الخميس, 21 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الصفحة الرئيسية

الزواج، مؤسسة إنسانية

sample imgage

قال الله تعالى في محكم كتابه :{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مود ّةً ورحمة}. تتحدث الآية الكريمة عن الزواج الذي يشكّل المبدأ الأساس لبناء الأسرة وللتكاثر ولاستمرار النسل البشري، وقبل كلّ ذلك لإشباع الحاجات الجنسية الغريزية عند الطرفين عن طريقٍ مباح وحلال يحقّق الغايات المذكورة ولا ينحرف عن المسار الصحيح.

والزواج هو من أقرب الوسائل والسبل إلى تحقيق الأهداف المرجوّة منه، ولهذا تعاملت معه الشعوب بشكلٍ عام على أنّه الطريق الأمثل الذي يضمن للمرء الوصول إلى احتياجاته بنحوٍ مستقر إجمالاً، وقد لوحظ في الزواج عدد من الأمور الناتجة عنه والمرتبطة به كحقوق الزوجين تجاه بعضهما البعض وتجاه الأولاد وغير ذلك.

لهذا يعتبر الإسلام أنّ الزواج هو عقدٌ شرعي بصيغة خاصة تُشرّع العلاقات بين الرجل والمرأة على أسسٍ واضحة وينتج عن هذا العقد مجموعة من الإلتزامات المتبادلة بين الطرفين.

 

والزواج بصيغته الأساسية المحقّق للطمأنينة والإستقرار هو "الدائم" الذي لوحظ فيه كلّ الأهداف المتوخاة، وخاصة الغريزة الجنسية التي هي حاجة دائمة للإنسان فتحتاج إلى الوسيلة المحقّقة لها بنحو الإستمرار والإستقرار.

من هنا نجد التشجيع الشرعي على الزواج من خلال إبراز أهميته وإيضاح فوائده المتعدّدة، فمن ذلك ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :(النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) :(من تزوّج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني) ،وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً :(من أحب أن يلقى الله طاهراً مطهّراً فليلقه بزوجة).

ونجد كذلك التحذير من عدم الزواج استغناءً عنه، أو اكتفاء بما هو عابرٌ من هذه العلاقات، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :(شراركم عزّابكم، ركعتان من متأهل خيرٌ من سبعين ركعة من غير متأهل)، ولأنّ عدم الزواج لا يمكن أن يؤدّي إلى تحقيق الأهداف المطلوبة.

ولهذا نجد أنّ الآية الكريمة تعبّر أنّ الله خلق المرأة لتكون سكناً للرجل بمعنى أنّ الرجل وحده لا يقدر على القيام بتأمين احتياجاته الجنسية وغيرها بنفسه لأنّه مفتقرٌ إلى المرأة وكذلك هي مفتقرةٌ إلى الرجل وينشأ من مجموعهما الإشباع والتوالد، ولهذا يقول السيد الطباطبائي رضوان الله عليه :(فكلّ واحدٍ منهما ناقصٌ في نفسه مفتقرٌ إلى غيره "الآخر" ويحصل من المجموع واحدٌ تام له أن يلد وينسل، ولهذا النقص والإفتقار يتحرّك الواحد منهما إلى الآخر حتّى إذا اتّصل به سكن إليه، لأنّ كلّ ناقصٍ مشتاقٌ إلى كماله، وكلّ مفتقرٍ مائلٌ إلى ما يزيل فقره، وهذا هو الشبق المودع في كلٍّ من هذين القرينين) [3].

ولهذا كان الزواج بالنسبة إلى الطرفين سكناً وأمناً وطمأنينة يشعر فيها كلٌّ من الزوجين بالراحة النفسية لأنّ حاجاته الغريزية مؤمنة بدلاً من العيش في حالات القلق والإضطراب المستمرّين عند من لا يعيش حالة الزواج الدائم والمستقر.

ثمّ توضح الآية أنّ قضية الزواج لا تقتصر على مجرّد اطمئنان كلّ طرفٍ للآخر بسبب الحاجة إليه، بل لا بدّ من توثيقٍ أكبر وتأكيدٍ أشد على المساكنة وهذا يحصل من خلال المودّة والرحمة اللتين تنشآن بين الزوجين، وهاتان الصفتان ضروريتان ولازمتان للإستقرار المهم في الحياة الزوجية، لأنّ عدمهما قد يكون منشأ للكثير من الشقاق والخلاف الذي يحوِّل الزواج إلى إرباكاتٍ ومشاكل لا تنتهي ولا تندمل آثارها بسهولة.

وفي معنى هاتين الصفتين والفرق بينهما يقول السيد الطباطبائي "قده": (المودّة كأنّها الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودّة إلى الحبّ كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثّر نفساني عن العظمة والكبرياء، والرحمة نوع تأثّر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال وحاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان ورفع نقصه) [4].

ولا شكّ أنّ هاتين الصفتين كما تشيعان أجواء سعيدة فيما بين الزوجين، كذلك هما ضروريتان مستقبلاً في عملية تربية الأبناء الذين هم بأمسّ الحاجة إلى ذلك كونهم عاجزين وغير قادرين على القيام بأعبائهم بشكلٍ مستقل، فإن لم يكن الوصفان متحقّقين فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى كثيرٍ من المتاعب في عملية التربية.

وبالجملة فإنّ الزواج الدائم بالخصوص هو المؤسسة الرئيسة في بناء الأفراد الصالحين والأسرة الصالحة ثمّ المجتمع الصالح، ولهذا اهتمّ الإسلام بهذه القضية وبكلّ تشريعاتها إجمالاً وتفصيلاً، ولم يترك أمراً له ارتباط ودخالة في جعل الزواج مؤسسة متكاملة إلاّ وتطرّق إليه، بدءاً من المواصفات المفترض تواجدها في الزوجين وصولاً إلى الحقوق والواجبات المترتّبة على كلّ واحدٍ منهما تجاه الآخر، ومروراً بطرق التعامل التي ينبغي أن تحكم علاقة الزوجين ببعضهما البعض، وكلّ ذلك من أجل ضمان الوصول إلى البناء المتكامل والقوي للأسرة وهي اللبنة الأساس للمجتمع الإنساني الصالح.

من هذا الجو كلّه، ينبغي أن ننظر بحذرٍ شديدٍ إلى كلّ الداعين إلى العزوف عن تأسيس هذه المؤسسة، لأنّ هذه الدعوة تحمل الكثير من المخاطر وأبرزها تفكيك المجتمعات عبر تفكيك وحدتها الأساسية وهي الأسرة الناتج الأكبر لعملية الزواج، والدعوة إلى إباحة العلاقات الجنسية وفتح كلّ الأبواب أمام هذا النمط المتجاوز لهدف الأديان السماوية والضارب بعرض الحائط بكلّ القيم والمثل الإنسانية هو مؤامرة كبرى معروفة الأهداف ومفضوحة الأغراض، وهو محاولة للتمويه على الأسباب الحقيقية للمشكلة التي يعانيها الإنسان في عصرنا الحاضر بسبب الطمع والجشع اللذين تمارسهما القوى الإستكبارية في العالم التي تريد لكلّ الشعوب ذات الحضارة الإنسانية أن تتخلّى عن كلّ معتقداتها ومفاهيمها وأساليبها للحياة واستبدالها بنمط الحياة الغربية التي فقدت كلّ حسٍّ إنساني وشعورٍ وجداني وتحوّلت إلى حياةٍ غريزية بهائمية فقط، يسعى فيها الإنسان عندهم فقط لإشباع غرائزه ونزواته، ولو كان كلّ ذلك على حساب تدمير أسرةٍ ما أو أسرٍ متعدّدة كما هو الشائع عندهم اليوم، وكما نرى بوضوحٍ في كلّ الناتج الإعلامي لذلك العالم المستكبر بما يضمّ من فضائح أخلاقية وإجتماعية لن نسلم من شرورها وأخطارها فيما لو أعرضنا عن بناء مؤسسة الزواج التي تلعب دوراً رئيساً في تحصين مجتمعاتنا الإسلامية بالخصوص من الإنزلاق إلى تلك المهابط التي تذهب برونق الحياة الإنسانية وتفقدها الكثير من توجّهاتها الروحية والإيمانية والعاطفية، وتحوّلها إلى حياةٍ مادية كريهة الطعم مرّة المذاق والعواقب.