملية المركّبة من العلم والتهذيب بما يحقّق الغاية المرجوّة، والأخطاء الحاصلة قد تأتي من التطبيق الذي يتفاوت في القوّة والضعف تبعاً للإختلاف في القابليات والقدرات أو في مقدار الجهد المبذول في التعلم والتهذيب أو في الإلتزام عند السلوك، وقد قال سبحانه وتعالى في سورة الجمعة: {هو الذي بعث في الأمييّن رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة}.
وخير من جسّد هذه العملية التربوية والعلمية في عصرنا الحاضر الإمام الخميني"قده"، الذي توصّل بتعليم نفسه إلى المقام الأرفع في التسلسل الرتبي من منظار الإسلام ووصل إلى سدّة المرجعية والقيادة للأمّة الإسلامية فسخّر لها علمه وفقهه ومعرفته ودرايته للأمور، فكان اللسان الذي ينطق عن الأمّة كلّها فَيُسْكِتُ الألسنة التي تدّعي زوراً وبهتاناً أنّها تتكلم بلسان الأمّة، وكان الأذن التي تسمع الأصوات الخبيثة والمنكرة التي تضمر للأمّة الكراهية والحقد وتسعى لتدميرها بالفتن والمؤامرات، وكان العين التي تبصر بها الأمّة طريقها وسط الظلام الذي كان يلفّ وما يزال حركة الإنسان بسبب الإنحرافات الفكرية والسلوكية التي أعمت البصيرة وأذهلت عقول الناس وقلوبها عن رؤية الصراط المستقيم، وبذلك استطاع "المعلم الكبير" و "الأستاذ الخبير" و "السياسي الحكيم" من أن ينقل الأمّة من جهلها بالإسلام وتخلّفها عنه إلى الأمّة المسلمة الواعية المتمسّكة بإسلامها وعقيدتها والقوية بمبادئها والمسترشدة بتعاليم رسالتها الإلهية في هذه الدنيا.
لقد تمكّن الإمام "قده" من أن يجعل الأمّة قادرة على التمييز بين الحقّ والباطل، وتقف عند حقّها مدافعة عنه فلا تقبل بالتنازل أو المساومة عليه بأيّ شيءٍ آخر، مهما حاول الآخرون أن يظهروا ذلك الشيء الآخر بمظهر برّاق وجذّاب ومخادع، كما هي قضية الدعوة إلى التمسّك بالنظام الديمقراطي الذي تريد القوى الكبرى أن تجعل منه النموذج الذي يجب تعميمه في كلّ دول العالم لتتحكم من خلاله وتتسلّط على الشعوب المستضعفة لتفرض إرادتها وقراراتها ولتحفظ مصالحها وامتيازاتها على امتداد الساحة العالمية عبر ذلك الإدعاء الزائف والمنافق.
فقد استطاع الإمام"قده" بفكره المتحرّر من عقد النقص والخوف والإنهزام أمام القوى الإستكبارية الشيطانية من أن يحرّر عقولنا من أسر الأفكار الوضعية الهدّامة، ولننظر من خلال الحرية الفكرية التي امتلكناها من علمه الصافي ونظره الثاقب إلى الموقعية الدونيّة التي كنّا فيها قبل عصر الصحوة الإسلامية المباركة التي قادها الإمام"قده" وحمل لواءها في هذا الزمن الرديء ليعود للإسلام دوره المفقود وللأمّة مجدها ووجودها الحر الكريم.
ولهذا دافع الإمام"قده" عن هذا الخيار الإسلامي طوال عمره الشريف وأعطاه كلّ وجوده ولم يبخل بشيءٍ في سبيل إنقاذ الأمّة والأخذ بيدها إلى الإلتزام بذلك الخيار، ومن جملة النصوص التي تبرز دعوته إلى العودة للأصالة ما ورد في وصيّته التي اختزن فيها عصارة جهده وعلمه حيث يقول"قده": (الإسلام والحكومة الإسلامية ظاهرة إلهية يؤمّن العمل بها سعادة أبنائها في الدنيا والآخرة بأفضل وجه وباستطاعتها أن تشطب بالقلم الأحمر على كلّ المظالم واللصوصيات والمفاسد والإعتداءات، وتوصل الإنسان إلى كماله المطلوب، و"الإسلام" مدرسة على خلاف المدارس غير التوحيدية حيث يتدخّل في جميع الشؤون الفردية والإجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والعسكرية والإقتصادية ويشرف عليها، ولم يهمل أيّة نقطة ولو كانت صغيرة جداً ممّا له دخل في تربية الإنسان والمجتمع وتقدّمه المادي والمعنوي، ونبّه على الموانع والمشكلات التي تعترض طريق التكامل في المجتمع والفرد وعمل على رفعها).
ومن هنا كان سعي الإمام"قده" في أكثر خطبه وبياناته قبل الإنتصار الكبير للشعب المسلم في إيران وبعده إلى توجيه الشعوب المسلمة للعمل في هذا الإتجاه وفرض الإسلام ولو بالقوّة في مواجهة الحكومات المنحرفة عن العقيدة، وممّا قاله في وصيّته في هذا المجال: (وأمّا وصيّتي إلى الشعوب الإسلامية فهي: اجعلوا حكومة الجمهورية الإسلامية وشعب إيران المجاهد قدوة لكم وإذا لم تستجب حكوماتكم الجائرة لإرادة الشعوب التي هي إرادة شعب إيران، فأجبروها بكلّ قوّة على الإستجابة لذلك، فإنّ أساس شقاء المسلمين هو الحكومات المرتبطة بالشرق والغرب، وأوصي مؤكّداً أنّ لا تستمعوا الأبواق الإعلامية لأعداء الإسلام والجمهورية الإسلامية فإنّ الجميع يعملون على إخراج الإسلام من ساحة الصراع خدمةً لمصالح القوى الكبرى).
وأمّا بالنسبة إلى تزكية النفس، فإنّ الإمام"قده" قد بلغ في هذا المجال إلى مقامٍ رفيعٍ جداً فاق فيه أقرانه السالكين هذا السبيل، توصّل إلى حالةٍ عرفانية راقية عاش من خلالها أسمى وأنبل معاني العبودية لله عزّ وجلّ، فلم يتعامل مع أيّ أمرٍ من الأمور إلاّ من الجهة التي فيها رضا الله سبحانه والمصلحة للمسلمين، وبهذه الطاعة المطلقة للمعبود الخالق ملك قلوب المؤمنين وأرواحهم فبذلوها في سبيل الله بأوامره وتوجيهاته وإرشاداته التي كان يحثّ فيها على نبذ الإرتباط بالدنيا الفانية وعدم الإهتمام بها إلى الحدّ الذي تطغى فيه على عقل الإنسان وقلبه وحركته، لأنّه كان يرى في سلوك هذا التوجّه المنافاة مع المسيرة الإنسانية إلى الله القائمة على محاربة الشهوات والملذّات التي تشكّل الحجاب والمانع من وصول الإنسان إلى درجات القرب المعنوي والروحي من القدرة الأزليّة، وقد ترك لنا الإمام"قده" من كلماته الصادقة والهادفة تراثاً كبيراً في هذا المجال أوضح فيه الطرق والوسائل الكفيلة بواسطة الإلتزام بها ومراعاة تطبيقها أن يصل الإنسان إلى المقام الذي يمتلك فيه زمام أمور النفس لتعيش مع الله أصفى حالات العبادة والإخلاص وتجسيم المعاني الإنسانية الرفيعة في الحياة، ولتصل إلى مقام العبودية الحقّة التي لا يرى العابد من خلالها إلاّ الله فقط في كلّ ما حوله ومن حوله من الأشياء والموجودات، ولا يهمّه من أمرها سوى البحث فيها عن رضا الخالق وحده دون سواه، فلا يضعف إذا ابتعدت عنه كلّ الناس أو حاربته، ولا يعيش شعور القوّة إذا إلتفّت الناس من حوله، لأنّه يرى في ذلك نوعاً من النقص في العبودية المطلقة، ولا يقيم وزناً للنعم الدنيوية ومتاعها وزخرفها لأنّه يرى فيها إغراءات الشيطان وكيده، فلا يفرح لما يصل إليه منها ولا يحزن لفقد شيءٍ منها، ويتعامل معها بحذرٍ شديد ومراقبة مستمرّة حتّى لا يقع في شراك متعة من متعها تشغله عن الإنقطاع إلى الله وحده، ويعيش الخوف الحقيقي من الله دون سواه لأنّه يرى أنّ ارتباطه بالله يجعله أقوى من كلّ الذين يشعرون شعور القوّة والكبرياء بسبب ما يملكون من الوسائل المادية التي تجعلهم يتوهّمون أنفسهم أنّهم الأقوى والأقدر.
ومن إرشاداته الرئيسة في هذا المجال قوله"قده" :(وما هو أساس نجاة البشرية واطمئنان القلوب هو التحرّر والإفلات من الدنيا وتعلّقاتها ويحصل ذلك بالذكر الدائم لله تعالى)، وفي مقامٍ آخر يؤكّد الإمام"قده" على ضرورة ربط العلم بتزكية النفس حتّى يستطيع الإنسان أن يتوصّل إلى المقصد المراد من الحياة انطلاقا من وجهة النظر الإلهية فيقول"قده": (ابذل الجهد لتصل كلمة التوحيد-التي هي أعظم كلمة وأسمى جملة-من عقلك إلى قلبك، فإنّ خطّ العقل هو ذلك الإعتقاد البرهاني الجازم، وإذا لم يصل حاصل هذا البرهان بالمجاهدة والتلقين إلى القلب فإنّ فائدته وأثره لا يكادان يذكران).
ويؤكّد الإمام"قده" في مقامٍ آخر على ضرورة الإسراع في المبادرة إلى الإشتغال بتزكية النفس حتّى لا تتراكم الحجب أمام القلب فتصبح عائقاً كبيراً يصعب التخلّص منه والتحرّر من أسره بقوله"قده": (إنّ من المكائد الكبرى للشيطان والنفس الأشدّ خطراً منه هي أنّها تمني الإنسان بالإصلاح في آخر العمر وفي مرحلة الشيخوخة فتؤجّل التزكية والتوبة إلى الله إلى المرحلة التي تقوى فيها شجرة الفساد-شجرة الزقوم-في حين تكون فيها الإرادة والقدرة على التزكية ضعيفة بل ميتة).
وهكذا استطاع الإمام"قده"بفضل العلم المقرون بتزكية النفس من الإنتصار على كلّ عوامل النقص والضعف التي تصيب الإنسان عادةً، وتحرّر من أسر الدنيا وملذاتها، فعاش الحياة لله في كلّ فعلٍ وقول، وسخّر كلّ لحظات عمره في خدمة الرسالة الإلهية الخاتمة والدفاع عنها والدعوة إلى تجديدها حتّى وصل في هذا المجال إلى مستوى تفجير الثورة الإسلامية في إيران وإقامة الحكم الذي يطبّق شريعة الله، وبدأ بانتصارها عصر الصحوة الإسلامية التي ينضوي تحت لوائها كلّ يوم الكثير من أبناء الإسلام الذين كانوا تائهين.
وبذلك كلّه فتح الإمام"قده" الآفاق الرحبة أمام الأمّة المقهورة والمستضعفة لتتمسّك بأسباب القوّة والوحدة التي يختزنها الإسلام لتواجه كلّ الأعداء الخارجيين والداخليين على حدّ سواء ولتستعيد حريّتها السليبة وقرارها المصادر وثرواتها المنهوبة، لتتوجّه إلى الله الغني المطلق من مواقع العبودية والخضوع والتسليم له وحده دون سائر القوى الطاغوتية والإستكبارية في العالم.