الصفحة الرئيسية
الحوار مع أهل الكتاب
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 3197
وموضوع بحثنا هم أهل الكتاب ـ المسيحيون واليهود ـ الذين أرسل الله رسلا ً لهدايتهم وإرشادهم وأنزل معهم الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل.
وبمناسبة عيد ميلاد المسيح عيسى (عليه السلام) الذي يتّخذه المسيحيون رمزاً لهم وشعاراً حتّى أنّهم انتسبوا إليه بالإسم الذي يتّصفون به أحببنا أن نتوجه إلى العالم المسيحي عموماً بهذه الكلمات التي نتمنّى أن تكون منطلقاً لحوارٍ فكري حضاري بعيداً عن أجواء التشنّج والإنفعال، غايته وأبعاده إيجاد الأجواء المناسبة للتلاقي على خطّ الله الذي يمثل القاسم المشترك بين المسلمين والمسيحيين وعموم أهل الكتاب.
إنّ الإختلاف في العقائد أمرٌ موجود بين البشر تبعاً لما يميلون له من قناعات ولما يؤمنون به من طريقةٍ للعيش والحياة وهذا الأمر له جذوره الممتدة في تاريخ البشرية بشكلٍ عام إلاّ أنّ هذه الإختلافات لا تعني بالضرورة عدم التقاء أهل العقائد المختلفة خاصة إذا كانت هناك قواسم مشتركة وقناعات متقاربة يمكن التلاقي عليها والإنطلاق منها لتصحيح الأوضاع كافة بدون التعصّب من جانب كلّ فريقٍ لما هو عليه وعدم الإستماع إلى الحجج والبراهين التي يقدّمها الفريق الآخر.
فالتعصّب يؤدي بالأفرقاء ليس إلى مجرد عدم التلاقي بل إلى أخطر من ذلك إذ يجعل المتعصّب طعماً للفتنة والفساد باعتقاد أنّ قناعاته عن الحياة هي الحق الذي يجب اتباعه وهذا كلّه ينشئ من أن نتيجة التعصّب هي انعدام القابلية عند كلّ طرفٍ للإستماع إلى الآخر لمحاكمة القضايا انطلاقاً من القواسم المشتركة التي يمكن أن تشكّل البداية لزوال العصبية العمياء والدخول في عهدٍ جديد من الإنفتاح الهادف والمثمر الذي يعود بالخير والنفع على كلّ الأفرقاء. إلاّ أنّ هذا الإنفتاح لا يمكن أن يحصل ويتمّ إلاّ إذا توفّرت شروطه الموضوعية التي يفرضها واقع القضايا المختلف عليها لأنّ عدم توافر الشروط التي ذكرناها يعني أنّ الحوار قد لن يكون إلاّ حوار طرشان لا يسمع أحدٌ شيئاً على الإطلاق ولن يجدي نفعاً أبداً لأنّ وجوده كعدمه ،من هذه المنطلقات جميعاً وجّهت الشريعة الإسلامية أتباعها إلى عدم إثارة نقاط الخلاف مع من يخالفونهم في الرأي والعقيدة بادئ الأمر، بل السعي إلى تلمُّس طريق الحوار من خلال البحث عن القناعات المشتركة بينهم وبين الآخرين في أيّ مجالٍ من المجالات لكي تكون تلك القواسم منطلقاً للإنفتاح على الآخرين من أجل تقريب الفكرة وتوضيح الصورة للطرف الآخر، لعلّ ذلك يجد الآذان الصاغية الواعية التي تستوعب الفكرة جيداً وتعمل على دراستها جيداً من خلال أجواء العقلانية التي لا تحاول التأثّر بالإنفعال أو من خلال التسليم المسبق بصحة ما يكون عليه من عقيدةٍ ومبدأ لعلّ ذلك يوصل الدارس والباحث إلى القناعة الصحيحة المتناسبة مع ما يكون عليه الواقع الموضوعي المتجسّد في عالم الخارج الحقيقة التي لا تتغير بتغيّر المعتقدات البشرية.
والآية المتصدّرة لهذا الموضوع تطرح القضية مع أهل الكتاب من زاوية الإلتقاء على الله سبحانه، حيث أنّ المسلمين والمسيحيين معترفان بالله سبحانه، وهذا بحدّ ذاته يشكل عاملا ً مهماً وأساسياً لفتح الآفاق عند الفرقين على بعضها البعض. إذ طالما أنّ القناعة حول قضية الله واحدة عندهما فلا بدّ من التفاهم حينئذٍ انطلاقاً من نقطة الإلتقاء إلى البحث عن السلوك الذي يستتبعه الإيمان بالله من مواقف عملية في الحياة لتنظيمها على ضوء قوانين الله وتشريعاته. فعقيدة التوحيد التي يتلاقى عليها الطرفان إذن لا بدّ وأن تكون كاملة عند الفريقين من حيث امتداداتها في حياة أتباع العقيدتين ولا بدّ لهما من أن يتصرّفا على ضوء العقيدة والتوحيد في العبادة على اعتبار أنّ الله هو الذي أرسل كلاًّ من عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) برسالتين سماويتين لهداية البشرية إلى خطّ الله. ولهذا نجد أنّ الآية الكريمة تنطلق إلى بيان ما لا يتلائم مع ما يشترك فيه المسيحيون والمسلمون ممّا يعتبر منافياً لفكرة التوحيد، لكي توضح للجميع كيفية أن يكونوا مع الله حقيقةً وواقعاً، من خلال رفض ما ينبغي عليهم أن يرفضوه على مستوى القناعة ويلغوه من قاموس حياتهم على مستوى العمل حتّى يحقّقوا الأبعاد الصحيحة للتوحيد في واقعهم والأمور التي ركزت الآية على رفضها لأنّها تعتبر منافية لما يقتضيه التوحيد للخالق هي :
أولا ً : أن لا يعبد الإنسان غير الله.
ثانياً : أن لا يشرك الإنسان بالله.
ثالثاً : أن لا تتخذ الناس بعضها البعض أرباباً.
والسبب في تركيز الآية على هذه الأمور هو أنّ أهل الكتاب قبل الإسلام كانوا يأتمرون بأمر زعماء دينهم الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم وكانوا يحلّلون ويحرّمون على ضوء ما يرونه بأنفسهم من دون الإستناد إلى شريعة الله التي أنزلها على عيسى (عليه السلام) وقد حكى القرآن في ذلك الإنحراف: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون }، آل عمران ـ 70 ـ 71
فهذا الإستفهام الإنكاري الذي يعبّر عن الرفض الإلهي لما يدّعي أهل الكتاب أنّه من عند الله وليس من عنده، ليضلّوا به قومهم وأتباعهم الذين عملوا بآرائهم واسترشدوا بأقوالهم. ثمّ أليس الله الذي أرسل عيسى نبياً هو الذي أرسل محمداً بالنبوة ؟ أليس عيسى (عليه السلام) قد بشّر قومه بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته كما حكى ربّ العالمين عن ذلك بقوله عزّ وجلّ :{ومبشّراً برسول ٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد }، الصف ـ 6 ،أوليس الله هو مصدر كلّ الأديان السماوية ؟ ولهذا نجد أنّ الآية الأخرى تطرح هذه القضية لكي تتضح حقيقة وحدة الرسالات وأنّها سلسلة تكمل بعضها بعضاً ممّا يدلّل بوضوحٍ على ضرورة الإيمان بكلّ الأنبياء من دون رفضٍ لأيٍّ منهم تعصُّباً أو عناداً.
والآية هي: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم لا نفرّق بين أحد ٍ منهم ونحن له مسلمون ومن يتّبع غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، آل عمران 84 ـ 85.
فوحدة الأديان هذه تقتضي وحدة الفكر والقول والعمل حتى تكون الناس مؤمنةً بالله العظيم فلا عبادة لغير الله من أصنام وأوثان يخضع لها البشر ويتوجّهون إليها لأنّهم نوعٌ من أنواع الشرك الذي لا يتناسب ومقام الوحدانية للله عزّ وجلّ ولا الطاعة لمن ينحرف بالناس عن جادة الحق لأنّه تربيبٌ لبعض الناس ممّن ليسوا أهلا ً لأن يتصفوا بذلك الوصف، لأنّ ذلك يجعل من بعض البشر أرباباً على حساب ربوبية الخالق.
ولهذا تدعو الآيات الكريمة أهل الكتاب إلى التأمّل في كلّ ذلك ومحاولة الفحص عن حقيقة هذه الأمور التي تقف عائقاً بينهم وبين تصحيح علاقتهم بالله فهذه القضايا التي تعتبر الأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله التي لا غنى عنها بأيّ حالٍ من الأحوال هي التي يجب أن تسود عند كلّ البشر المتّبعين لرسالة السماء الواحدة المصدر والسلوك والهدف وهي التي يجب أن تحكم علاقتهم بالله عزّ وجلّ.
ثمّ تنطلق الآية إلى بيان ما يجب اتباعه عند رفض أهل الكتاب القبول بهذه المسلّمات بنظر الله عزّ وجلّ التي شكّلت قناعات ثابتة عند المسلمين بأنّ رفض أهل الكتاب لتلك المسلّمات لا يعني خطأ في الفكرة أو المعتقد أو السلوك وإنّما يعني ذلك رفض الإعتراف بالواقع الذي لا محيص عن الإقرار به في نهاية الأمر، وأنّ ذلك لا ينبغي أن يؤثّر على الذين لم ينحرفوا ولم يغيّروا لأنّ رفض الآخرين لا يقوم على أسسٍ واضحة وأدلّة قويّة يمكن أن تصمد أمام النقد والمعالجة الصحيحة، كلّ ذلك من أجل إعطاء المسلمين القوّة في الموقف والوضوح في الرؤية حتّى لا يكون رفض الآخرين سبباً في زعزعة القناعة والإنهزام أمام أولئك الذين لم يذعنوا للحق ولهذا نجد في آية المباهلة عندما جاء نصارى نجران إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أخبر القرآن بذلك: { فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعو أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين }، آل عمران ـ 61.
حيث تقول الروايات بأنّ حوار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصل معهم إلى النتيجة التي يجب أن يعترفوا بها فعرض عليهم المباهلة فقبلوا بها وقاولوا لبعضهم: " إن باهلنا بقومه فليس نبياً وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله فإنّه لا يقدّم أهل بيته إلاّ وهو صادق "، وكانت النتيجة فيما لو تمّت عملية المباهلة أن ينزل عذاب الله ولعنته على الكاذب من الفريقين فيما يدّعي أنّه من عند الله إلاّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أحضر فاطمة (عليها السلام) والحسن والحسين (عليهما السلام) لكي يكونوا إلى جانبه في المباهلة، رفض زعماء النصارى أن يباهلوه لأنّهم أيقنوا بوقوع العذاب عليهم فيما لو تمّت العملية.
من أجواء هذه القصة نفهم أنّ الإسلام يعلّمنا أن نتحاور مع الآخرين لمناقشة أيّ فكرة نقاشاً هادفاً من دون تشنّجٍ أو مواقف مسبقة، نتيجة القوّة في الموقف والصواب في المعتقد الذي لا يتأثر برفض الآخر للفكرة أو قبولها. ولهذا نجد أنّ الآية المباركة في نهاية المطاف تريد منّا عند عدم استعداد أهل الكتاب للقبول بطروحاتنا قبولا ً علمياً وعقلانياً أن نبقى على قناعتنا وثقتنا بما نحن عليه، بل أن نستمر في الطرح وتحمّل مسؤولية الموقف الذي يبرهن أنّ قناعاتنا ليست منطلقة من عقدة الخوف من الآخرين أو ردّة فعلٍ على ما يعتقده أهل الكتاب، بل ننطلق من واقعٍ وحقيقةٍ لا محيص عن التسليم بها، وتحميل أهل الكتاب مسؤولية البحث عن صحة ما ينطلقون منه على مستوى العقيدة والسلوك.
ونختم موضوعنا بقول الله عزّ وجلّ: { قل إنّي على بيّنةٍ من ربّي وكذّبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلاّ لله يقصّ الحقّ وهو خير الفاصلين }، الأنعام ـ 57.