السبت, 23 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الصفحة الرئيسية

الفكر الإسلامي في مواجهة ثقافة التغريب والتحريف عند السيد هاشم معروف الحسني "قده"

sample imgage

شهدت فترة الأربعينات من القرن الماضي وحتّى السبعينات منه نموّاً مطّرداً أو متزايداً للأفكار غير الإسلامية وخصوصاً الفكر اليساري وعموماً من الشيوعية والإشتراكية والمادية وغيرها التي كانت ترتبط عضوياً بقاعدة الكتلة الإشتراكية في العالم وهي "دولة الإتحاد السوفياتي" آنذاك التي كانت إحدى القوّتين العالميّتين اللتين تتنازعان للسيطرة على دول العالم.

واستطاع هذا الفكر اليساري التمدّد والتغلغل من خلال الجامعات والمعاهد والمدارس العليا لتتكّون الجماعات المؤمنة بذلك الفكر ولتواجه الأنظمة التي كانت تميل إلى العالم الغربي وتعتمد عليه بزعامة أمريكا القوّة الثانية التي كانت تهيمن على الكثير من أنظمة دول العالم الثالث أيضاً.

في تلك الفترة كان الصراع الفكري والعقائدي والسياسي، بل والعسكري أيضاً حتّى في بلداننا العربية والإسلامية بالإسم على أشدّه بين المعسكرين الغربي والشرقي ويسجّل كلّ منهما نقاط انتصار على الآخر في هذا البلد أو ذاك.

 

ونلاحظ أنّه خلال الفترة المذكورة من – الأربعينات وحتّى السبعينات- كان الإسلام كفكرٍ وممارسةٍ ونهجٍ وأسلوب حياة بعيداً جداً عن حياة تلك النُّخب التي انجذبت إلى الفكر اليساري، واستطاعت تلك النُّخب أن تؤثّر في المحيط الذي تعيش فيه فجذبت إليها الكثير من الأميّين والبسطاء والجهلة من أبناء شعوبنا العربية والإسلامية، لأنّ الجاهل غالباً ما يتأثّر بالعالم وبأفكاره وميوله الفكريّة والعقائديّة.

كلّ ذلك المسار المنحرف وغلبة فكر القوّتين العظيمتين على العالم أدّتا إلى حصول سوء فهمٍ عند النّخب وتبعاً لهم عند الأكثرية من أبناء شعوبنا أنّ السبب في تخلّفنا وهزيمتنا وسيطرة قوى الشرق والغرب علينا هو تمسّكنا بالتراث الإسلامي وبالإسلام عموماً كدينٍ وعقيدةٍ ونظام، وطالما نحن ملتزمون به لن نتمكّن من اللحاق بالقوى الكبرى في العالم ولن نتمكّن من تحرير إرادتنا وبلداننا من سيطرة القوى الكبرى علينا، ولذا فإنّ على شعوبنا أن تأخذ بفكر العصر واعتناق فلسفات وأفكار تلك القوى الكبرى، وبهذا يمكن أن نصل إلى أهدافنا في الحريّة وتقرير المصير.

في هذا الجو السلبي الذي تنامى في بلداننا العربية والإسلامية حصل نوعٌ من الإحباط الشديد لدى المسلمين الملتزمين الذين وصل الأمر بهم في بعض مجتمعاتهم إلى ما يشبه العُزلة والإبتعاد عن أجواء الحياة السياسية والإجتماعية العامّة، وصار دورهم هامشيّاً جداً، وباتوا متقوقعين داخل مجموعاتٍ صغيرة تنزوي في المساجد وبعض الجلسات بعيداً عن الإنخراط في الأجواء السلبيّة حتى لا تؤثّر عليهم، وضعفت فيهم روح الحماسة والشجاعة لطرح الإسلام بين الناس بسبب قوّة نمو الأفكار والفلسفات المضادّة للتوجّه الإسلامي الأصيل.

وهنا بالذات إنبرى نفرٌ من العلماء الأعلام الذين أدركوا أنّ الإسلام بالضمور الذي وصل إليه وبقلّة تأثيره بين أوساط المسلمين يرتّب عليهم مسؤوليّة المواجهة الفكريّة للدفاع عن العقيدة الإسلاميّة وإثبات جدارة الإسلام على صوغ الحياة السياسيّة والإجتماعيّة للمسلمين بما يجعلهم داخل هذا العصر "عصر العلم والنور والمعرفة" وأنّ الإسلام هو صالحٌ لهذا العصر كما كان كذلك للعصور السابقة، وأنّ الإسلام لا ينافي العلم الحديث ولا يُخالفه، بل يعمل على مواءمته للعقيدة الإسلاميّة في كلّ المجالات المعرفيّة، ويأخذ منه ما يوافق الإسلام، ويصحّح ما يمكن تصحيحه، ويمكن أن يرفض ما يخالف القواعد العامّة الثابتة في الفكر والممارسة الإسلاميّتين.

وقد برز من بين الذين تصدّوا لموجات الفكر التغريبي عن الإسلام عالِمان جليلان قدّما الكثير من النّتاج العلمي والمعرفي الإسلامي وفي مختلف المجالات وهما: "العلاّمة الشيخ محمّد جواد مغنية" رحمة الله عليه، والمرحوم" العلاّمة السيّد هاشم معروف الحسني" نوّر الله ضريحه، والذي سيكون موضع حديثنا وكلامنا عن إنجازاته الفكريّة والعلميّة الواضحة جداً في مؤلّفاته المتنوّعة في الفقه والأصول والسيرة والتاريخ والعقائد.

وبالرجوع إلى مؤلّفات السيّد هاشم معروف الحسني رحمة الله عليه، يمكن أن نحدّد الأسباب التالية التي دفعته إلى تأليف معظم كتاباته في كلّ المجالات التي ذكرناها:

أولاً: الحرب الفكريّة والعقائديّة التي كان يشنّها أصحاب الأفكار والفلسفات المنحرفة ومن أبرزهم أصحاب الفكر اليساري الذي كان يميل إلى الإلحاد غالباً، وإعطاء الأبعاد الماديّة للحياة أهميّة كليّة على الأبعاد الإيمانيّة والروحيّة.

ثانياً: تقهقر الثّقافة الإسلاميّة أمام الثّقافات الأخرى ممّا أدّى إلى تجهيل المسلمين بدينهم وعقيدتهم وما يحتوي الإسلام على ثروةٍ عظيمةٍ من العلوم والمعارف.

ثالثاً: الإتّهامات الموجّهة إلى الإسلام بأنّه دينٌ يدعو للرجوع إلى عصور التّخلف والجمود ورفض كلّ جديدٍ وتقدّمٍ وتمدّن، وأنّ الإسلام لا يمكن أن يتماشى ويتعايش مع العصر الحديث الذي تخطّى بما وصل إليه قدرة الإسلام على اللحاق بهذا العصر وإنجازاته.

رابعاً: أنّ الدين عموماً هو وسيلةٌ لتخدير الناس وإقعادهم عن الدفاع عن مصيرهم ومصالحهم في مواجهة الأقوياء والمستكبرين، وأنّه وسيلةٌ لإلهائهم عن الثورة ضدّ الطّغاة وضدّ ناهبي ثرواتهم وقدراتهم الماديّة والإقتصاديّة.

خامساً: أنّ الدين حتّى ولو كان الإسلام الذي يحمل فكراً أخروياً ودنيوياً في آنٍ معاً غير قادرٍ على إنتاج الفئات القادرة على قيادة الشعوب الإسلاميّة نحو التّحرّر والإستقلال، لأنّ قادة هذا الدين وهم "العلماء والمجتهدون" لا يعيشون فكر هذا العصر ولا يعرفون سياساته وأساليبه التي تمكّنهم من قيادة الشعوب في مواجهة الواقع الضاغط، خصوصاً أنّ الفكر الإسلامي أهمل الكثير من الجوانب العقائديّة والفقهيّة التي لا بدّ منها من أجل الحصول على كسب ثقة الناس والجماهير بقدرة العلماء على القيادة، ويؤكّد هذا السبب إقتصار علمائنا في أبحاثهم الفقهيّة على العبادات وبعض أنواع المعاملات وإهمال أبواب الجهاد والدفاع عن النّفس والأمّة والأحكام الجزائية، لأنّ هذا النوع من الأحكام محتاجٌ إلى الدولة الإسلامية المتعذّر إقامتها بنظر الكثيرين من المسلمين والعلماء في زمن طغيان القوّتين العظيمتين على مقدّرات الشعوب وقراراتها.

سادساً: تهميش الفقه الجعفري والفكر الشيعي عموماً وكأنّه غير موجود، ولذا فقد سعى السيد هاشم رحمة الله عليه إلى التمييز بين الشيعة والتصوّف من جهة، وإلى إبراز المذهب الجعفري بحلّةٍ جديدةٍ تجعله قريباً من الفهم والإستيعاب، وقارنه في الكثير من كتبه الفقهية مثل (نظرية العقد..) و(المسؤولية الجزائية..) وغيرهما مع الفكر الوضعي ومع فقه المذاهب الإسلامية الأخرى، وأبرز وضوح هذا الفقه وقوّة أدلّته وحججه وبراهينه في مواجهة فكر الآخرين إسلامياً كان أو غيره، أنّ فكر الآخرين وإن كان يعاني من ثغراتٍ أو هفواتٍ فإنّ الفكر والفقه الشيعيين لا مشكلة لديهما في هذا الجانب لأنّ باب الإجتهاد مفتوحٌ عندهم ولديهم الحلول المناسبة لكلّ مسألةٍ طارئة أو مستجدّة وفق تطوّر الفكر الإنساني وإنجازاته وإنتاجاته الجديدة غير المسبوقة بمثلها في مجال المعاملات والعقود منها خصوصاً، وأثبت أنّ العقود الجديدة لازمةٌ وشرعيّة مالم تخالف الثوابت في الفقه الجعفري الإثني عشري، ولا من جمود في هذا المجال.

ولا بدّ لتأكيد النقاط السالفة الذكر من الرجوع إلى ما كتبه العلاّمة السيد هاشم معروف بنفسه حولها.

وننتخب بعض النّصوص التي ذكرها في مقدّمات كتبه وفي داخلها حتّى تتّضح الأهداف المتوخاة له لتأليف ذلك الكمّ الكبير من المؤلّفات النافعة والمفيدة.

أولاً: المقارنة بين الإسلام والقوانين الوضعية:

يقول السيد "قده": (... ومجمل القول إنّ القوانين الوضعية بالقياس إلى المراحل التي مرّت بها كالطفل الذي يولد صغيراً ثمّ ينمو شيئاً فشيئاً حتّى يبلغ أشدّه ويتكامل نموّه، ولم تصل إلى ما هي عليه اليوم إلاّ بعد تطوّرٍ بطيء استمرّ مئات القرون وستبقى في مسيرتها نحو التطوّر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.).

(أمّا الشريعة الإسلامية... التي وضع أصولها ومبادءها العليّ القدير العالم بما كان وما سيكون... هذه الشرائع لم تنشأ كما نشأت القوانين الوضعية... بل بُنيت على قواعد ثابتة ... تصلح لكلّ زمانٍ ومكان لأنّها مُنزلة من الله... لتكون دستوراً ونظاماً إلى الناس أجمعين على اختلاف أجناسهم وألوانهم... وستبقى مع المسيرة إلى حيث ينتهي الرّكب.).

وبعد توضيح المنشأ لكلّ من القانون الوضعي والإسلامي يتعرّض للفوارق بين الأمرين فيقول "قده":

(وبالتالي فإنّ أساس الفرق بين الشريعة والقانون هو أنّ الشريعة من عند الله جلّ شأنه، والله يقول لا تبديل لكلماته، وهو القادر على أن يضع للناس نصوصاً وافية بمصالحهم على مرور الأزمان وتقلّبات الأطوار، والقانون من وضع الإنسان الذي لا يعلم ما يأتي به الغد، ولا يدرك إلاّ حوادث ساعته، ومشاكل يومه... فإذا طرأ أمرٌ لم يكن بالحسبان اضطرّ إلى التّغيير والتبديل حسبما تقتضيه الحال... فالقانون لأنّه من صنع الإنسان يمثّل نقص الإنسان وعجزه، ومن ثمّ كان مُعرّضاً للتغيّر والتبديل، وكان القائمون عليه في أمسّ الحاجة إلى الحلول التي تفي بالحاجة وتسدّ الثغرة... ومن غير المتوقّع أن تبلغ القوانين الوضعيّة منتهى الكمال ما دام صانعها بعيداً عن الكمال، أمّا الشريعة فلأنّها من صنع الله سبحانه تتمثّل فيها قدرته وكماله وإحاطته بما كان وما هو كائن... لا يؤثّر عليها مرور الزمن ولا تبلي جدّتها القرون والأعوام مهما تطوّرت الحياة بكلّ شيءٍ في الأحوال كلّ حيث أحاط علمه ووسع السماوات والأرض وجميع الكائنات...).

ثانياً: توضيح سبب تقهقر الإسلام في مقابل الآخرين:

يقول السيد "قده" :(لقد تغيّر كلّ شيء عند النّاس منذ العصور الأولى وحتى عصرنا الحالي عشرات المرات، وظلّ الشيعة في المكان الذي احتلّه القدامى من مئات السنين وكأنّه من وحي السماء الذي لا يجوز عليه التغيير والتبديل ممّا دعا الحاقدين على الإسلام ودعاته وقادته أن يشغلوا هذا الجمود... في الوقت الذي يفرض علينا الإسلام أن نخاطب الناس في كلّ عصرٍ بلغتهم ونعدّ العدّة لردّ رسائل العدوان والغدر بمثلها وبأقوى منها... ومن الحكمة أن نخاطب كلّ قومٍ بلغتهم وبما ألفوه واعتادوه في كلّ زمانٍ ومكان... والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يوجّه الدعاة إلى سلوك الأساليب المتعارفة حسب الزمان في نشر الدين والدعوة إليه ما دامت الحياة من جميع نواحيها في تطوّرٍ دائم...).

هنا نرى أنّ السيد هاشم رحمة الله عليه يعتبر أنّ تقهقر الإسلام من بعض النواحي يعدو إلى عدم استيعاب تطوّرات العصر في لغة الخطاب للناس، وأنّ ما كان معقولاً ومقبولاً في العصور السابقة لم يعد مناسباً بسبب التطوّر الكبير الذي حصل في وسائل إيصال العلم للناس وبسبب علوم المنهجة التي يسّرت سبل توصيل العلوم، وأنّ على المبلغين أن يعملوا على تحصيل المعرفة بأساليب العصر واستغلال وسائل الخطاب الحديثة ليتمكّنوا من مجاراة الآخرين القادرين على نشر أفكارهم الفاسدة لامتلاكهم تلك الوسائل التي هي أسرع وأكثر فعالية في تحصيل العلم والمعرفة.

وهذه الإلتفاتة المهمّة من سماحته تنمّ عن معرفة دور الإعلام ووسائله وإن على جانبٍ كبيرٍ من الأهميّة والخطورة في عصرٍ صارت فيه الوسائل مهمّة أهمية العلم نفسه بل تزيد عليه أحياناً لمن يمتلك الخبرة والمعرفة اللازمتين لاستغلال دور الإعلام وأدواته، وهذا الكلام يعني المبلّغين للإسلام بصورةٍ رئيسيّة، وأن يعملوا على تخيّر الوسائل الحديثة للخطاب لإيصال الإسلام إلى المسلمين من واقع محاكاة لغة العصر وخطابه، بينما نرى أنّ الآخرين من أصحاب الفكر المنحرف يعرفون كيف يستخدمون وسائل الإعلام التي تتغلغل بين شعوبنا وتحرّفها عن الصّراط المستقيم وتبيّن لها زيفاً وخداعاً أنّ الإسلام دينٌ يدعوا إلى الرجعيّة والتّخلف وزادوا عليه اليوم بعد سقوط المعسكر الإشتراكي وتفكّكه بأنّ الإسلام هو دين الإرهاب والقتل والتدمير، واستطاعوا أن يعطوا صورةً رجعيّة جداً عن هذا الدين الحنيف من خلال حركة "طالبان" التي أسّسوها وجعلوها تسيطر على الحكم في بلاد الأفغان لتكوّن الصورة المضادّة للإسلام المحمّدي الأصيل الذي تقوده الثورة الإسلاميّة في إيران. ولذا نرى السيد هاشم "قده" يقول: (ومهما كان الحال فالذي أتمنّاه على المسؤولين ومراجع الطائفة الشيعية بصفتهم يملكون الإمكانات المالية الضخمة من الحقوق التي تُجبى إليهم أن يعيدوا النظر في الأساليب القديمة ويعملوا على إخراج الفقه الشيعي من عزلته بثوبٍ جديدٍ يتّفق مع روح العصر والحياة من حيث صياغته وطباعته مع الإحتفاظ بالجوهر ومقاصد المؤلّفين...)، ثمّ يقول "قده" :(وكنت قد تبيّنت هذه الأفكار ودعوت إليها قبل مدّةٍ من الزمن وباشرت بالكتابة في الفقه الجعفري الذي أراه يتّفق مع روح العصر فأخرجت قبل سنوات نظريّة العقد... وقبل ثلاث سنوات صدر لي في الفقه المسؤولية الجزائية بنفس الأسلوب... وهذا هو الكتاب الثالث "الولاية والتفقّه والإجارة".

ثالثاً: الدّفاع عن الفقه الشيعي والعقائد الشيعيّة: هنا نرى أنّ السيّد هاشم " قده" يتألّم عندما يرى أنّ الفقه الشيعي هو الأجدر بالنشر والترويج له لأنّه يستقي من علوم النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) حماة الإسلام والدعاة إليه ويقول في هذا الصدد: (لقد ظلّ الفقه الجعفري طيلة القرون الماضية في عزلةٍ عن العالم بالرغم من سعته، ووجود المؤلّفات الضخمة الواسعة فيه، ووجود آلاف العلماء في كلّ عصرٍ منذ العصور الأولى للتشريع، وبالرغم من فتح باب الإجتهاد وعدم التحجير على الأفكار، الذي يساعد على الإنطلاق وكثرة الإنتاج والتّحرّر من تقليد الماضين وهذا ما يشاهده الباحث المنصف بالفعل عندما يقارن بين الفقه الشيعي وغيره، فيجد الشيعة أكثر إنتاجاً وأوسع تفكيراً وأقرب في أحكامهم إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما يجد الجمود والركود قد سيطر على فقهاء المذاهب الأخرى... ومع أنّ لفقه المذاهب الأربعة هذا الطابع المستهجن عن الباحثين والمفكرين نجدهم يعتمدون عليه في الغالب ويتجاهلون الفقه الجعفري... ويمكن تعليل ذلك بأنّ الشيعة ظلّوا منكمشين على أنفسهم منذ أقدم العصور، ولم يجدوا في الحكّام في جميع الأدوار التي مرّوا بها من يشجعهم على نشر آثارهم والدعاية لها...).

ولذا يقول في موردٍ آخر: (إنّ على المؤلّفين في هذه المواضيع "الفقه" والذين يدعون إلى عقد المؤتمرات للمقارنة بين التشريع الإسلامي والقانون الوضعي الأجنبي وغيره أن لا يتقيّدوا بمذهبٍ معيّن... وأن يرجعوا إلى فقه الشيعة الذي يستمدّ قوّته وأصالته من كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم ومن العقل... أمّا القياس والإستحسان والمصالح المرسلة... التي ليس في النصوص الشرعية ما يدلّ على أنّها من أصول التّشريع...).

ولا يكتفي السيد الحسني "قده" بالدفاع عن الفقه الشيعي، بل يتعدّى ذلك للدفاع عن عقائد الشيعة عبر إزالة الإلتباس الموجود عند البعض عبر الخلط بين الشيعة والتصوّف من جهة، أو بين الشيعة والمعتزلة من جهةٍ أخرى، فيقول عن التصوّف الذي أراد البعض إلصاقه بالشيعة والتشيّع :(لقد أتاح لي الدكتور مصطفى كامل الشيبي من خلال مطالعتي لأكثر فصول كتابيه:

(الصلة بين الشيعة والتصوّف) و(النزعات الصوفية في الفكر الشيعي) اللذين هاجم بهما الشيعة بمجادلاته الرامية إلى تحويل التشيّع عن محتواه ليصبح من أوسع الروافد التي انطلق منها التصوّف، وانتشر في الأوساط الإسلامية بأسلوب يبدو عليه وكأنّه مسير لإلصاقه بأكثر مساوئه وسيئاته بالشيعة جزافاً وبلا وازع)، ثمّ يكمل كلامه فيقول "قده" :(ومع بُعد المسافة بين التصوّف من جهة وبين التشيّع الذي لا ينفصل عن الإسلام من جهةٍ أخرى أراد الدكتور الشيبي في كتابيه أن يلصقه بالتشيّع بكلّ فصوله وجوانبه كما جرت عليه سيرة أسلافه من إلصاق سيّئات الفرق والمذاهب البائدة بالتشيّع... ووقفت مع الدكتور الشيبي في أكثر مواضيع كتابيه لجلاء الحقيقة والدفاع عن النفس، وأرجو أن أكون قد وُفّقت لذلك ومنه سبحانه أستمدّ العون والتوفيق والسداد" هذا المقطع من مقدّمة كتاب السيّد رحمة الله عليه المعنون بـ (بين التصوّف والتشيّع).

ولم يقتصر دفاعه عن التمييز بين الشيعة والتصوّف بل تعدّى ذلك إلى العديد من الموضوعات كالدفاع عن الشيعة وبيان الفوارق مع المعتزلة، أو التصدّي للوضاعين والكذابين في الأخبار والأحاديث وغير ذلك من الموضوعات التي كانت الشيعة والتشيّع مورد الإتهام من جانب الآخرين في محاولاتٍ خبيثة لتشويه سمعة المذهب عند المسلمين وغيرهم.

هذا غيضٌ من فيض من نتاج عالمٍ كبير نذر نفسه للدفاع عن مذهب الحقّ من جهة، وللدفاع عن الإسلام في مواجهة العقائد الوضعية الفاسدة من جهةٍ أخرى، ولم يقصر كلّ ذلك وأبلى البلاء الحسن وترك لنا تراثاً ضخماً يمكن أن يستفيد منه كلّ الباحثين والمؤلّفين والمحقّقين الذين يدرسون الفقه الشيعي والعقيدة الشيعية بالخصوص، فجزاه الله عنّا جميعاً خير جزاء المحسنين وأسكنه الله فسيح جنّاته إلى جانب أجداده الأكرمين النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وأن يحشرنا معهم إن شاء الله تعالى.

والحمد لله ربّ العالمين