الصفحة الرئيسية
من أهم ما تميزت به الرسالة الإسلامية التي أوحى بها رب العزة لخاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) هي الدعوة إلى توحيد الله في مقابل تعدد الآلهة التي كان البشر يعبدونها في أزمنة الجاهلية .
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 1586
وشعار التوحيد الذي رفعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) عبر دعائه للناس بقوله ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) كان نقطة البداية الأساسية لمسيرة هذا الدين الحنيف الذي جاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) في سبيله وأعطى له كل وجوده وبذل كل طاقاته وإمكاناته من أجل أن يترسخ هذا الشعار الإلهي كمبدأ أولاً ، ثم ليتحول من خلال المؤمنين به والملتزمين إياه إلى فعل وحركة وممارسة تميز المؤمن بهذا الشعار عن البشر الآخرين ثانياً ثم الانطلاق لتكوين المجتمع الإلهي العابد ثالثاً . ومن " كلمة التوحيد " انطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى توحيد كلمة المسلمين الذين آمنوا بالدين الجديد الذي سطع نجمه في حياة الإنسانية ليكون النور الذي يضيء الطريق أمامها، إذ إن من أهم أبعاد كلمة التوحيد توحيد الكلمة بين المسلمين الذين يفرض عليهم إسلامهم أن يعيشوا الوحدة بكل مستوياتها وأبعادها وأهدافها ومساراتها ، لأن عقيدة التوحيد تفرض على أتباعها سلوكاً مختلفاً عن سلوكيات الآخرين، وتوجب عليهم تجسيد مفاهيم الإسلام بالطريقة التي تجعله قريباً من القلوب ومحبباً إلى النفوس وجاذباً إلى الصراط المستقيم كبديل عن كل العقائد المنحرفة التي كانت مسيطرة على حياة المجتمعات ولازالت .
ولا شك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بما تميزت به شخصيته من مميزات شهد بها الصديق والعدو، الموافق والمخالف ، والقريب والبعيد ، استطاع أن يقوم بالدور المركزي والأساس في تحويل المسلمين إلى كتلة واحدة متراصة منسجمة مع بعضها البعض في التصورات والسلوكيات والأهداف، بعد أن كانوا مشتتين ممزقين متناحرين يتقاتلون من أجل أي شيئ ويدمرون حياتهم لأسباب تافهة رخيصة جعلت من حياتهم جحيماً لا يطاق .
وقد تمكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في فترة زمنية قياسية من عمره الشريف ومن عمر الدعوة الوليدة من تحقيق الإنجاز الأهم والأعظم في مسيرة الأمة وهو " تأسيس النموذج الأول للدولة الإسلامية " التي تنامت بعد رحيله وتحولت إلى أبرز دولة عرفها العالم القديم آنذاك حتى أصبحت عقيدة التوحيد هي المسيطرة على الحركة العالمية تقريباً .
ومما لا ريب فيه أن ذلك النموذج الأول للدولة الإسلامية لم يأت من فراغ ، وإنما جاء نتيجة جهود جبارة وكبيرة قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) واستطاع من خلالها أن يحقق ذلك، وقد لعبت شخصيته الرائدة القديرة وتخطيطه المحكم والمتين والهادف في آن معاً في الوصول إلى ذلك .
ويمكن القول إن رسول الله (صلى اله عليه وآله وسلم ) قد صاغ كل تحركاته على أساس هدفين مركزيين يريد تحقيقها :
الأول : تحويل المجتمع عن العقائد الوثنية والجاهلية القائمة على مبدأ تعدد الآلهة واعتبارها المدبر الحقيقي إلى عبادة الإله الواحد الأحد الذي بيده كل شيء .
الثاني : توفير الفرص لإطلاق القابليات الإنسانية من حالة الجمود وفق المقاييس الجاهلية والإنطلاق بها نحو تحقيق المجتمع المبني على الرؤية الإلهية الشاملة للحياة .
ولا ريب أن النجاح الذي حققه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على مستوى الهدفين كشف عن شخصية رجل دولة من الطراز الأرفع في كيفية توظيف كل العوامل والأسباب للوصول إلى المبتغى، وكشف عن الفهم العميق للساحة ومجرياتها خصوصاً على مستوى تحديد الأعداء والمتربصين بالإسلام شراً ، وتحديد مقدار خطورة كل واحد منهم على المشروع الكبير .
ولهذا نجد أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مراحل تأسيس المجتمع الإسلامي الأول في المدينة انصرف إلى قتال قريش ، وجرت معارك عديدة ومناوشات ، وقد سبق هذا القتال اتفاقات عدة مع الجماعات المحيطة بالمدينة أو التي بداخلها على تهدئة الأوضاع وإعطاء الأمان من كل طرف للطرف الآخر لضمان عدم الغدر والخيانة ممن يعيشون بين المسلمين ، حتى ينصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ويتفرغ لقتال قريش التي كانت بنظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) العقبة الرئيس التي تحول دون انطلاقة الإسلام ووصوله إلى مداه ، باعتبار أن قريشاً كانت تتحكم بالكعبة الشريفة قبلة المسلمين ، وتسكن مكة وهي أهم الحواضر في ذلك الجزء من العالم آنذاك .
وكان للقتال مع قريش نتائج إيجابية عديدة من أهمها ذلك الانتصار الرائع الذي حققه المسلمون في معركة بدر ، لأنها كانت التجربة الأولى التي يخوضها المسلمون دفاعاً عن دينهم وعقيدتهم ، وكان لذلك النصر أصداء مدوية في كل أنحاء الجزيرة العربية وما يحيط بها ، لأنه كشف عن القوة والقدرة والعنفوان ومدى الشجاعة في الدفاع عن المبادئ ، واستمرت حالات الكر والفر بين المسلمين وقريش إلى أن كان صلح الحديبية الذي اضطرت إليه قريش والذي حمل اعترافاً أولياً بوجود دولة تختلف في مقوماتها وأهدافها وحركتها عن المحيط الذي كان ما زال يعيش الجاهلية القائمة على الموروثات الباطلة عن الآباء والأجداد .
إن مجريات قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) لقريش ، وتحييد غير المسلمين في المدينة ومحيطها بالاتفاقات المعقودة معهم تكشف عن الشخصية القيادية الفذة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي عرف كيف يستفيد من التناقضات الموجودة ويسخرها لأجل الهدف الكبير .
من هنا نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) انصرف بعد تأمين جانب قريش وضمان اعترافها بالكيان الإسلامي إلى تحصين المجتمع الجديد في المدينة المنورة ، خاصة أن مرحلة القتال مع قريش استنزفت الكثير من الجهود والإمكانات والقدرات ، وكشفت عن الخبث الذي كان يتعاطى به الذين تعهدوا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعدم التعامل مع أعداء المسلمين ، ولهذا سعى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى إخراج اليهود من المدينة ومحيطها ، وجرت معارك عديدة معهم في هذا المجال وكان من أهمها " واقعة خيبر " ، وكانت نتائجها جميعاً لصالح المسلمين ، وبذلك تم تنقية الأجواء تماماً من كل العناصر السلبية التي كان يمكن أن تؤثر بانحرافاتها على مسيرة المجتمع الإسلامي آنذاك .
من هنا لا يمكن إغفال دور صلح الحديبية الذي خطط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) للوصول إليه ، وفي جواب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما سمع أحد المسلمين يقول ( ما هذا بفتح ، لقد صدونا عن البيت قال (صلى الله عليه وآله وسلم ) ( بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتح ، ولقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ، وسألوكم القضية ، ورغبوا إليكم في الأمان ، رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتح ) .
ومن نتائج ذلك الصلح أيضاً أنه سمح للإسلام بالانتشار السريع في العامين المتصلين بالحديبية ، باعتبار أن حركة الرسالة صارت آمنة بذلك الصلح ، وقد أكد القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى: ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) حيث ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت بعد الحديبية نظراً للنتائج المهمة التي ترتبت عليه للمسلمين .
وأبرز الإنجازات بعد تأسيس الدولة الإسلامية والتي كان للشخصة النبوية القيادية الدور الأكبر هو "فتح مكة " في السنة الثامنة من الهجرة ، حيث أعلن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولادة عصر التوحيد وانتهاء عصر الكفر والأصنام والجاهلية ، وتدل طريقة رسول الله في التعامل مع قريش بعد الفتح على بعد النظر والفهم العميق للأوضاع ، حيث كان عفوه عن أكثر جرائم قريش بحق المسلمين مثاراً للإعجاب ومورد مدح لتلك القيادة الرائدة التي تجلت فيها المواصفات الإنسانية بأجلى صورها وأوضح معانيها ، وهذا ما أعطى للرسالة دفعاً قوياً في مستقبل مسيرتها من حيث الانتشار الواسع الذي غطى غالبية أرجاء العالم الذي كان معروفاً آنذاك .
من ذلك كله، نرى بوضوح الشخصية القيادية الحكيمة للرسول في قيادة العمل الإسلامي ، لأن التفاصيل الكثيرة والأحداث المتنوعة التي جرت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) يمكن أن تكون خير معين للعاملين في سبيل إعلاء كلمة الدين على الاستفادة من التخطيط النبوي القيادي لمرحلتنا الحاضرة التي تواجه فيها الأمة تحديات كبرى على مستوى العقيدة والدور وعلى مستوى القرار في العالم .
إننا أحوج ما نكون في هذا الزمن إلى تجربة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) التي صنعت لنفسها القوة والامتداد مستفيدة من كل الظروف التي وظفتها لمصلحة مسيرة الإسلام ، ونحن في هذا الزمن نتمكن من أن نصنع لأنفسنا مكاناً مميزاً إذا عرفنا كيف نستفيد من مجمل التناقضات القائمة بين من يعتبرون أنفسهم مالكي القرار في عالمنا لننقذ أمتنا من كل الشرور والآلام التي تعيش فيها .