الصفحة الرئيسية
الولاية بين النص والإنتخاب
- 15 شباط/فبراير 2014
- الزيارات: 3346
إنقسم المسلمون بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ربّه راضياً مرضياً إلى فريقين بالنسبة إلى مسألة الولاية فبعضهم قال إنّ الولاية إنّما تكون بالنص والتبعية للولي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قول الشيعة أتباع مذهب أهل البيت( عليهم السلام) وبعضهم ذهب إلى أنّ ذلك إلى الأمة وهي بيدها أمر انتخاب وليها وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينص على أحدٍ من بعده.
وكان هذا الانقسام هو الأساس والأول في حياة الأمة الإسلامية والذي فتح الباب واسعاً أمام كلّ الإختلافات المذهبية والفقهية في المراحل اللاحقة.
والذي يعنينا في هذا المقام هو بيان الفوارق بين نظريتي النص والإنتخاب على المستويين النظري والعملي في حياة الأمة تاركين الحكم النهائي لما بعد إبراز هذه الفوارق بتجرد وموضوعية .
ويمكن القول بنحوٍ عام إنّ الفوارق بين النظريتين حول الولاية كثيرة، ومن أهمها الفوارق العقائدية والسياسية وسنتكلم عن كلّ واحدٍ من هذه الأمور بالتفصيل المتناسب مع حجمه وتأثيره في مسيرة الأمة عبر تاريخها القديم والحديث.
أولآً- الفوارق العقائدية:يعتبر القائلون بنظرية النص أنّ الأمة لم يكن من حقّها بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أن تختار بنفسها قيادتها وولي أمرها، بل كان عليها تبعاً للأدلة الثابتة أن تقبل بحكم الله وبيان نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) والتسليم لولاية الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الذي نصّبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمرٍ من الله وفق أمره في قوله تعالى: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربّك...} التي عنت تنصيب علي ( عليه السلام) ولياً على المسلمين وبهذه الولاية أكمل الله الدين وأتمّ النعمة وارتضى للمسلمين الإسلام ديناً ومنهاجاً يسلكون في الحياة الدنيا.
ويستدلّ القائلون بنظرية النص بأنّ الروايات الواردة في تحديد الأولياء بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرة ومتنوعة اللسان، فبعضها يحدّد العدد،وبعضها يحدّد الأسماء بعينها بدء من أمير المؤمنين( عليه السلام) وإنتهاءً بالإمام المهدي"عج"وهو الولي الثاني عشر والاخير.
وبالجملة فالقائلون بنظرية النص لا تعوزهم الأدلة على ذلك فهي كثيرة ومعترف بها من جانب أكثر فقهاء المذاهب الإسلامية المعروفة.
وأمّا القائلون بنظرية الإنتخاب فقد قالوا بأنّ الأمة لا حاجة بها إلى أن ينتخب الله ورسوله ولياً لها، بل هي قادرة على أن تمارس حق الإنتخاب هذا بنفسها،لأنّها رشيدة وتملك الوعي والرشد الكافيين لتمارس هذه العملية ويقرّون بأصل مبدأ الولاية التي تتولّى أمور المسلمين بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا أنّهم يرفضون مبدأ التعيين، ولهذا أول فريق من المدافعين عن نظرية الإنتخاب الأحاديث الثابتة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لحديث الغدير( من كنت مولاه فهذا علي مولاه) بأنّه عبارة عن الولاية بمعنى النصرة والمحبة لا بمعنى القيادة وتدبير الأمور وتوليها.
وأمّا عن طريقة الإنتخاب للخليفة بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد اختلف القائلون بهذة النظرية اختلافاً كبيراً، فتارة يقولون أنّ البيعة هي الطريق للإنتخاب وتارةً بأنّ الوصية هي الطريق للإنتخاب وثالثة بأنّ الشورى بين المؤهلين أو بعضهم هي الطريق للإنتخاب ولم يتوصل القائلون بهذه النظرية إلى اتفاق واضح على طريقٍ معين لانتخاب ولي أمر المسلمين، وإنّما ذهبوا إلى مشروعية كلّ تلك الطرق،لأنّ النقاش في مشروعية واحدٍ منها يؤدي إلى إبطال خلافة واحدٍ من الخلفاء الثلاثة الأوائل بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنّهم اعترفوا بشرعية خلافة كلّ واحدٍ من هؤلاء ولم يناقش أحدٌ منهم في خلافة أيٍ منهم.
ثانياً- الفوارق الفقهية:وهنا نجد الفوارق كثيرة ومتشعّبة ومتنوّعة حتى أنّها أدّت إلى وجود مذاهب فقهية كثيرة ومن أهمها وأشهرها حتى الآن المذاهب الخمسة المعروفة وهي التالية ( الجعفري، الشافعي، الحنبلي، المالكي، والحنفي) ومذهبان عرفا بعض الشهرة في بعض العصور الإسلامية المتقدمة ثمّ اندثرا وهما ( مذهبا الأوزاعي والظاهريين).
ونرى أنّ كلّ مذهبٍ من هذه المذاهب له آراؤه الفقهية بلحاظ المسائل التي لم يرد فيها نصوص واضحة وجلية في القرآن أو سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويمكن تحديد الفوارق الفقهية بما يلي:
أ – أنّ القائلين بنظرية النص اعتبروا أنّ زمن التشريع استمر مع الأئمة ( عليهم السلام) وأنّهم ينوبون عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغ الأحكام وبيانها للمسلمين بينما القائلون بنظرية الإنتخاب اعتبروا أنّ زمن التشريع قد انتهى بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورحيله إلى ربّه عزّ وجلّ.
ب – وقوف القائلين بنظرية النص عند استنباط الأحكام على ما ورد من نصوص تتضمن نفس الأحكام أو القواعد الكلية التي يصح الإستناد إليها لاستنباط تطبيقاتها على مستوى التفاصيل والموضوعات التي استجدّت في حياة الأمة بعد زمان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة ( عليهم السلام) بينما ذهب القائلون بنظرية الإنتخاب إلى اعتماد الكثير من الأدلة لاستنباط الأحكام ترقى إلى خمس عشرة طريقة لاستنباط الأحكام من أدلتها، ومن أهمها القياس والإستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة وغيرها،ونرى هنا أنّ أئمة أهل البيت ( عليهم السلام) قد حاربوا هذه الوسائل واعتبروها غير كافية بل غير صالحة للإستناد إليها لمعرفة الأحكام التي يجب على المسلمين أن يطبّقوها كما ورد في الرد على القياس ( إنّ دين الله لا يصاب بالعقول) و( السنة إذا قيست محق الدين) و( إنّ أول من قاس إبليس إذ قال" خلقتني من نارٍ وخلقته من طين").
والذي أدّى بالقائلين بنظرية الإنتخاب إلى اعتماد تلك الوسائل هو أنّ ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في زمن نبوته من أدلة وقواعد عامة إنّما عالج ما هو قائم وموجود في دولة الإسلام الأولى في المدينة في شبه الجزيرة العربية حيث لم تكن الدولة متوسّعة إلى الحد الذي يضطرّ فيه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيان كلّ الأحكام لعدم الإبتلاء بكلّ موضوعاتها وبما أنّهم اعتبروا أنّ زمن التشريع قد انتهى برحيل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وبما أنّ موارد الإبتلاء كثيرة ولا يوجد عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا بالعنوان و بالوصف ما يشير إلى حكم تلك الموارد محل الإبتلاء فقد اضطرّوا إلى ابتداع تلك الوسائل لاستنباط الأحكام المحتاجين إليها.
بينما نرى أنّ القائلين بنظرية النص والتعيين لم يعانوا من هذه المشكلة قديماً ولا حديثاً لأنّهم اعتبروا الأئمة ( عليهم السلام) هم الإستمرار الطبيعي لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّهم المشرعون للأحكام من بعده، ولهذا نرى أنّ فقهاء هذه النظرية يستندون إلى إدلة واقعية بحسب العنوان الخاص أو العام للواقعة من دون عسرٍ أو اضطرار إلى الإستناد إلى ما لم تثبت مشروعيته من الأدلة العامة في هذا المجال.
ثالثاً- الفوارق السياسية: وفي هذا المجال تتجلّى الفوارق وتظهر بوضوحٍ لا مزيد عليه، إذ في الوقت الذي اعتبر فيه القائلون بنظرية النص والتعيين أنّ كلّ السلالات والسلاطين الذين حكموا الأمة الإسلامية طوال القرون لم يكونوا ذوي شرعية في هيمنتهم وتسلّطهم على أمور المسلمين، اضطرّ القائلون بنظرية الإنتخاب إلى الإقرار بشرعية كلّ تلك السلطات ولهذا استنبطوا الأحكام الفقهية التي تجيز للمسلمين وتحرّم عليهم الإنتفاض على تلك السلطات الحاكمة حتى ولو انحرفت ومارست الظلم ضدّ المسلمين كما هو مقتضى بعض الفتاوى من أصحاب المذاهب الأربعة المعروفة عند أهل نظرية الإنتخاب.
وسبب ذهاب أهل نظرية النص إلى عدم شرعية كلّ تلك السلطات هو أنّ منصب الحاكمية الذي يتضمّن الولاية والسلطة على الدماء والأموال والأعراض وقضايا المجتمع الإسلامي العامة وشؤون الحرب والسلم لا بدّ له من أخذ مشروعيته من الله ورسالته، وهذا لا يتمّ إلّا عبر بيان المتولي للأمور بالإسم أو عبر الإتصاف بما فرضه الإسلام من شروط للحاكم وهي" الفقاهة والعدالة ، والكفاءة في الإدارة" وهذا المعنى عند أهل نظرية النص لم يتحقق في أغلب الذين حكموا مسيرة الأمة الإسلامية منذ رحيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى عصرنا الحاضر ما عدا فترة حكم أمير المؤمنين( عليه السلام)الخليفة الرابع كما جرت الأمور ، وفترة حكم الإمام الحسن( عليه السلام)القصيرة قبل تنازله عن الحكم لمعاوية وإقرار الصلح معه، ولهذا شكل القائلون بالنص وأتباع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)خط المعارضة على الدوام لكلّ السلطات الحاكمة ونالهم من جراء هذا الموقف المبدئي والرسالي الأذى الكثير من الحكام الأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين حتى زمن تفكّك الدولة الإسلامية الموحّدة وانحلال مقولة الخلافة، تعرّض أتباع مذهب أهل البيت ( عليهم السلام) وما يزالون لمضايقات كثيرة بسبب هذا المبدأ الصارم الذي اتّبعوه ولهذا نجد أنّ الأئمة ( عليهم السلام) شرّعوا لأتباعهم "التقية"لكي يستندوا إليها لحماية مذهبهم وأرواحهم في المحيط الإسلامي الذي لا يؤمن بنظرية النص،ولكن لم يبيحوا لشيعتهم الدخول في خدمة السلطة الظالمة أياً كانت ما لم تكن المنافع العائدة للملتزمين بخط نظرية النص جلية وواضحة وأظهر من المفاسد المترتبة على الدخول في خدمة سلطات الجور والإنحراف .
بينما القائلون بنظرية الإنتخاب لم يكن أمامهم من وسيلة تمنعهم من الإقرار والإعتراف بمشروعية كلّ السلطات والسلالات التي حكمت مسيرة المسلمين ، بل أطلقوا عليهم ألقاباً إسلامية مثل"أمير المؤمنين" و"خليفة المسلمين" وأطلقوا على الملتزمين بنظرية الإنتخاب لقب( أهل السنة والجماعة) وذلك في إشعار واضح على أنّ من ليس مع هؤلاء مخالف لرأي جماعة المسلمين ومن هنا أطلقوا على المؤمنين بنظرية النص لقب( الروافض)الذي كان سمة للشيعة عبر التاريخ الإسلامي الطويل.
بل وصل الإعتراف بشرعية السلطات الحاكمة أن صار علماء الدين المسلمون خداماً عند الحكام يبرّرون لهم كلّ مخالفاتهم وانحرافاتهم وتوجّهاتهم ويحاولون صيغها بالصيغة الإسلامية عبر تحريف كلام الله عن مواضعه ليكون في خدمة الحكام والأمراء الذين تسلّطوا على الأمة ومقدراتها من غير وجه حقٍ في ذلك.
إنّ هذه الفوارق الأساسية قد نتج عنها عبر تاريخنا الإسلامي المديد الكثير من سفك الدماء وإهدار طاقات الأمة وتشتّت قواها وتمزيق وحدتها هذه الفوارق هي التي سمحت للكثير من الطامحين بغير وجه حق وللكثير من المنحرفين بأن يصلوا إلى أرفع مقام معنوي في هذا الدين وهو مقام معنوي في هذا الدين وهو مقام"حاكمية المسلمين" التي تعني في عين الوقت "الدفاع عن الدين" مع أنّ هؤلاء الذين تسلّطوا على حكم المسلمين لم يهدفوا إلّا إلى إرضاء شهواتهم وإشباع شهواتهم والإستجابة لرغباتهم.
ومن هنا فإنّنا نعتبر أنّ النقطة الأساس التي سمحت بظهور هذا التنوّع العقائدي والمذهبي الفقهي والسياسي إنّما كانت "الولاية" التي لم يسلم المسلمون كلّهم لصاحبها الأساسي والأول الذي عيّنه النبي ( عليه السلام) وفق الإختيار الإلهي عنيت به أمير المؤمنين( عليه السلام) الذي لو سمح له كلّ الذين عملوا على منعه من الوصول إلى الموقع الذي اختاره الله له، لما وصلت الأمة الإسلامية بكلّ تأكيد ويقين إلى ما هي عليه اليوم من ذلّة وصغار وتمزّق وتشتّت أمام الأعداء من كلّ الفئات والتوجّهات ، ولم يكونوا بهذا الخزي والعار والضعف أمام جرثومة الفساد إسرائيل الغاصبة للأرض والمشرّدة للإنسان والمدنّسة للقيم والمقدّسات وتتعالى على العرب والمسلمين وتريد أن تكون الآمر الناهي على بلادنا وعبادنا.
لهذا كلّه، نحن في مناسبة هذه الذكرى "عيد الغدير" نتوجّه بكلّ الصدق والمحبة والإخلاص إلى كلّ الفعاليات الإسلامية من كلّ المذاهب والإتّجاهات وندعوهم إلى تغليب الحوار العقلاني المبني على الأدلة والوقائع والوثائق التاريخية الصحيحة لتمحيص الحق من الباطل والسير خلف القناعات الواحدة الموحدة التي يمكن أن تكون خير معين وناصر للمسلمين في زمن هم أحوج ما يكونون فيه إلى الإستعانة بكل ما يمدّهم بالقوة والوحدة في مواجهة أوضاعهم العصبة والحرجة معاً حيث يتكالب الأعداء معاً وعلى رأسهم الشيطان "أمريكا"وربيبتها "إسرائيل" إلى تجييش العالم كلّه لمحاربة الإسلام كدين والمسلمين كأمة أراد لها الله العزّة والشرف والكرامة والإباء ويريد لها أعداؤها الإستسلام والخضوع والذلة.
إنّنا نتخذ من هذه المناسبة العظيمة فرصة لهذا النداء الذي نأمل أن يلقى صداه عند المسلمين جميعاً ليتنادوا فيما بينهم إلى تغليب التوجّهات الوحدوية على كلّ التوجّهات المنحرفة التي تريد إبقاء هذه الأمة ممزّقة ومشتّتة وضعيفة ومنهارة.
والحمد لله ربّ العالمين .