الصفحة الرئيسية
لمحات من حياة الإمام الرضا(عليه السلام)
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 2966
ولقد أدت فتنة أصحاب الإمام الكاظم(عليه السلام) إلى تضعضع وتشتيت الركيزة الأساس لأتباع أهل البيت (عليهم السلام)، لأن أولئك الأصحاب الذين كانوا وكلاء الإمام الكاظم(عليه السلام) كانوا يجمعون الأموال لحسابه، وبما أنه عاش لفترات طويلة في السجون، فبعد وفاته رفض الكثير من هؤلاء دفع ما بيده من الأمانات إلى الإمام الرضا(عليه السلام)، بل وصل الأمر ببعضهم إلى حد الادعاء بأن الإمام الكاظم(عليه السلام) لم يمت لكي يبرر عدم رد ما بيده إلى الإمام الرضا(عليه السلام)، ومن هنا نشأت الواقفة، وهم الذين اعتقدوا بالفكرة التي أشاعها هؤلاء وأدت إلى البلبلة والفوضى في صفوف الأتباع، وانقسم الشيعة بسببها إلى من وقف عند الإمام الكاظم(عليه السلام) ولم يتعداه إلى الاعتقاد بإمامة الرضا(عليه السلام) ومن بعده، وكان ممن دعا إلى ترويج هذه الفكرة أيضاً الحكام العباسيون الذين وجدوا فيها فرصة مهمة لتفتيت الشيعة.
وقد جاء في كتاب "الغيبة" للشيخ الطوسي إعتراف بالسبب الحقيقي لابتداع فكرة "الواقفية"، حيث روى الحسين بن فضال فقال: (كنت أرى عند علي بن الحسين بن فضال شيخاً من أهل بغداد وكان يهازل عمي ويمازحه فقال له يوماً " ليس في الدنيا شر منكم يا معشر الشيعة" فقال له عمي " ولم لعنك الله؟، قال: "إني متزوج من بنت أحمد بن أبي بشر السراج، فقال لي لما حضرته الوفاة، أنه كان عندي عشرة آلاف دينار وديعة لموسى بن جعفر فدفعت ابنه عنها بعد موته وشهدت أنه لم يمت، فالله الله خلصوني من النار وسلموها لأبي الحسن الرضا، فوالله ما أخرجنا حبة منها ولقد تركناه يصلى في نار جهنم).
وقد أدت هذه الحركة إلى أن يأخذ الإمام الرضا(عليه السلام) موقفاً متشدداً منها ومن دعاتها، فناظرهم وجادلهم وأبطل آراءهم وادعاءاتهم، فأعاد ذلك كله الكثير من الذين ضلوا بتلك الفكرة، وحكم الإمام(عليه السلام) بكفرهم وسلب عنهم صفة الإسلام لردع الناس عن التأثر بتلك الدعوى الضالة المضللة، ومن الألقاب التي أطلقها عليهم كان لقب" الملعونين" كما في الرواية: (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً...) جواباً لسليمان الجعفري عندما سأله عنهم، وكذلك في رواية أخرى: (لا تعطهم من الزكاة فإنهم كفار مشركون وإنهم يعيشون حيارى ويموتون زنادقة) وأوضح من ذلك ما ورد عنه(عليه السلام): (الواقف معاند للحق ومقيم على سيئة إن مات عليها كانت جهنم مأواه وبئيس المصير).
وأما موقف الخلفاء العباسيين من الإمام(عليه السلام) لم يكن أقل عنفاً وقسوة عن موقفهم من أبيه الكاظم(عليه السلام) ولعل المحاورة التي دارت بين هارون الرشيد وجعفر بن يحيى تلقي ظلالاً وهي: (روى موسى بن مهران عن جعفر بن يحيى أنه قال: سمعت عيسى بن جعفر يقول لهارون الرشيد حين توجه من الرقة إلى مكة: أذكر يمينك التي حلفت في آل أبي طالب فإنك حلفت إن ادعى أحد الإمامة بعد موسى بن جعفر أن تضرب عنقه صبراً، وهذا علي ابنه يدّعي هذا الأمر ويقال له ما يقال في أبيه، فنظر إليه الرشيد مغضباً وقال: ما تريد أتريد أن أقتلهم جميعاً؟ قال موسى بن مهران: فلما سمعت بذلك من جعفر بن يحيى صرت إليه وأخبرته بمقالة الرشيد فقال(عليه السلام): "ما لي ولهم والله لا يقدرون مني على شيء").
ولعل القضية الأبرز في مجال العلاقة التي كانت تتحكم بالمواقف المتبادلة بين بني العباس والإمام الرضا(عليه السلام) هي "ولاية العهد" التي جعلها المأمون للإمام(عليه السلام) بعد سيطرته على أمور الخلافة عقب قتل أخيه الأمين الذي كان قد أقصى المأمون عن ولاية العهد بالخلافة كما أوصى هارون الرشيد الذي جعلها للأمين ومن بعده للمأمون ثم للقاسم.
ولقد قيل في الدوافع والأسباب التي دفعت المأمون إلى جعل ولاية العهد للإمام(عليه السلام) الشيء الكثير، فبعضهم قال لنذر نذره المأمون عندما خلعه أخوه من ولاية العهد بأنه إن انتصر على أخيه فهو سيرد الخلافة إلى الأفضل من آل أبي طالب، وبعضهم قال بسبب تأثير الفضل بن سهل ذي الرياستين عليه، وبعضهم قال إن السبب هو حبه للتشيع أو لتشيعه.
إلا أن السبب الأهم ولعله الدافع الحقيقي للمأمون هو "أنه بعد المعارك الطاحنة بينه وبين أخيه بسبب الصراع على السلطة ضعف موقف السلطة كثيراً مما أدى إلى خروج الشخصيات من بني هاشم على النظام ومعهم غيرهم في حركة ثورية عارمة امتدت من المدينة ومكة إلى البصرة والكوفة وصولاً إلى اليمن، والذي جعل الناس تشارك فيها هو نقمتها من موقف العباسيين ضد أهل البيت (عليهم السلام)، ومما ساعد في خوف المأمون من هذه الثورات هو أن عمدة جيشه الذي قاتل به أخاه الأمين كان من خراسان وفيها الكثير من شيعة الإمام الرضا(عليه السلام) فوجد المأمون أن أفضل وسيلة لإخماد تلك الثورات هي تنازله عن الخلافة للإمام(عليه السلام)، إلا أن الرضا(عليه السلام) كان يعلم تماماً مراد المأمون من ذلك فرفض العرض لعلمه بأنه لن يحقق من خلالها ما هو الهدف المطلوب أي "إعادة تصحيح المسيرة وتقويم الاعوجاج ونشر العدل والأمن والسلام بين أبناء الأمة"، إلا أن إصرار المأمون جعله يقبل بمنصب ولاية العهد مكرهاً وبشروطه التي وضعها بنفسه، حتى لا يفهم المسلمون من قبوله أنه قد صار جزءاً من السلطة، وكان شرطه هو ( على أن لا آمر ولا أنهى ولا أعزل ولا أولي ولا أسير حتى يقدمني الله قبلك فوالله إن الخلافة شيء ما حدثت به نفسي).
وهنا يوجد نص من المأمون في مجلس ولاية العهد يقول فيه للإمام(عليه السلام): (يا أبا الحسن أنظر بعض من تثق به توليه هذه البلدان التي قد فسدت علينا)، وفيه إشارة شبه صريحة على الدافع، ولعل النص الأكثر وضوحاً في هذا المجال هو ما خاطب به المأمون بني العباس عندما جعل الإمام ولياً للعهد، فقال لهم: (أما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى الرضا فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم وأن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم وأنتم ساهون لاهون في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم).
ويحق للمرء أن يتساءل في هذا المقام بأنه إذا كان المأمون زاهداً في الخلافة إلى الحد الذي يتنازل عنها، فلماذا سفك دم أخيه ودماء عشرات الألوف من البشر في حرب ضروس من أجل الوصول إليها؟
ولهذا نجد أن المأمون عندما مضت الفترة الحرجة وتأمنت له سبل الحفاظ على الخلافة سعى مباشرة للخلاص من الفضل بن سهل خوفاً من تنامي نفوذه، وتخلص من الإمام الرضا(عليه السلام) عبر دس السم له، وبهذا الفعل هدأ من فورة العباسيين في بغداد ضده بسبب ولاية العهد التي أعطاها للإمام(عليه السلام).
والذي نسجله للإمام الرضا(عليه السلام) هو وقوفه إلى جانب الحق مدافعاً عنه وكان في ذلك صادقاً مع ربه وتكليفه، ولم تستطع مغريات الخلافة أن تزيحه مقدار أنملة عن الصراط الحق، وسجل بذلك موقفاً رائعاً يحتذى به لكل ثائر مخلص لا يبيع إيمانه ومبادءه بسبب العروض المغرية التي قد يسقط عندها الكثير من أدعياء الإصلاح كما حدث ذلك عبر التاريخ الإسلامي الطويل.
فالسلام على الرضا(عليه السلام) يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.
والحمد لله رب العالمين