الخميس, 21 11 2024

آخر تحديث: الجمعة, 01 آذار 2024 3pm

الصفحة الرئيسية

من نستشير، كيف، ومتى

sample imgage

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله...}[1]، وقال تعالى: {والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون}[2].

وردت مسألة الشورى بوضوحٍ في هاتين الآيتين وفي غيرهما من آيات القرآن، وهذا يدلّ على أهميتها لأنّ الإنسان مهما كان عاقلاً ومُدركاً وحكيماً وواعياً ومدبّراً، فإنّه لا يستطيع الإستغناء عن استشارة الآخرين وأخذ رأيهم في العديد من الموضوعات والأمور التي تحصل مع الإنسان على امتداد فترة حياته في هذه الدنيا، وسبب

عدم استغناء الإنسان عن الإستشارة هو أنّ العقل الفردي مهما كان واسعاً في أُفقه ومعلوماته وتجاربه فهو لن يستطيع الإحاطة بكلّ ما يحتاج إلى معرفته ممّا له علاقة بحياته، ولذا نجد أنّ الإستشارة منتشرة بكثرة في أوساط المجتمعات الإنسانية وليس ضمن مجتمعنا الإسلامي فقط، إذ كان الإسلام قد أعطى هذه المسألة أهمية ودوراً وموقعاً في منظومته التشريعية والعلمية، وقد ورد في القرآن الكريم نماذج عن الإستشارة العملية أيضاً كما في كلام بلقيس ملكة سبأ عندما وردها خطاب النبي سليمان (عليه السلام) حيث قالت: {قالت ياأيها الملؤا افتوني في امري ما كنت فاطمة أمراً حتّى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين...}[3] ، وكذلك عندما حضر النبي موسى (عليه السلام) ومعه أخوه النبي هارون عند فرعون مصر وأظهر لهما الآيتين من الله عزّ وجلّ، استشار فرعون كبار معاونيه فأشاروا عيله بإحضار السحرة من كلّ أرض مصر لمُنازلة النبي موسى (عليه السلام) ليغلبوه في عمل السحر الذي كانوا يمارسونه وقال تعالى حكاية عن ذلك: {قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكلّ ساحرٍ عليم...}[4].

ولكن من نستشير، وكيف، ومتى؟ هذا هو الأمر المهم في مسألة الإستشارة، لأنّها نوعٌ من طلب النصيحة من الغير والإستشارة بآرائهم وإرشاداتهم ونتائج تجاربهم في الحياة، وعندما يستشير الإنسان الآخرين فهو من أجل توسيع دائرة معلوماته حول الأمر المنوي فعله أو القيام به، وتوسيع الآفاق حتّى تتوضح الصورة لديه أكثر فيقدم على العمل بعد الإستشارة وهو على حالةٍ من الإطمئنان والإستقرار.

والإستشارة لا تدلّ على ضعف عقل المستشير، بل تدلّ على رجاحته وعلى رزانته حيث يعمل على التشاور مع الآخرين احتراماً لنفسه وللآخرين، بعكس الذي لا يستشير ويعمل انطلاقاً من ذاته فقط حيث يتصوّر أنّه قادر على القيام بأيّ عملٍ دون مشاورة أحد وقد يقع في شرّ أعماله لأنّه وضع نفسه في موضع العارف والعالم والمستبد برأيه، وهذا هو ضعف العقل وعدم رجحانه.

v من نستشير في هذا الأمر؟ لا بدّ أن نستشير الإنسان العاقل العارف والخبير بما نحن مقدمون عليه، فلهذا ورد في الحديث الشريف يجب أو ينبغي من أن نستشيرهم، ومن تلك الأحاديث:

1- (شاور في حديثك الذين يخافون الله) ، الإمام علي (عليه السلام)[5].

2- (استرشدوا العاقل، ولا تعصوه فتندموا) ، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[6].

3- (أفضل من شاورت ذو التجارب) ، الإمام علي (عليه السلام)[7].

4- (خير من شاورت، ذو النهى والعلم وأولو التجارب والحزم)[8].

فالواضح من هذه الأحاديث أنّ المستشير ينبغي أن يستشير من تتواجد فيهم الصفات التي تدلّ على التعرف وسلامة التعرّف والإتزان في القول والعمل وأن يكون المستشار من أصحاب التجارب لأنّه أقدر على إعطاء الرأي السديد والقول الرشيد، وأن يكون أميناً لا يوقع المستشير في الخطأ والإنحراف، وأن يكون قبل كلّ هذا ومعه ممّن يخافون الله ويخشونه لأنّ خوفه من الله يدفعه لأن يعطي المستشير النصيحة الجيدة التي تبرّئ ذمّته أمام الله عزّ وجلّ.

ونجد في المقابل أنّ الإسلام نهى عن استشارة أصناف أخرى من الناس لدواعٍ عديدة، وقد ورد في الحديث الشريف عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام):

1- في كتاب الإمام علي (عليه السلام) للأشتر عندما ولاّه مصر :(... لا تدخلنّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن القضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزيّن لك الشره بالجور...)[9].

2- (لا تستشر الكذاب، فإنّه كالسراب، يقرّب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب)[10] ، الإمام علي (عليه السلام).

3- (لا تشاور أحمق، ولا تستعن بكذّاب، ولا تثق بمودة ملول...)[11]، الإمام الصادق (عليه السلام).

ومن الواضح من صفات هؤلاء المنهي عن استشارتهم أنّهم ليسوا أسوياء من الناحية العقلية والأخلاقية، لأنّ البخل والجبن واللجاجة والحمق من صفات غير العاقلين وهؤلاء قد يوقعون الإنسان في الأخطاء بحقّ نفسه أو بحقّ الآخرين أو الإثنين معاً، لأنّ أراءهم ليست نابعة عن عقلٍ راجح ورأيٍ سديد وتصرّفٍ رزينٍ ومحترم.

والأفضل في باب الإستشارة أن يختار المستشير أصدقاءه المقرّبين منه والمخلصين له، لأنّه من جهة ثقته بهم وقربه منهم لن يخونوه أو يشوروا عليه بغير ما فيه مصلحته ومنفعته، ولأنّ الصديق خصوصاً إذا كان مجرّباً صادقاً هو خير معينٍ ونعم السند في هذا المجال، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في ذلك: (... والثالثة أن يكون صديقاً مواضياً)...[12].

v كيف نستشير؟ أمّا عن كيفية الإستشارة، فالإسلام لم يحدّد طريقة معيّنة أو أسلوباً خاصاً في هذا المجال، إذ إنّ هدف الإستشارة الوصول إلى وضوح الرؤية عند المستشير بالأمر المقبل عليه حتّى يسير بخطى ثابتة وواثقة في الأمر الذي استشار فيه، وهذه الرؤية الواضحة قد تتحقّق باستشارة فردٍ أو فردين أو جماعة تكثر أو تقل للوصول إلى الغرض المنشود، وإن كانت الطريقة الأمثل أن يستشير أكثر من شخص وكلّ واحدٍ منهم بمفرده حتى يستنير بآرائهم ثمّ يختار منها ما هو الأفضل بنظره وحسب رأيه للأخذ به، وأحياناً قد تكون الإستشارة لمجموعة مفيدة أكثر نظراً لطبيعة الموضوع المطروح من جانب المستشير. فكيفية الإستشارة راجعة إلى حساسية الموضوع ودقّته وأهميته للمستشير، فإن كان الموضوع خطيراً وله تداعيات مهمّة ومؤثّرة فقد يكون من الأفضل استشارة مجموعة من ذوي العقول الخبيرة والبصيرة، وإذا كان الموضوع عادياً فقد تكفي استشارة عدد قليل كلٌّ على انفراد للإستنارة بآرائهم.

وفي مطلق الأحوال فالكيفية تحدّدها المواضيع المطروحة للإستشارة، وهذا ما يفعله الأفراد عادة كما هو الملاحظ، بل حتّى الدول تتشاور فيما بينها في الموضوعات الخطيرة، لأنّ الإستشارة لا تختصّ بعمل الفرد فقط، بل تشمل عمل الجماعة والعائلة والقرية والمدينة والدولة والأمّة وفق معايير تعمل بها الناس وفق الموضوعات المطروحة للتشاور والنقاش.

v متى نستشير؟ أمّا عن وقت الإستشارة فهو بحسب العادة قبل الشروع في العمل المنوي القيام به، لأنّ الإستشارة بعد العمل لا قيمة لها لأنّ ما حدث قد حدث، والإستشارة لن تغيّر من الواقع، نعم بعد العمل الإستشارة قد تؤدّي إلى التوقّف عن ارتكاب الخطأ أو الرجوع عن الإنحراف إن كان المستشير قد أخطأ فيما فعل بدون الإستشارة.

ولا بدّ هنا من لفت النظر إلى مسألة مهمة وهي أنّ هناك أمراً قبل الإستشارة وهو "الإستخارة" بمعنى أن يتوجّه الإنسان إلى ربّه أولاً ليستخيره فيما يريد أن يفعل ومعنى الإستخارة هنا هي استشارة الله عزّ وجلّ الذي لا يبخل على عبيده المؤمنين بالنصيحة الصادقة وفق نية العبد وتوجّهه الإيماني والعقائدي، ولذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) :(إذا أردت أمراً فلا تشاور فيه أحداً حتى تشاور ربّك ، قال الراوي: قلت له: وكيف أشاور ربّي؟ قال (عليه السلام): تقول: "أستخير الله" مائة مرة، ثمّ تشاور الناس، فإنّ الله يجري لك الخيرة على لسان من أحب)[13]، فهذا الحديث يتضمّن إشارة ربانية لطيفة جداً ومؤثّرة لأنّ الإنسان عندما يلجأ إلى ذلك القول "مائة مرة" مستنداً إلى ثقته بربّه وتوكّله عليه، فإنّ الله عزّ وجل سيفتح أمامه باب استشارة الناس يجري الله الحقّ على لسانهم فيعطونه المشورة التي تفيده وتنفعه وهذا ليس على الله بكثير وهو الذي يعلم السرّ وأخفى.

بقي أن نشير إلى أمور مرتبطة بالإستشارة، خصوصاً لجهة المستشار الذي نطلب استشارته فهذا الإنسان ورد في حقّه من الأحاديث ما يدلّ على أهمية فعله ودوره في مجال تسديد الأعمال وتصحيح الأفعال لأنّه مؤتمن، والمؤتمن لا ينبغي بل لا يجوز له أن يخون من يلجأ إليه طلباً للإستشارة، وممّا ورد في حقّ المستشار:

1- (إرشاد المستشير قضاء لحق النعمة) ،الإمام زين العابدين (عليه السلام)[14].

2- (تصدّقوا على أخيكم بعلمٍ يرشده ورأيٍ يسدّده) ، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[15].

3- (حق المستشير إن علمت أنّ له رأياً أشرت إليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم)[16] ، الإمام السجاد (عليه السلام).

وهذه الأحاديث تدلّ على أهمية النصائح والتعاون والتكامل بين أفراد المجتمع الإسلامي الذي يريده الله مجتمعاً واعياً عالماً منفتحاً على الحياة بكلّ ما فيها من تفاصبل ومجريات وسلوكيات وأعمال، وعندما تكون الإستشارة صادقة ومخلصة فيما بين أفراد مجتمع المسلمين فهذا سوف يعود بالنفع على كلّ الأفراد والجماعات التي يتألّف منها المجتمع الإسلامي.

والإستشارة لذوي الخبرات والتجارب والعقول النيّرة هي بمثابة العلم قبل العمل، فإذا علم الإنسان ثمّ عمل لم يخطئ في عمله، وإن أخطأ بشكلٍ غير مقصود، وكذلك المستشير فإذا عمل بعد الإستشارة فهو سوف يكون عالماً بما هو مقدم عليه، أمّا إذا عمل من دون الإستشارة فهو قد يقع في الخطأ نتيجة تقصيره وإهماله.

لهذا كلّه نؤكّد على أهمية أن يستشير المسلم إخوته المسلمين في أيّ عملٍ يريد الإقدام عليه حتّى يكون على بيّنة من أمره، وينبغي على المستشار أن يشير بالرأي الصحيح والسديد انطلاقاً من كونه أميناً وصادقاً وفق نظرة المستشير إليه.

نسأل الله أن نكون من العاملين بالإستشارة حتّى تكون أعمالنا صحيحة وفاعلة ومؤثّرة ومنتجة حتى تعود بالنفع العميم على كلّ أفراد مجتمعنا وأمّتنا.

والحمد لله ربّ العالمين.



[1] آل عمران/159.

[2] الشورى/38.

[3] النمل/32.

[4] سورة الأعراف/الآيات 109 ـ 110 ـ 111 ـ 112.

[5] المحاسن/ج2/ص 601/ح19.

[6] أمالي الشيخ الطوسي/ ص 153/ح 252/4.

[7] عيون الحكم والمواعظ/ص 123.

[8] مستدرك الوسائل/ج 8،ص 343/ح 9613 ـ 8.

[9] نهج البلاغة (محمد عبده)/ج 3/ص 87.

[10] عيون الحكم والمواعظ/ص 525.

[11] تحف العقول/ص 316.

[12] المحاسن/ج2/ص 602/ح 28.

[13] مكارم الأخلاق/ص 318.

[14] ميزان الحكمة/ج 2/ص 1527 عن تحف العقول.

[15] عدة الداعي/ص 63.

[16] من لا يحضره الفقيه/ج 2/ص 624.