الصفحة الرئيسية
لعلكم تتقون
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 3830
{ يا أيّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون }.
التقوى طريق النجاة
إنّ الطريق الأوحد للوصول إلى السعادة القصوى والصراط المستقيم الذي به النجاة من عذاب يوم القيامة هو التقوى التي ورد عليها الحث كثيراً في الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، فهي الغاية من كلّ عبادة، والهدف من كلّ تحرّكٍ ينطلق منه الإنسان في هذه الحياة إذا كان مسلماً مؤمناً بالله، ولهذا نرى أنّ الله عزّ وجلّ قد ذكر التقوى كنتيجةٍ لأكثر العبادات التي شرّعها لتهذيب النفس الإنسانية ذات الميول والشهوات والرغبات لأنّ عدم تهذيبها يؤدّي قهراً إلى ذوبان تلك النفس وغرقها في متاهات الشهوة والغريزة ممّا يؤدي إلى فقدانها للصفاء الروحي المطلوب الذي به ترتقي سلّم الكمال وتضيع في هذه الدنيا فلا تدرك الغاية ولا تدرك الهدف من وجودها فتخسر بذلك النعمة الإلهية الكبرى التي جعلها الله من نصيب المرء في الآخرة وهي الجنة ذات النعيم الدائم.
تعريف التقوى:
التقوى من الوقاية بمعنى التحفّظ والإمتناع لغة، وأمّا التقوى شرعاً فهي منع النفس وزجرها عن كلّ ما يؤدّي إلى العقاب في الآخرة وذلك بترك المحرّمات وفعل الواجبات وبهذا فسّرها الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سُئِل عن تفسيرها فأجاب: (أن لا يفقدك حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك).
طرق التقوى:
للتقوى سبيلان لا بدّ من العمل بهما معاً :
الأول _ فعل الواجبات على امتثال أوامر الله عزّ وجلّ والمراد من الواجب هو الذي ألزمنا الله فعله وتوعّدنا بالعقاب على تركه والثواب على فعله.
الثاني_ ترك المحرّمات واجتنابها، والحرام هو ما توعّدنا المولى الكريم، بالعقاب على فعله والمثوبة على تركه.
الإلتزام بالمستحبّات والمكروهات : من الطرق السلوكية المقدّمة لحالة التقوى عند الإنسان هي فعل المستحبات وترك المكروهات، والمستحب هو الفعل الذي وعدنا الله بالثواب على فعله وليس هناك عقاب على تركه، والمكروه هو الفعل الذي وعدنا الله على تركه وليس هناك عقاب على فعله وهذه الجهة من الإلتزام مهمة جداً باعتبار أنّها تحمل صفة الإختيار التام الناشئ عن إدراك الإنسان لحقيقة وجوده، وكلّما قوي هذا الإدراك كلّما قويت درجة الإلتزام بهذه الأمور الطوعية التي تدلّ على إرادة التحرّر من أسر الدنيا وملذّاتها وشهواتها ليرتقي الإنسان بروحه إلى العلي القدير.
نتيجة التقوى:
لا شكّ أنّ الإلتزام بتلك الطرق السلوكية مع الوعي التام لأبعادها النابع من إدراك المرء لحقيقة وجوده في الدنيا، وأنّ وجوده هنا ما هو إلاّ قنطرة عليه أن يجتازها ليصل إلى دار الخلود في النعيم الدائم وفي الشقاء الدائم، إنّ كلّ ذلك لا بد أن يجعل عند الإنسان حالة من الإبتعاد عن كلّ ما يؤدي إلى تكدير النفس وإبعادها عن مولاها، وهذا هو الجهاد الحقيقي الأكبر كما عبّر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قال لأصحابه رجعتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر، لأنّه هنا برزت قيم هذا المخلوق الذي فضّله الله على كثيرٍ من مخلوقاته بل على كلّها قاطبة وبهذا الجهاد العظيم استحقّ التكريم من الله سبحانه وسجود الملائكة له.
إن على المسلم المؤمن الملتزم أن يكون شعاره في الدنيا ذلك الشعار الذي نطق به القرآن الكريم والتزمه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام الطاهرين وطبّقه الأولياء والشهداء والصالحون ألا وهو: { يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه }، فنتيجة التقوى إذن هي تخلية النفس من كلّ الرذائل والنقائص والتحلي بكلّ الفضائل ليتجلّى الله أمام المسلم في كلّ عملٍ يريد أن يقوم به وليرى الإنسان أنّ الله معه في كلّ ممارسة يمارسها ليعيش الخوف الدائم من الله والأمل الدائم بنعيم الله وبهذه النظرة تحلو الحياة ويشعر المؤمن بلذّة العيش ويتمنّى أن يبقى حياً أطول فترةٍ ممكنة في هذه الدنيا ليتزوّد منها أكثر وليجمع رصيداً أكبر ليحظى بالمراتب السامية والدرجات الرفيعة عند العلي القدير يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم، هناك في رحاب ذلك اليوم المهول التي تذهل فيه كلّ مرضعةٍ عمّا أرضعت وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد، في ذلك اليوم الذي لم يعش نعمة التقوى ولم يشعر بلذة الألم في حبس الدنيا ورجاء مثوبة الله ومغفرته ورضوانه عبر التقيّد بأوامره ونواهيه يقول: " يا ليتني كنت ترابا "يوم يتحسّر الإنسان على ما ضيّع في جنب الله وفرّط في حياته ويوم يقول الخاسر: "ربّ ارجعوني لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت"، فيأتيه الجواب الصاعق الذي يتمنّى معه فناءه وهلاكه: "كلا إنّها كلمة هو قائلها".
الصوم والتقوى:
بعد إلمامنا السريع بالتقوى وطرقها وآثارها الدنيوية والأخروية نأتي إلى هذه العبادة الرائعة وهي "الصوم" حيث نجد أنّ الله تعالى جعل التقوى غاية لها وهدفاً ينشأ عنها وليس ذلك بغريبٍ إن صام الإنسان الصوم الحقيقي الذي يريده الله سبحانه وتعالى لما في الصوم من تركٍ لملذّات الدنيا وزخارفها ومباهجها، ولما فيه من تعويدٍ للذات على الصبر وعلى تحمّلٍ لألم الجوع والعطش، وعلى التخلّي عن الشهوات والرغبات ليرتفع الإنسان عن حالة الشهوة إلى الحالة الملائكية التي تصفّي نفس الإنسان وتصقله وتجعله قويّ الإرادة شديد العزيمة قادراً على مواجهة المغريات بعزمٍ وثبات.
إنّ شهر رمضان المبارك شهر الصوم، هو المغسل للروح والمطهّر لها ممّا علق بها من حبّ الدنيا وأوساخها التي قال عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة) ،فالصوم هو الدواء والعلاج الشافي الذي يطرد هذا الحبّ من قلب الإنسان ويطهّر نفسه من ذنوبها وآثامها ولهذا وردت الروايات الكثيرة الناطقة والمصرّحة بأهمية هذا الشهر العبادي ويأتي في رأس هذه المواعظ عن فضائل هذا الشهر خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في استقبال شهر رمضان حيث عبّر عنه بتعابير تليق بمكانته وعظمته :" يا أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله تعالى بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور وأيّامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات. فهذه دعوة إلى تطهير الذات والتخلّي عن كلّ ما يؤدي إلى ابتعادها عن الله عزّ وجلّ كما قال رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله عزّ وجلّ أقسم بعزته أن لا يعذّب المصلّين والساجدين وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين وهو في المقابل دعوة إلى التحلّي بالأخلاق الجيّدة وممارسة الطاعات والعبادات والإكثار من فعل الخيرات ليكتسب الإنسان أخلاق الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ليرتقي في درجات الكمال البشري إلى أعلى مستوى يمكن الوصول إليه كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أيّها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازاً على الصراط المستقيم يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن خفّف به منكم عن ما ملكت يمينه خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله غضبه عنه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه يوم يلقاه، ومن قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه" .
وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الإنتهاء من خطبته عن أفضل الأعمال في هذا الشهر المبارك ؟ فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم) الورع عن محارم الله عزّ وجلّ. وقد ورد في الشريعة الإسلامية أنّ الصيام في حقيقته هو الإمتناع عن كلّ ما يؤدي إلى تكدير النفس واتّساخها بقاذوراتها في الدنيا وهذه القضية وحدها هي الكفيلة لأن يحسّ المرء بقيمة هذه النعمة الإلهية العظيمة وهي الحياة ،ومن هذه الأحاديث :
1 ـ(الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب).
2 ـ (ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه؟).
3 ـ من دعاء الإمام السجاد عند دخول شهر رمضان :(وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك حيث لا نصغي بأسماعنا إلى لغو ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجوز).
فإذا كان هذا هو الهدف الحقيقي للصوم لأنّه الطريق لتحصيل التقوى فمعنى هذا أنّه كلّما استطاع الإنسان أن يقهر نفسه أكثر كلّما صار أقرب من الوصول إلى ذلك الهدف الذي يجعل من حياة الناس ربيعاً ينعم فيه كلّ امرئ ٍ بلذّة العيش وهنائه.
فالصوم إذن هو من أهم طرق مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء التي إن لم يكن الإنسان متيقّظاً دائماً ومتنبّها أبداً فقد تؤدي إلى الردى وسوء المصير ولهذا وردت الأحاديث الكثيرة على لزوم مجاهدة النفس ومحاربة شهواتها لأنّ ذلك هو الضمانة الأكيدة والطريق الأوحد للخلاص من الدنيا وحبائلها ومن تلك الأحاديث الشريفة :
ـ (جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة العدو لعدوّه، وغالبها مغالبة الضدّ ضده، فإنّ أقوى الناس من قوي على نفسه).
ـ (اجعل نفسك عدواً تحاربه، ومحاربة تردّها، فإنّك قد جعلت طبيب نفسك وعرفت آية الصحة وبين لك الداء، ودللت على الدواء، فانظر قيامك على نفسك).
وقد بيّنت الأحاديث الشريفة ما هي الثمار المرجوّة من ذلك الجهاد للنفس.
1 ـ ثمرة المجاهدة، قهر النفس.
2 ـ ردع النفس وجهادها عن أهوائها يرفع الدرجات ويضاعف الحسنات.
3 ـ جاهدوا أنفسكم بقلّة الطعام والشراب، تظلّكم الملائكة ويفرّ عنكم الشيطان.
ومن أجل كلّ هذا فرض الله سبحانه وتعالى الصيام ليكون طريقاً لتزكية النفس وإذابة كلّ ما علق بها من حبّ الدنيا والإنجرار نحوها، الدنيا التي تقف عند كلّ مفترق، وتزيّن كلّ لذة، وشهوة، لتحرّف الإنسان عن صراط الله المستقيم من أجل أن تجعله عبداً لها ويقدّسها بدلا ً من أن يعبد الإنسان ربّه ويقدّسه.
فطوبى لمن صام صيام المتقين، ولبس لباس المستضعفين، وأكل طعام الزاهدين، وهنيئاً لكم أيّها المسلمون المؤمنون في ضيافة الله في شهره المبارك الميمون، واعملوا على أن تكونوا من عتقاء الله فيه، فإنّ الشقي من حرم غفران الذنوب في هذا الشهر العظيم.
" والحمد لله ربّ العالمين "