الصفحة الرئيسية
معاني الجهاد من خلال ثورة الإمام الحسين (ع)
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 2968
السلام عليك أيّها الشهيد، يا أبا عبد الله، يا ابن ريحانة رسول الله.
سلامٌ من الله عليكم ورحمة الله وبركاتٌ لا يحصيها عدٌّ ولا يحدّها حدّ.
سادتي : إن لم أتمسك بكم فمن مُنقذي ؟
وإن لم أسترشد بكم فمن مُرشدي ؟
وإن لم أتّبع طريقكم فمن دليلي ؟
وإن ابتعدت عنكم فمن من الله عاصمي ؟
سادتي : أنتم نور الله في أرضه وسمائه،
وزهرة الكون في فصل ربيعه،
وغياث الناس في يوم حشره،
وأنتم حجج الله على كلّ خلقه.
سادتي : من ظلام أيامنا وليالينا، ومن ديجور الحياة المحيط بنا، ومن هول ضربات الدهر النازلة علينا نستصرخكم، علّكم تسمعون صراخنا علّكم تجيبون نداءنا، ونستصرخكم علّكم تنصرونا.
سادتي : لقد اعتدنا في كلّ عامٍ، وفي بداية شهر محرم الحرام، أن نقيم مجالس العزاء والأحزان، لمقتل سيد الشهداء (عليه السلام) تعظيماً له وتخليداً لذكراه وذكرى ثورته الخالدة التي ما زادتها الأيام إلاّ تألّقاً نضراً وإشراقاً وهّاجاً، يكشف لنا في كلّ عامٍ عن الإنحراف الذي يغمر كياناتنا الخلقية والروحية، وعن الزيف والباطل الذي يفتّت كلّ مجتمعاتنا، ومع هذا نردّد دائماً ونقول في كلّ عامٍ أيضاً وبهذه المناسبة المباركة. "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً". نقول هذه الكلمة المعبّرة ونحن في قرارة أنفسنا نتمنى لو أنّ بيننا وبين واقع تلك الكلمة بُعداً لا يقدّر بالمسافات لأنّنا اعتدنا كثيراً أن نقول ما لا نفعل، فنكذب على أنفسنا ونخدع بعضنا بعضاً وكلّ منا يزايد على الآخرين حتى في هذه الكلمة التي تحمل في طياتها الكثير من العبر التي لا بدّ أن نحاول في هذه المناسبة أن نبيّن بعض جوانبها لكي نكون على بصيرة من أمرنا، ولكي نزن أنفسنا بها، فنقولها إن كانت تصدق علينا ونسعى لأن نكون من مصاديقها إن لم تتوفر فينا عظاتها وعبرها.
هذه الكلمة التي تحمل من جملة ما تحمل في داخلها، أحد أهم الأركان الأساسية للدين الإسلامي ألا وهو "الجهاد في سبيل الرسالة والمعتقد وفي سبيل ما يؤمن به الإنسان من مبادئ وقيم، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله على الأرض وجعل كلمة الذين كفروا هي السفلى". كلمة يقولها الكثيرون في كلّ بقعةٍ من بقاع العالم الفسيح الأرجاء، وهم منحرفو العقيدة، يزيديّو الأفعال والسلوك هذه الحقيقة التي تتوافق مع ما يطرحه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مخاطباً نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}، كما يتوافق مع واقع الثورة الحسينية بشكلٍ واضح وجلي لا غموض فيه وذلك من خلال تتبّعنا لمجريات الثورة الحسينية، حيث يخبرنا التاريخ أنّه خرج مع الإمام (عليه السلام) حين تأهّب للمسير من مكة إلى الكوفة آلافٌ مؤلّفة هذه الجموع التي كانت تظن أو تعتقد أنّ الحسين (عليه السلام) إنّما هو سائرٌ إلى نصرٍ مؤزّر وطريقٍ سهلٍ لا صعوبة فيه. فيكون قتالهم معه فرصة ثمينة في كسب مغانم الحرب، ولكنّه حينما انجلت لهم حقيقة الموقف وأنّ ثمن النصر الذي لو حصل سيكون كبيراً جداً، وقد لا يكون هناك نصرٌ أصلا ً، تراجعت تلك الجموع لكي تنجو بأجسادها الفانية ولتميت أرواحها وهي لما تزل بعد في لباس الأحياء ظاهراً.
غير أنّه لا بدّ من النفاذ إلى عمق التعبير المذكور لنستخرج منه ما نريد فنقول :
أولا ً : (يا ليتنا كنا معكم)، فيا ليتنا كنا مع من ؟ بعضنا قد يقول في أعماق نفسه يا ليتني كنت مع جيش يزيد، لأنّه من الذين انتصروا وفازوا، أي وبمعنى آخر يقول يا ليتني كنت مع الفاسقين. ومنهم من يقولها ويقصد بها يا ليتني كنت فعلا ً مع الحسين (عليه السلام) لأنّه هو الذي عاش وأصحابه خالدين عن طريق فناء أجسادهم بإرادتهم واختيارهم. ولكن مع الأسف هذا النموذج قليلٌ ونادر، والنموذجان المذكوران من خلال يا ليتنا كنا معكم مستنبطان من واقع عصر الإمام الحسين (عليه السلام) وكلّ العصور اللاحقة حتى يومنا هذا. وأمّا بالنسبة لظاهر كلامنا فهي تعني يا ليتنا كنا مع الحسين (عليه السلام) الذي هو الممثل الشرعي الوحيد للخط الإسلامي الصحيح في عصره والذي كان يمثّل العقيدة إيمانياً وعملياً أكمل تمثيل مستقيم خال ٍ من النقص والإنحراف، ولأنّه المؤتمن على حفظ العقيدة وتشريعها من كلّ انحرافٍ أو تعطيلٍ من قبل الآخرين المسيطرين على مقدّرات الحياة ومجريات الأمور، فعندما أقول هذه الكلمة فهي تعني يا ليتني صحيح العقيدة مستقيم السلوك، وإلاّ فإن لم أكن كذلك فلست ممّن يجب أن يقول تلك الكلمة أو يتفوّه بها لعدم انطباق الصفات التي يريدها (عليه السلام) أن تكون موجودة في نفوس الأشخاص الذين يودّون أن يكونوا معه وإلى جانبه.
ثانياً : (فنفوز فوزاً عظيماً) فالفوز هو الإنتصار، ولكن قد نتساءل أيّ انتصارٍ نريد ،انتصار الباطل على الحق والقوي على الضعيف والظالم على المظلوم ؟ أو انتصار الحق على الباطل ؟ هنا نقول نفس التحليل، فمن يقولها وهو منحرف العقيدة فيقصد بالفوز فوز الباطل على الحق، لكي يتمتع بالحياة الفانية الزائلة، لأنّ الفوز يكسبه عمراً جديداً ووقتاً زائداً إضافياً يستغلّه في إشباع نزواته الشيطانية الحقيرة، وأمّا من يقولها وهو صحيح العقيدة فيقصد بها الفوز الذي يكون نتيجةً حتميّة لوعدٍ إلهي إن قام المؤمن بواجبه الصحيح تجاه حماية دينه ومعتقده الذي هو الملجأ الوحيد الذي لا بدّ من اللجوء إليه والإحتماء به والسعي من خلاله لإيصال الإنسانية إلى الحياة الحرّة الكريمة، التي تقرّب العباد من خالقها رتبة ومكانة، وتزيدها في الدنيا شرفاً وعزة ً وكرامة ً، ونحن عندما نقولها نقصد هذا المعنى الثاني ـ انتصار الحق على الباطل ـ ليكون الحق هو المنتصر والباطل المنهزم، فالإنتصار للحق لا يكون إلاّ عن طريق ٍ مُرض ٍ لله ورسوله، وهذا الطريق هو الجهاد بكافّة معانيه ويكون هدفه هو الوصول إلى الغاية التي يريدها الله ويرتضيها منّا ألا وهي إعلاء كلمته ومحو كلمة الباطل.
فإذن هذه الكلمة التي اعتدنا سماعها في المجالس الحسينية تتضمّن الركن المهم الذي هو الجهاد، الذي يمثل بدوره في شرعنا الإسلامي الطريق الوحيد للوصول إلى الغاية المنشودة وهي إقامة الحكم العادل الذي يتساوى فيه الناس كافة على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ولهذا نرى أنّ الله سبحانه قد بيّن فضل هذا الركن العظيم على غيره من الأركان الأخرى في مواضع عديدة من كتابه الكريم ولعلّ أبرزها الآية التي تقول: {فضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً}.
فالجهاد هو الوسيلة التي علينا أن نستعملها كسلاحٍ أو حدٍّ للوصول إلى ما نتمنّى وننشد من إقامة مجتمع الحق والكرامة، غير أنّه لا يمكننا أن نقفر قفرة ونقول أنّ مطلق الجهاد هو ذلك السبيل الأوحد، بل الجهاد المطلوب منّا شرعاً هو ما كانت مستلزماته مكمّلة له وممهّدة الطريق إليه حتى نكون فعلا ً ممن قال الله عنهم:{إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل}، هذا هو عنوان الجهاد المطلوب، هو أن يشتري الله منّا أرواحنا لكي يعطينا بدلا ً منها أرواحاً ذات حياةٍ أزلية لا فناء لها إلاّ ما شاء هو نفسه سبحانه، لأنّ من يبع لله نفسه يعش الدهر رمزاً للفداء والتضحية ويخلد في ذاكرة التاريخ وضمير الإنسانية مدرسة تملي على الأجيال اللاحقة، كيف تكتسب الحياة، ويكون في الوقت ذاته حياً يُرزق في مقامٍ كريمٍ عند ربٍّ غفورٍ رحيم.
فللجهاد مستلزمات لا بدّ من تحقّقها قبله حتّى يكون أحدنا على بصيرةٍ من أمره وواثقاً مطمئنّاً بأنّ جهاده لن يكون عبثياً، وأنّ الفوز بجانبه سواء إنتصر أو استشهد، لعلمه بأنّ الرابح في كلتا الحالتين كما عبّر عن ذلك سبحانه وتعالى بقوله :{قل هل تربّصون بنّا إلاّ إحدى الحسنيين}، أي إمّا النصر على أعداء الله وإمّا الشهادة في سبيله، ويأتي في قائمة مستلزمات الجهاد ـ الإيمان ـ الذي هو قوّة مربوطة بالإمداد الغيبي الإلهي الذي يعبّيء طاقات الإنسان ويشحنها دائماً، حتّى يجعلها قادرة على الإستمرارية في كفاحها ونضالها لكي لا تُصاب تلك الطاقات بالتخاذل أو التقاعس أو اليأس، لأنّ هذه الصفات هي للكافرين كما عبّر سبحانه: {ولا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون}، فالإيمان الصحيح الثابت هو الذي لا يعرف اليأس إلى الوصول إليه سبيلا ً فمتى وجد ارتفع الكفر وتبعاً له اليأس لأنّه من لوازمه التي ترتفع بارتفاعه، ويحلّ محلّه الأمل الكبير بالفوز المحقّق المبين الذي يكون ناتجاً عن الإعتقاد بأنّ الله سبحانه لا يتخلّى عمّن يسعى إليه، ولا ينكر من يعمل على إعلاء ذكره وإحياء أمره بل يمدّه بكلّ ما يحتاج إليه إن كان صادقاً في إيمانه، وهذا ما عبّر عنه بقوله: {إن تنصروا لله ينصركم}، والإيمان بتفسيرٍ آخر هو مطابقة المعتقد القلبي للفعل الخارجي فإن كان التطابق هو الحاصل كان معنى هذا أنّ الإيمان ثابت وحقيقي وإن كان عدم التطابق هو الحاصل، فهذا يعني الخلل الذي قد يكون ناتجاً عن الخطأ في التطبيق أو الضعف في المعتقد وعدم الرسوخ الفعلي للعقيدة، فعلينا لكي يكون جهادنا صحيحاً أن نعمل على إزالة الموانع التي تسبب الإنعدام بين المعتقد وما ينعكس عنه من أفعال، لكي نصل إلى المستوى الإيماني المطلوب الذي هو "عقد في القلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان" كما عبر عنه في المرويات عن أهل البيت (عليهم السلام) هذه الكلمة الموجزة التي تعبّر عن الإيمان المطلوب تحصيله لكي يكون جهادنا مرتكزاً ومستنداً إلى قاعدة صلبة لا تجبن ولا تضعف في المواقف التي تتطلّب صموداً وثباتاً وقد ورد في الحديث أفضل الجهاد كلمة حقٍ تُقال عند سلطانٍ جائر وهذا ما دفع إمامنا (عليه السلام) حياته ثمناً له، ثمناً لكلمة حقٍّ أراد أن تصل إلى أهل زمانه، بل أرادها أن تكون صرخةً تُقلق كلّ الظالمين والمضطهدين، تلك الكلمة التي لا يقولها إلاّ من وصل في إيمانه إلى الدرجات العلى والمقامات السامية، خاصة إذا أدرك أنّ حياته ثمنها ولكن مع هذا أقدم (عليه السلام) على ذلك لأنّه أيقن أنّ بذل المُهج تكون رخيصة إذا كان الهدف منها أنبل وأهم من الحياة نفسها، فسيستعذب الموت الجسدي بل ويستعجله لتحقيق ذلك الهدف العظيم وهذا ما فعله (عليه السلام) حيث هانت عليه حياته عندما وجد أنّ موتها هو السبيل الأوحد لإحياء دين الله وشريعته، وكانت كلمة حقّ قالها دون خوفٍ أو وجل: "ألا وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برما"، وكانت تلك التضحية الرائدة التي ما زال دويّها يهدر في أعماق الزمن وصوتها يدوّي على مرّ الأجيال والعصور، لا للظلم والطغيان، لا للكفر والباطل، لا للخضوع واليأس، ولا لغير طريق الرحمان، فالإيمان لا كفر معه ولا جبن ولا تخاذل، لأنّ وجودها يعني عدمه، ويعني عدم الإتصال الروحي بين الخالق والمخلوق، وعدم فعاليات الطاقات الروحية المختزنة في النفس الإنسانية.
ويأتي في سلسلة المستلزمات بعد الإيمان ـ الإستعداد ـ الذي يعني تجهيز كلّ الطاقات الفكرية والنفسية والبدنية والمالية والإجتماعية كما عبّر عن هذا الإستعداد بقوله تعالى :{وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم}، لان من لا إيمان له، لا شكّ عدو لله، قبل أن يكون عدواً لنا، لأنّ العلّة من خلق الإنسان لا لكي يكون المخلوق عدوّاً للخالق، بل ليكون خليفة له يطيع أوامره وينفّذ رغباته، فإذا شذّوا انحرفوا عن هذا الخط الثابت، فلا بدّ من محاربته، بواسطة من بقي صامداً على الخط الذي هو الخط الإيماني العقيدي، ولهذا كان لا بدّ من الإستعداد ليحقق الجهاد ما هو متوقع منه، وهذا لا يكون إلاّ بأن تكمل العدّة من جميع جوانبها، ومن جملة الإستعدادات :
أولا ً - الإستعداد الفكري :
أي أنّ على الإنسان أن يسعى إلى فهم معتقده فهماً صحيحاً كاملا ً شاملا ً لكلّ جوانب العقيدة ونظامها، وهذا لا يتمّ إلاّ بالإستناد إلى المصادر الأساسية للشريعة، حتى يكون الجهاد الفكري محققاً لما يُراد منه، وهو منع الإنحراف وتقويم الإعوجاج، وإلاّ فلو لم نفهم عقيدتنا الفهم الواعي القادر على الإصلاح، فلا شكّ أنّ الأمور ستسير من سيّءٍ إلى أسوأ، وسيكون جهادنا ساعتئذٍ أصعب بكثير لأنّ الإنحراف سيعم ويكون هو المسار الذي شكّله الناس، وهذا ما لا نريد الوصول إليه قطعاً فالفهم الصحيح للعقيدة لا يكون إلاّ بالرجوع إلى من هم أهلٌ لذلك لكي يرشدونا إلى أفضل الوسائل وأنجحها لتحقيق هذا الهدف، وهذا ما كان إمامنا (عليه السلام) يحاول أن يقوم به، أي أن يقوّم الإنحراف بالطريقة الفكرية أولا ً منعاً لإراقة دماء المسلمين وإهدارها اتباعاً لقوله سبحانه وتعالى: {وأصلحوا ذات بينكم}، غير أنّ الآخرين أجبروه على سلوك الطريق الآخر.
ثانياً - الجهاد النفسي :
أي أنّ علينا أن نكون في كلّ عملٍ نقوم به أن نضع نُصب أعيننا الميزان الدقيق الذي شرّعه الله لنا للتمييز بين ما يريد وما لا يريد حتى لا تقع أعمالنا متنافية مع معتقدنا وحتى يكون سلوكنا متطابقاً مع الفكر العقيدي الرسالي، ولهذا فإنّ كلّ عملٍ نقوم به لا يخلو من حالاتٍ أربع :
أ – أن يرضي الله والناس.
ب – أن يرضي الله ويغضب الناس.
ج – أن لا يرضي الله والناس.
د – أن يرضي الناس ولا يرضي الله.
فأعمالنا كما قلنا هي انعكاس للمعتقد ولهذا يجب على الإنسان إذاً أن يكون مجاهداً حقيقياً أن يحارب نفسه ويسعى لتجنّب كلّ عملٍ يكون من القسمين الأخيرين، لأنّ العمل ساعتئذٍ يعبّر عن عدم اكتمال العقيدة أو عدم فهمها بشكلها المطلوب، فيكون قد خلط عملا ً صالحاً بآخر سيّئاً، وهذا يبعد الإنسان عن ساحة الجهاد الحقيقية في سبيل الله سبحانه، وأمّا إذا كان من القسمين الأولين وخاصة القسم الثاني، أي العمل المرضي لله والمغضب للناس، فهذا يكون دليلا ً على صلابة المعتقد ورسوخه، لأنّ مخالفة هوى المجتمع المنحرف طريق صعب ولوجه والتخلص منه. وهذا الجهاد هو ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كان بإمكانه أن يبايع يزيد الفاسق الفاجر المعلن كفره للناس وينجو بحياته ويكسب رضى الناس المنحرفين وراء التيّار المنحرف الشاذ، فيكون قد أغضب الله وأرضى الناس وخاصة أنّ العروض التي قدّمت له ممّا يسيل لعاب أصحاب الدنيا عليها لكثرتها ولأنّه مع هذا أبى أن لا يرضي الله ويغضب يزيد ويقدّم نفسه قرباناً على مذبح الشريعة السمحاء عنواناً للوفاء وصدقاً للعهد وكان أن أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) موقفه صراحة حيث قال: "إنّ يزيد رجلٌ فاسق ومثلي لا يُبايع مثله"، فهذا ممّا يدلّ على رسوخ العقيدة وعلى التطابق المثالي في الفكر والسلوك الذي أهم وأبرز أمثلة هذا التطابق جهاد الإنسان مع نفسه ضدّ شهوات الدنيا وملذاتها، هذا الرسوخ العقيدي الإمامي، الذي علينا أن نتخذه مدرسة للعمل على أن نكون فعلا ً من أتباع الحسين (عليه السلام) وإذا أردنا أن نكون صادقين في قولنا :"يا ليتنا كنّا معكم" وإلاّ فإنّنا يزيديون منحرفون مخادعون لله وأنفسنا ومجتمعنا الذي سنكون ساعتئذٍ معوّل هدمه وتدمير قيمه، ومبادئه، فالجهاد الأكبر، جهاد النفس، يعطي الإنسان خطّاً ثابتاً فيكون قوّة تكشف للإنسان عيوب الأعمال ومحاسنها فيختار ما هو الأحسن لنفسه وربّه ومجتمعه ويدع ما هو عكس ذلك.
ثالثاً - القوّة العسكرية :
وهي استعدادٌ لا بدّ منه ولكن بعد أن نكون قد يئسنا من الإصلاح في المراحل السابقة نتيجةً للإستمرار في الإنجراف البعيد عن ميدان الشريعة فساعتئذٍ لا بدّ من أن تكون الوسيلة هي القتال بكلّ أنواعه ابتداءً بالأقل قسوة ً وإيلاماً حتى نصل إلى القمة في هذا الجهاد، الذي هو بذل الأنفس رخيصة في طريق الإصلاح والبناء الإنساني وهذا ما انطبق على إمامنا الحسين (عليه السلام) أيضاً، بعد أن استنفذ كلّ الوسائل السليمة لتقويم الإعوجاج فلم تعره السلطات الحاكمة الأذن الواعية التي تستجيب لمطالبه المحقّة العادلة التي هي حقّ شرعي له بحكم موقعه الإئتماني على الشريعة ونظامها، ففضّل ساعتئذٍ أن يضحّي بحياته لتكون صدمة عنيفة لعلّها تكون دافعاً للمجتمع للتعبير عن الثورة الكامنة في نفوسهم، والتي كبّتوها خوفاً من البطش الذي مارسه الحكّام في ذلك الوقت، فكان الإمام (عليه السلام) هو المنظر بمبادئه وأفكاره لكلّ الثورات التي جاءت من بعد ذلك سعياً من الإنتقام الغاشم الغادر الذي جعل من العالم الإسلامي مزرعة لبني أمية يعيثون فيها الفساد بعد أن أخذوا خيراتها وأرزاق أهلها، فالإمام الحسين (عليه السلام) تخيّر بين أن يموت كما مات الأئمة (عليهم السلام) من قبله بالسمّ أو القتل من دون أن يكون لمقتله ذلك الصدى الموجع الموقظ لضمير الأمّة، وبين أن يستشهد في ساحة الجهاد ليكون شهيد الفضيلة وليصبح نبراساً يهتدي به من يريد التخلّص من كلّ حاكمٍ ظالمٍ لنفسه وشعبه، واختار (عليه السلام) الطريق الثاني عن حكمة وتعقّل، فكان تصرّفاً حكيماً من رجلٍ حكيم لموقف يتطلب صلابة ً ورسوخاً عقيدياً لم يكن متوافراً في ذلك الزمن بغيره، فآثر أن ينال هو ذلك الشرف المجيد فاستحقّ بذلك لقب سيّد الشهداء بلا منازع، فالجهاد بالروح لا يقدر عليه كلّ إنسانٍ، بل هذا الجهاد هو وقف على أولياء الله الخاصّين كما عبّر الإمام علي (عليه السلام) عن ذلك في خطبته المشهورة التي يقول في مطلعها :"ألا وإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله لخاصّة أوليائه" الذين يقدّرون معنى الجهاد ويعظمون دوره ولا يتهيّبون في بذل أرواحهم ليدخلوا الجنة من ذلك الباب الواسع الذي لا يفتح إلاّ لمن كان في تلك الدرجة الرفيعة من المستوى الإيماني الذي يسترخص كلّ شيء في سبيل إحياء القيم والمثل العليا التي تعبّر عنها شريعة الله الخالدة، ولهذا نرى أنّ الإمام (عليه السلام) قد جسّد تلك التضحية الرائدة والبطولة الأمثولة بقوله: "إن كان دين محمد لم يستقم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني".
رابعاً - الجهاد المادي :
وهو نوعٌ آخر من أنواع الإستعداد جعله الله لعامّة الناس وخاصة لمن لا يقدر على الجهاد العسكري فجعل له هذا الجهاد بدلا ً عنه وحبّبه إلى نفوسنا ووعدنا عليه بالثواب الجزيل والخير العظيم لأنّ الجهاد المالي لا يقلّ أهمية وخطراً عن الجهاد العسكري، لأنّ الإنسان بحكم طمعه وأنانيته، وبحكم نفسه الأمّارة بالسوء تنازعه دائماً إلى امتلاك الثروات لكي يتنعّم بها على حساب غيره، فأراد الله أن يفتح للإنسان بابا إلى جنانه، فجعل لهم هذا الطريق وحثّ عليه في كتابه الكريم حيث يقول عزّ من قائل: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة}،كلّ هذا لكي لا يشعر الإنسان بالفراغ إن هو لم يقدر على أن يجاهد عسكرياً بل لكي يحسّ بأنّ ّعليه دوراً في المجتمع عليه أن يؤديه، غير أنّ اختصاص الجهاد المالي بالعاجز لا يمنع من أن يكون الإنسان مجاهداً في الحالتين المالية والعسكرية إذا كان متمكناً منهما لكي ينال شرف المجاهديين معاً ولتعلو مرتبته عند الله وليكون أنموذجاً صالحاً لغيره في البذل والتضحية والإيثار للمصلحة الفردية الضيّقة الأفق والمجال، وهذا النوع من الجهاد لم يفت أئمتنا (عليهم السلام) فقد ورد عنهم الكثير من الأحاديث التي تدلّ على سخائهم وجود أياديهم في سبيل إضفاء السعادة على مجتمعهم وقد ورد أنّ أهل المدينة لما مات الإمام زين العابدين (عليه السلام) قد أحسّوا بفراغٍ ملحوظ تركه بعد موته، فتبيّن لهم عندئذٍ أنّ الذي كان يدور عليهم في جوف الليالي حاملا ً لهم ما يتمكنون به من مواصلة حياتهم إنّما هو الإمام العظيم، فالجهاد بالمال إذن ليس بالأمر السهل خاصة عندما يقول الله سبحانه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}، ولهذا فالتضحية بالمال من أجل الهدف أمرٌ لا يطيقه الا ذو حظ عظيم ومكانة عالية من الشرف.
خامساً - الجهاد الإجتماعي :
وهو أن يعمل كلّ منّا على رفع البؤس والشقاء والظلم عن المحرومين والمستضعفين ويسعى لكي يؤمن لهم حقوقهم المشروعة التي اغتصبها منهم الظالمون الفاسقون لأنّ من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم كما في الحديث، وهذا ما كان إمامنا (عليه السلام) ناوياً فعله، بعد أن وصلته تلك الآلاف المؤلّفة من الرسائل التي تطالبه بإرجاع الحقّ إلى أصحابه بإعادة توزيع الأدوار داخل كيان المجتمع الإسلامي الذي يخضع لسلطة القهر والإستكبار.